ثمرة طيّبة لزواج طيّب
أطيب الثمار لزواج ميمون؛ هي طفل سعيد معافى في روحه وجسده، وقد اعتنى الإسلام بهذه الثّمرة عناية كبيرة، منذ هي في عالم الغيب ذرّة، إلى أن تزرع في رحم الأم بذرة، إلى أن تنمو وتخرج إلى النّور ثمرة طيّبة؛ تنعم من جديد بمزيد من نعم الله؛ تتجلّى في ما سنّه لها من أحكام، وفيما فرضه على غارسيها من واجبات؛ تكفل بقاءها ونموّها، في جوّ إيمانيّ كريم، ومناخ صحّيّ سليم.
الطّفل لم يكن شيئًا مذكورًا
خلق الله الطّفل من عدم؛ إذ لم يكن شيئاً مذكورًا، يقول تعالى: (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) وفي هذه الآية تذكرة له، حين يبلغ أشدّه أن يعبد من أوجده، وأمدّه بالنّعم الّتي تحفظ وجوده، وأن يبرّ والديه اللّذين كانا السّبب المباشر في هذا الوجود، وفي بقائه.
وحتّى تؤتي هذه التّذكرة أكُلَها في قلبه وفكره، لا بدّ أن تصان حقوقه الّتي شرعها الله له، من قبل أن يكون شيئًا يُذكر، حتّى ينبت النّبات السّويّ الحسن منذ أوّل تكوينه، شأنه شأن البناء الّذي يقام على أساس من التّقوى؛ لا ينهار ولا يضعف ولا ينحرف؛ يقول تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ) (التوبة: 109).
ولئن كان الطّفل ما زال غائبًا عن ساحة الوجود؛ فإنّ خالقه الّذي لا يغيب، احتفى بمن سيخلق، وتكفّل به من قبل وجوده، وشرع له حقوقًا أوّليّة؛ تكون أساسًا تقوم عليه حياته، وتتحدّد به شخصيّته، وترتسم معه ملامحه الجسميّة والنفسيّة، وأهم تلك الحقوق الأوّليّة:
1. الزواج الشّرعي المعلن بين الأبوين
فبالزواج الّذي شرعه الله يحفظ الأنساب، ويفتخر الأبناء بانتسابهم إلى آبائهم، ولا يخفى ما في حفظ هذا الانتساب من أثر في صون كرامة الأبناء الإنسانيّة، واعتبارهم الذّاتيّ، واستقرارهم النّفسيّ.
وبالزّواج الّذي شرعه الله تنمو روح المودّة والرّحمة ما بين الزّوجين، ويجد كلٌّ منهما سكنه النّفسيّ في ظلّ الآخر، وتتأجّج في قلبيهما عاطفة الأبوّة والأمومة، وبسعادة يتعاونان معًا على بناء أسرة تنعم بالمحبّة والسّلام والاستقرار؛ يتربّى فيها جيل مؤمن يحمل في قلبه عزمة الإيمان، وفي نفسه روح الإسلام؛ بما يفيضان على الأبناء من حنان وعطف ورعاية كريمة؛ تسير بهم نحو حياة مستقرّة هانئة، ومستقبل فاضل بسّام.
2. التّوحيد العقائدي بين الأبوين
دعا الإسلام إلى التّوحيد العقائديّ بين الأبوين، فنهى بادئ ذي بدء عن زواج المسلم من المشركة، وزواج المسلمة من المشرك، للبون الشّاسع بين مبدأيهما وغايتيهما. يقول تعالى: (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) (البقرة: 221).
ولأنّ الزّواج سكينة ومودّة؛ فمن العسير جدًّا أن يلتقي هذان الطّرفان المتباعدان. ولا شكّ أنّ الطّفل الّذي يولد بين أبوين متنافرين في العقيدة، ومن ثمّ في السّلوك؛ سينشأ مشتّت الذّهن ضعيف الرأي، مريض النّفس.
