كتاب صفوة التفاسير.. وجهد الشيخ محمد علي الصابوني فيه
ها قد شهدنا مع مَن شهدوا، وأمدَّ الله في أعمارنا لنطلع على أثر دعوة رجُل صالح تتحقق. رجُل خير اسمه الشيخ محمد علي الصابوني، قد ألَّف فيما ألَّف كتابًا من أفضل الكُتُب وأبرعها، هو تفسير صفوة التفاسير.
وذيَّل تقديمَه له بقوله: “واللهَ -تعالى- أسألُ أنْ يُسدِّد خُطاي، ويجزل لي الثواب يوم المآب. فما عملتُ إلا أملاً بنَيْلِ رِضاه، راجيًا منه أنْ يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، ويُبقيَه ذُخرًا لي يوم الدين. وأرجو مِمَّن قرأ منه فاستفاد أنْ يخصَّني بدعوة صالحة تنفعني يوم المَعاد. وصلَّى اللهُ على سيدنا مُحمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا”.
وها قد شهدنا دعوة الخير وأثر الخير في آلاف مُؤلَّفة تخرج من كلِّ فجّ لتودِّع الشيخ الجليل إلى مثواه الأخير. حشودًا رأيناها ما جمعها إلا جامعُ الخير، وأثرُ الدعاء، وإخلاصُ العمل؛ حشودًا كلُّ واحدٍ فيهم يحاول أنْ يصل إلى نعش الشيخ ليحمله بيده ويودعه بلسانه. خرجت هذه الحشود على أرض غير أرضه، ومن مسكن غير مسكنه، ومن جنس غير جنسه، فلا يجمعها بالمُسجَّى على النعش إلا رضا الله الذي ابتغاه في دُعائه. والله القائل (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) -آل عمران 15-، (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) -المائدة 119-.
وإذا كان الشيخ قد رجا مِمَّن قرأ تفسيره أنْ يخصَّه بدعوة تنفعه يوم المعاد؛ فهيَّا بنا جميعًا نتوجَّه إلى دُرَّة ما كتب “صفوة التفاسير” لنقدِّمه إلى مَن لا يعرفه، ونوضِّح شأنه إلى مَن عرفه. لتكون دعوةً إلى الكتاب وقراءته، وتكون حثًّا لكلّ قارئ على الدعاء للشيخ الذي فارقنا منذ أيام معدودة. وسأكون مُختصرًا -ما أمكن- في التعريف بهذا العمل الجليل، أحاول أنْ أقف على قيمته وجُهد كاتبه فيه، وعلى منهجه خاصةً حتى يستطيع كلُّ مُسلم استخدامه -كُليًّا أو متى احتاج إليه- بصورة صحيحة واضحة.
ما هو تفسير صفوة التفاسير؟
تفسير صفوة التفاسير محاولة تفسيريَّة للقرآن الكريم صنعها الشيخ “محمد علي الصابوني” في سبعينات القرن العشرين. التفسير مُكوَّن من ثلاثة أجزاء؛ بدأ أوَّله بمقدمة قصيرة جدًّا وموجزة، ثمَّ طفق في تفسير سورة “الفاتحة”، وانتهى بسورة “يونس”. وبدأ الجزء الثاني بسورة “هود”، وانتهى بسورة “فاطر”. وبدأ الجزء الثالث بسورة “ياسين”، وانتهى بنهاية القرآن الكريم.
ومُتوسِّط عدد صفحات الجُزء ستمائة صفحة من القطع الكبير. وقد أثنى عليه العديد من عُلماء العصر المشهود لهم بالكفاءة والمقدرة؛ مثل شيخ الأزهر السابق د/ عبد الحليم محمود، والشيخ “محمد الغزالي”. ويعدُّ صفوة التفاسير من أهمّ وأفضل المحاولات الاجتهاديَّة في سياق تفسير القرآن في العصر الحديث.
هدف الكتاب وظروف تأليفه
يشرح الشيخ في مقدمته أنَّ هدفه هو صنع محاولة تفسيريَّة تتلاءم مع رُوح العصر؛ حيث وجد الناس قد ضاقت بهم دائرة المعايش، وصاروا في شغل عن مُطالعة كتب التفسير القديمة المُطوَّلة، مع ضرورة وجود تفسير يقتنيه المسلم عمومًا ليجد فيه بُغيته وطلبه حينما يغمُضُ عليه معنى من معاني القرآن، أو يريد أنْ يفهم موضعًا من مواضعه، أو كلمة من كلماته. وكانت حاجة كلّ مُسلم، وكذلك ظرف العصر الدَّافعَيْنِ للشيخ لتأليفه.
وقد استعان شيخنا بمُجاورته لبيت الله الحرام؛ حيث كان أستاذًا في كلية الشريعة والدراسات الإسلاميَّة بمكة المكرَّمة ليعمل على إنتاج هذا الكتاب. ولمُجاورة الكعبة دافع لا يمكن تقديره إلا بالتجربة الفعليَّة. وإنْ لمْ نجرِّب فكيف هو الحال بمَن يطالع بيت الله بهيبته وجلاله والمُسلمون يؤمُّونه ليل نهار، ورياح الطاعة والطمأنينة تدركك أينما كنتَ؟
ذلك التأهيل النفسيّ الذي يبعثه مكان التأليف، التقى مع رغبة مُخلصة في خدمة هذا الدين من مُسلم وَرِع، ومع تأهيل وقدرة كافيَيْن للإقدام على هذه التجربة. وباجتماع هذه العناصر خرج التفسير بعد خمس سنوات قضاها المؤلف مُواصِلاً الليل بالنهار في إدراك غايته. ومن علامات قبولِ الله الجهدَ هذا القبولُ الواسعُ من أهل العلم، ومن أهل الحقّ، وهذا الانتشار في الأرض لكتابه. وهذه نفحات الله هو مُنعِمها لا تأتي للعبد بجهده، بل من الله بفضله.
أهميَّة كتاب صفوة التفاسير
لا تتمثل أهميَّة هذا الكتاب في أنَّها محاولة تفسيريَّة -لا أقصد بكلمة مُحاولة أنَّه ليس تفسيرًا، لكنَّه الوصف العلميّ الدقيق وحسب- مُعاصرة من مُتخصِّص قادر مُتمكِّن في هذا الباب. فهذا العنصر تكرَّر في غيرها من المحاولات؛ لذا نأتي على ما يخصُّها فهي محاولة تفسيريَّة مُستدعاةٌ من العصر وحاجته، مُستدعِيةٌ لاهتمام أهل العصر بما فيها من خصائص. وهذه الخصيصة لا تتوافر لكُلّ التجارب التفسيريَّة الحديثة.
كما أنَّها محاولة تفسيريَّة كاملة -بالنسبة للمُتلقِّي العموميّ وليس بالنسبة لذوي التخصُّص- أقصد هنا أنَّها لا تقتصر على جانب واحد مثل تفسير غوامض الكَلِم، أو تبيين بعض الجماليَّات القرآنيَّة، أو شرح معاني الآيات الغامضة خاصةً، أو استخلاص عِبَر الآيات. بل هي مُحاولة تفسيريَّة شاملة لكلّ ما يتوقعه المُسلم في كتاب تفسير.
كما أنَّها محاولة مُختصرة -ولهذا كلام وحده-. كما أنَّها مُحاولة مستقيمة معتمدة على أصول راسخة في علم التفسير، أيْ أنَّها ليست كالاتجاهات التي ينطبق عليها الوصفُ العلميُّ “تفسيراتٌ ضاَّلةٌ” -هذا الوصف علميّ كامل، مَوضوعيّ كامل وليس تقبيحًا- التي تنتشر الآن على ألسنة كلّ مَن أراد أنْ يدلو بدلوه في هذا العلم، واعتاد الوسط الإسلاميّ أن يُسمّي هذه المحاولات “تفسيرًا حداثيًّا” أو أو… -لا تنطبق هذه التسمية على كلّ المحاولات-. ولو ذهبتُ أعدِّد أهميته لطال الأمر على سياقنا.