وقد أباح الإسلام للمسلم الزّواج من الكتابيّة إن أمن معها على بيته وعقيدة أولاده، وإلّا وجب عليه أن يستبرئ لدينه، ويجتنّب هذا الأمر. ويحرم على المسلمة الزّواج من الكتابيّ؛ لأنّ الرّجل هو ربّ البيت، والقوّام على الأمّ، والمسؤول عنها وعن الأولاد.
وما أكثر ما نرى اليوم من زواج الغربيّات على أنّهنّ كتابيّات، وهنّ لسن على شيء من الكتاب ولا الإيمان ولا الخلق، ومثل هذا الزّواج يحرّم في بلد قلّ مسلموه؛ لأنّ فيه إضرارًا ببنات المسلمين، معَ حرمة زواجهنّ من غير المسلمين. وقد يدفع ذلك ببعضهنّ إلى الزّواج من غربيّين وكتابيّين ومشركين، بعد أن يعلنوا إسلامهم كتقليد لإثبات الزّواج وإتمامه، وما تلبث مثل هذه الزّيجات أن تفشل، وتنفصم عراها عن أبناء قد حرموا أمن الإيمان، وصفاء الفكر، ونقاء الوجدان.
3. اختيار الزّوجة والأمّ الصّالحة في الحجر الصّالح، واختيار المرأة وأهلها الزّوج والأب الصّالح
أرشد الإسلام كلّ راغب في الزّواج أن ينتقي المرأة الّتي ستكون أمّاً لولده على أساس الدّين والصّلاح، فهي الأجدر بمعرفة حقّ الله عليها في زوجها وأولادها، فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: “تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدّين تربت يداك” رواه البخاري ومسلم وغيرهما. كما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: “الدّنيا متاع وخير متاعها المرأة الصّالحة” رواه مسلم.
وبالمقابل أرشد الإسلام أولياء المخطوبة أن ينتقوا الخاطب ذي الدّين والخلق الكريم؛ ليقوم بواجبه الأكمل في رعاية أسرته وتربية أولاده. روى التّرمذي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”.
وإن لصلاح الأبوين أثرًا كبيرًا في نفس الطفل حيث ينشأ على طاعة الله ومحبّته وهذا ما أكّدته الآية الكريمة: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران: 34).
وقد بيّن الله تعالى في كتابه الكريم أثر صلاح الآباء في دنيا الأبناء وأُخراهم؛ فهذا العبد الصالح يبني جدارًا متبرّعًا، فيسأله موسى -عليه السلام- عن سبب عدم أخذ الأجرة، فيأتي جوابه: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (الكهف: 82). ويروي ابن كثير في تفسيره أنّ الأب هنا هو الجدّ السّابع، نفع الله بصلاحه الحفيدين.
وإنّ الملائكة لتدعو للمؤمن الصّالح ووالديه وذرّيته: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (غافر: 8). فإذا ما نشأت الذّريّة على طاعة الله -عز وجل- والدّعوة لدينه، كان الّلقاء بين الآباء والأبناء في جنّات الخلود، كما أخبر سبحانه فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21).
قال ابن عباس -رضي الله عنه- في هذه الآية الكريمة: “الله عز وجل يرفع ذريّة المؤمن معه في درجته، وإن كانوا دونه في العمل”. وروى البيهقيّ في كتاب الاعتقاد بسنده إلى ابن عبّاس -رضي الله عنه- أنّه لمّا نزل: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) (النجم: 39) أنزل الله -عز وجل- بعدها: (أَلْحَقْنَا بهم ذرّيَّاتِهِمْ) قال: “يعني بإيمان، فأدخل الله -عز وجل- الأبناء الجنّة بصلاح الآباء”، ولهذا قال أحد الصّالحين: “يا بنيّ! إنّي لأستكثر من الصّلاة من أجلك.”
وها هو سهل التّستري يتعهّد ولده ولمّا يزل في صلبه فيقول: إنّي لأعهد الميثاق الّذي أخذه الله تعالى عليّ في عالم الذّر، وإنّي لأرعى أولادي من هذا الوقت، إلى أن يخرجهم الله -عز وجل- إلى عالم الشّهود والظّهور.