خصائص تفسير صفوة التفاسير
إنَّ أوَّل ما يُقابل الناظِرَ في هذا التفسير من خصائص هو سهولة التفسير ويُسره؛ وهذا هدف رئيس من أهداف الشيخ في تفسيره، بل لعلَّه عُمدة أهدافه. والمقصود بخصيصة السهولة هُنا سهولة السياق العامّ للتفسير، وكذلك اختيار التفسير الأنسب للمُتلقي العامّ غير المُهتمّ بالتداخُلات العلميَّة في العمليَّة التفسيريَّة، وكذلك سهولة الألفاظ والتعابير التي سينقل من خلالها الشيخُ تفسيرَه للقارئ. وقد وُفِّق الشيخ أيَّما توفيق، ولمْ يترك صعبًا في تفسيره إلا صعبًا واحدًا أنْ تتصور أحدًا لم يفهم بعد أن يقرأه.
كتاب “صفوة التفاسير” يعتمد على مناهج علم التفسير التي تمَّ اختبارُها على مدى عُمر هذا العلم، ونالت ثقة الأولين والآخرين فيه. وكذا يلتزم بكُتُبه الرصينة المشهود لها، التي هي عُمَد العلم -من حيث التجارب التفسيريَّة العمليَّة التي ينسج عليها-. ورغم اعتماده على هذه المصادر إلا أنَّه لمْ يكنْ محض مُردِّد بل تعدَّى عمله إلى الاختيار والتمحيص فيما بينها، وكذلك التأليف المُباشر في أمور عنَّتْ له رأى التنبيه عليها. كذلك شمول التفسير لنواحٍ شتَّى -كما سيتضح في تحرِّي المنهج-. ولعلَّ جميع هذه العوامل يُوضِّح سبب تسمية الشيخ كتابه “صفوة التفاسير”، فهو في تسميته لمْ يكُن مادحًا لعمله، بل واصفًا إيَّاه.
قيمة الاختصار في التفسير، وتميُّز صفوة التفاسير به
قلتُ إنَّ أهمَّ ما يميز صفوة التفاسير هو كونه تفسيرًا مُختصرًا. وهنا يجب أنْ أوضح هذه الفكرة؛ فأقول -وبغض النظر عن معايير علميَّة أو حيثيَّات مُعمَّقة- من المُمكن تقسيم التفاسير المُعاصرة إلى ثلاثة أصناف: صنف مُوجز أشدّ الإيجاز لذا يكتفي فقط بتبيين معاني الألفاظ المُفردة الصعبة مثل كتاب “كلمات القرآن” للشيخ “حسنين مَخلوف”، وصنف آخر مُوسَّع ضخم كتفسير “التحرير والتنوير” للشيخ الجليل “الطاهر بن عاشور”. هذان الصنفان لكُلٍّ منهما ما يُميِّزه، ولكُلٍّ منهما إفادته واستهدافه لأغراض ولفئات من القارئين. لكن لا يتحقق في كلَيْهما إفادةُ العُموم -أيْ صلاحية التفسير لكُلّ أحدٍ-؛ فلا يمكن طرح “التحرير والتنوير” لمُسلم عاميّ تحت أيّ ظرف، ولا يُغني “كلمات القرآن” في التفسير إلا قليلاً.
وهُنا تأتي فرادة تجربة الشيخ الصابونيّ ليصنع صنفًا آخر -من المُمكن ضمُّ تفسير “السَّعديّ” لهذا الصنف- من التفاسير يمتلك كلّ ما في التفسير بالغ الاختصار ويكون مرجعًا إشاريًّا مُختصرًا للتفسيرات المُتوسِّعة -قديمة ومعاصرة-. هذا التفسير يسدُّ الحاجة العامَّة أو تلك الحاجة التي تظلُّ عند العاميّ وعند المُرتقي عن درجة العوام. فكلاهما يفيد منه إذا قرأه كاملاً، أو إذا تركه في مكتبته لحين احتياجه إلى تقصِّي موضع معين من التفسير. والعاميّ يجد فيه كفايته، والآخر يجد فيه معرفة العُجالة أو الرأي المُختار من بعد تمحيص الشيخ المُؤهَّل المُتخصِّص بين أقوال المُفسرين واتجاهاتهم. وبهذا يتضح لنا ما فعله الشيخ الصابوني في جُهده المَشكور هذا، وما أضافه إلى المكتبة التفسيريَّة المُعاصرة.