وقال سعيد بن المسيّب: إنّي لأصلّي فأذكر ولدي؛ فأزيد في صلاتي، وقد روي أنّ الله -عز وجل- يحفظ لصالحٍ في سبعةٍ من ذريته، وعلى هذا يدل قوله تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (الأعراف: 196).
والإسلام؛ إذ يحضّ راغبي الزّواج أن يتخيّروا زوجاتهم على أساس الدّين والصّلاح والخلق، فإنّه يبحث عن جذور له في بيئة الأبوين؛ تمتّن أركانه وتضمن استمرار أثره في الأبناء؛ فقد روي عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قوله: “تزوّجوا في الحجر الصّالح فإنّ العرق دسّاس” رواه ابن عدي في الكامل مرفوعًا. وقوله: (تخيّروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء) رواه ابن ماجة والدار قطني والحاكم عن عائشة مرفوعًا.
وتحقيقًا لهذا الاختيار أجاب عمر بن الخطّاب سائلًا له عن حقّ الولد على الوالد، بقوله:
أن ينتقي أمّه، ويحسن اسمه، ويعلّمه القرآن.
وهذا الانتقاء الّذي وجّه إليه الإسلام يعدّ من أعظم الحقائق العلميّة والنّظريّات التّربويّة الحديثة؛ فعلم الوراثة أثبت أنّ الطّفل يكتسب صفات أبويه الخلقيّة والجسميّة والعلميّة منذ بدء تكوينه. وعندما يجتمع في الأولاد عاملا الوراثة الصّالحة، والتّربية الفاضلة؛ فإنّهم يصلون إلى ما يصبو إليه والداهم في إنشاء ذريّة صالحة، وسلالة طاهرة، وأبناء مؤمنين.
4. اختيار الزّوجة الودود الولود
وحرصًا على تحقيق غاية الزّوجين في بناء حياة زوجيّة سعيدة ومثمرة، أمر الرّجل بالزّواج من المرأة الودود الولود، الّتي تنشر السّرور والوداد؛ بالبسمة الحانية والكلمة العذبة، والولود الّتي منحها الله العافية والقدرة على تمتين عرى هذا الوداد؛ بما تنجب من ذرّيّة طيّبة.
يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “تزوّجوا الودود الولود فإنّي مكاثرٌ بكم الأمم”. رواه أبو داود والحاكم والنّسائي. ولا يخفى ما في تقديم صفة الودود من حكمة بالغة. فالوداد أساس في كلّ حياة زوجيّة سعيدة؛ يحيا في ظلالها أبناء سعداء. يقول الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21).
وقد بين العلم الحديث ما للمودّة بين الزّوجين من أثر على سلامة الإنجاب، وصحّة المولود النفسيّة والجسديّة الّتي يكسبها من الأبوين المتوادّين المتفاهمين.
وعلى المولود له ما دام حريصًا على كثرة النّسل، أن يؤدّي ما يترتّب عليه من واجبات تجاه أسرته؛ نفقة وتربية وتعليمًا، وإلّا كان مسؤولًا عند الله سبحانه عمّا فرّط وقصر، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل: “إنّ الله سائل كلّ راع عمّا استرعاه، حفظ أم ضيّع، حتّى يسأل الرّجل عن أهل بيته” رواه ابن حبان.
وغالبًا ما تكون الودود الولود بكرًا أنست بزوجها وألفته؛ لأنّه الأوّل في حياتها؛ فنما بينهما الوداد، وأنجبت له الأولاد؛ لما تتمتع به من حيوية وشباب؛ لم يضوهما زواج سابق. لذلك فضّل الإسلام زواج البكر، وقد ألمح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الحكم في قوله: “عليكم بالأبكار فإنّهن أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأقلُّ خِبّا، وأرضى باليسير” رواه ابن ماجة والبيهقي.
وقد دلّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من لم يرزق بولدٍ إلى علاج نبويّ، بجانب العلاج الدوائي؛ يتمثّل بالاستغفار والصّدقة، روى أبو حنيفة في مسنده عن جابر بن عبد الله: أنّه جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله فقال: يا رسول الله! ما رزقت ولدًا قط، ولا ولد لي، قال: “فأين أنت من كثرة الاستغفار، وكثرة الصّدقة؛ تُرزق بها؟” قال: فكان الرّجل يكثر الصدقة، ويكثر الاستغفار، قال جابر: فولد له تسعة ذكور.
ولا عجب فالله -عز وجل- قرن بين الاستغفار والرّزق بالبنين في قوله على لسان نوح -عليه السّلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) (نوح: 10-12).
وقد ورد عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قوله: “من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كلّ غمٍّ فرجًا، ومن كلّ ضيقٍ مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب” رواه أحمد والحاكم عن ابن عباس.
5. الاغتراب في الزواج
ومن إرشادات الإسلام الحكيمة في اختيار الزّوجة تفضيل المرأة بعيدة النّسب على ذوات النّسب والقرابة؛ حرصًا على نجابة الأبناء وسلامتهم من الأمراض. روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا تنكحوا القرابة فإنّ الولد يُخلق ضاويًا” يعني: يُخلق ضعيف الجسم، بليد الذّكاء.
ولا يخفى علينا ما في الاغتراب في الزّواج من فوائد اجتماعيّة؛ تتمثّل في توسيع دائرة التّعارف الأسريّة، وتمتين الرّوابط الاجتماعيّة. ولقد أثبت علم الوراثة أنّ زواج الأقرباء يضعف النّسل جسميًّا وفكريًّا، ويورث الأولاد صفاتٍ خُلقيّة ذميمة، وعادات اجتماعيّة سيّئة. فهذه الحقيقة قرّرها رسول الإسلام قبل أن يأتي العلم ليقول كلمته فيها؛ معترفًا بصدق نبوَّته -صلى الله عليه وسلم-، وملقيًا الضّوء على معجزة نبويّة باهرة.
6. طلب الولد، والدّعاء عند اللّقاء بين الأبوين رجاء الولد الصّالح
الزّواج رباط قدسيٌّ؛ شرعه الخالق لتحقيق سنّته في خلقه، ولأنّه لقاء على عين الله وتحت رعايته؛ كان لا بدّ لطرفيه أن يذكرا من هيّأ له وأوجده، ويرجوانه فيه أن يرزقهما الولد الصّالح الّذي هو الغاية الأسمى لهذا اللّقاء.
وقد شرع الله تعالى الدّعاء وطلب الولد، وممّا وصف به عباده أنّهم يطلبون الأزواج الصّالحين، ويرتجون بهم الذريّة الصّالحة؛ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74).
ولعلّ قائلًا يقول: مادام اختيار الأبوين إنّما يكون على أساس الصّلاح؛ فلا بدّ أن ينشأ الأبناء على الطّاعة والانقياد لله. وهنا علينا إدراك أنّنا قد نلاحظ خروجًا عن القاعدة؛ لحكمة يعلمها الله تعالى، ولتبقى القلوب حذرة يقظة متنبّهة؛ تتضرّع إليه بطلب الولد الصّالح؛ مهتدية بهدي الأنبياء والمرسلين، الصّالحين المصلحين (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران: 38).
(كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 1-6). وقال تعالى على لسان ابراهيم: (رَبِّ هَبْ لي مِنَ الصَّالِحينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَليمٍ) (الصافات: 100-101).
وخصّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موقف اللّقاء بين الزّوجين؛ بدعاء حدّد صيغته وألفاظه؛ تذكيرًا لهما بالغاية الّتي ستجمع بين اسميهما، ونسبيهما، وكيانيهما، إلى آخر العمر.
وصونًا لهذه الغاية منذ بدء تكوينها، وحرصًا على أن تُصنع على عين الله منذ نشأتها الأولى بعيدًا عن نزغات الشّيطان؛ عصيّ الرّحمن وعدوّ الإنسان؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلّمًا صحبه ومرشدًا مَن بعدهم: “لو أنّ أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله، اللّهمّ جنّبنا الشّيطان، وجنّب الشّيطان ما رُزقنا، فقضي ينهما ولد، لم يضرّه الشّيطان إن شاء الله” قال عبد الرزاق عن الحسن معقّبًا على معنى ما ورد في الحديث: فكان يرجى إن حملت، أو تلقّت أن يكون ولدًا صالحًا.
7. تحريم التّلقيح الصّناعي بنطفة أجنبي، وتحريم تأجير الأرحام
وإذا كان الإسلام قد حمى نسب الطّفل قبل خلقه؛ بتحريم الزّنا, وبتحريم التّبنّي بعد ولادته -كما سنبيّن في المقال القادم-، فقد حرّم ما يعرف اليوم بالتّلقيح الصّناعي إذا كان بغير ماء الزّوج؛ لأنّه يلتقي مع الزّنا في إطار واحد: جوهرهما واحد ونتيجتهما واحدة؛ وهي وضع ماء رجل قصدًا في حرث ليس بينه وبين الرّجل رباط زوجيّة شرعيّ؛ يظلّه القانون الطّبيعي والشّريعة السّماويّة، بل هو جريمة منكرة وإثم كبير؛ تنبو عنه الشّرائع والقوانين, وينبو عنه المستوى الإنسانيّ الفاضل، وينزلق به إلى المستوى الحيواني الّذي لا شعور للأفراد فيه برباط المجتمعات الكريمة.
كما يلتقي هذا النّوع من التّلقيح مع التّبنّي، في إدخال عنصر غريب في النّسب؛ لا يخفى ما فيه من ضرر وآثار سلبيّة على الطّفل والمجتمع.
كما حرّم الإسلام كلّ ما يمكن أن ينفي أمومة الأمّ، ويشوّه حقيقتها؛ كتأجير الأرحام الّذي انتشر في العالم مؤخّرًا، حيث تلجأ المرأة الّتي فقدت رحمها، أو ضعف رحمها عن الحمل، إلى استئجار رحم امرأة أخرى؛ تحقن فيه البيضة الملقّحة للمرأة الأولى وزوجها، ويكون دور المرأة الثّانية احتضان الجنين تسعة أشهر، ليجيء إلى الدّنيا مولود تتنازعه أمّان، أمّ غرست فلم تحمل؛ فاقدة لمشاعر الأمومة لا يمثّل لها وجود هذا الوليد إلّا إثباتًا لذاتها، وتعزيزًا لمكانتها، وتعويضًا لنقص امتحنها الله به فلم تصبر. وأمّ حملت تسعة أشهر وعانت آلام الحمل ونمت بينها وبين الجنين مشاعر؛ تشدّها إليه يومًا بعد يوم، تجاه ولد ليس منها فإذا حان موعد لقائها به، تأتي الأولى لتأخذ المولود حسب العقد؛ فتجد أنّ كلام اللّيل يمحوه النّهار، وأنّ المعاناة والآلام تنفي مقالة اللّسان، وأنّ مشاعر الوجدان تغيّر رغبات الإنسان، وكيف لا والمرضع الّتي ترضع الطّفل خمس رضعات مشبعات تغدو له أمًّا، فكيف بالّتي احتوته في أحشائها؛ يطعم طعامها، ويشرب شرابها، ويتأثّر بأحوالها. وحينها لن يصلح القانون ما أفسد البشر.
وقد دلّت إحصائيّات عالميّة على أنّه لم تسلم عمليّة تأجير أرحام من المشاكل الكثيرة، وأحيانًا الجرائم، بل إنّ مشاكلها -حسب تلك الإحصائيّات- كانت أكثر فداحة من تلك الّتي تنشأ عن التّلقيح الصّناعيّ بماء الأجنبيّ.
Why there is no buttons to share the article on Facebook or Whatsapp , that is not good