ولمَن قد يُقلِّل من إنجاز “الاختصار”، ويعتبر صناعة المُختصِر عملاً من الفئة الثالثة أو الرابعة من التأليف؛ أقول إنَّ هذا الرأي يُجانب الصواب بدرجة تُقارب التضاد. فالاختصار أحد أهمّ المهارات البحثيَّة والعِلميَّة، وأحد أصعب ما يمكن فعله، وهو -فنيًّا، أقصد في فنيَّات التخطيط الفكريّ والكتابة- صعب جدًّا. وليس مَن يعلم كمَن لا يعلم! لذا لا تُقلِّلْ من قيمة صناعة المُختصِر. أقصد في هذا كلِّه المُختصر الناجح الناجع المُؤسَّس، لا محض اختصار كتاب أو محتوى؛ وشتَّان ما بينهما!
منهج صفوة التفاسير العامّ
وهنا سأقتصر على أشياء ليست عميقة، بُغيةَ التسهيل وإدراك الفائدة للجميع. ولن أتعرَّض إلى أمور علميَّة مثل قضيَّة “صفوة التفاسير” بين علم التفسير وعلوم القرآن؛ فلن يتضح هذا الأمر إلا بمعرفة لمنظومة علوم القرآن الكريم وعِلم التفسير خصوصًا. وبالتالي سأتوجَّه هنا إلى تعريف بسيط بالمنهج الإجرائيّ الذي اتبعه الشيخ في صناعة هذا التفسير.
لكنْ بالعموم -وباختصار إشارةً للعارف- في المنهج العامّ اعتمد الشيخ على التفسير الجامع بين مُختلف الآليَّات التفسيريَّة: الشرعيَّة، العُرفيَّة، اللُّغويَّة. وقد فعَّل تفسير القرآن بالقرآن، ثمَّ بالسنة، ثمَّ بالآثار وأقوال الصحابة. لكنَّه في كلٍّ كان مُعتمدًا على غالب التراث التفسيريّ السابق عليه، مع إكثاره الاعتماد على تفسير القرطبيّ، وتفسير ابن حيَّان، ومُختصر تفسير ابن كثير، وتفسير الزمخشريّ. وقد أولى بعضَ المُحدَثيْنَ اهتمامًا مثل تفسير “في ظلال القرآن” للأستاذ “سيد قطب” الذي أولاه اهتمامًا واضحًا، بل أكثر من ذكره في مواضع، حتى يقف بالسياق العُموميّ ليقول “قال سيد قطب في الظلال” (ج2، صـ18). ولمْ يعتمد الشيخ الصابونيّ على منظومة العلوم القرآنيَّة التراثيَّة ليُبيِّنها رأسًا، بل اعتمد عليها كأدوات تفسيريَّة. هذا ما أستطيع إيراده هنا في عُجالة -ونقص بالغ بالقطع- حتى لا يطول السياق.
منهج “صفوة التفاسير” الإجرائيّ
هنا أقسِّم المنهج إلى قسمَيْن. للاختصار هُما:
- قسم تهيئة السُّوَر، وفيها اعتمد على الخطوات الآتية:
- ذِكر اسم السُّورة: ويذكر الاسم الأشهر الطاغي، ويُحدِّد مَكيَّتها من مدنيِّتها -تغليبًا-، ويذكر عدد آياتها حسب العد الكُوفيّ.
- بين يَدَيْ السُّورة: وهو عنوان ثابت يقف فيه الشيخ على مركزيَّات كلّ سورة من السُّور، وعند أفكارها الأساسيَّة التي سيتعرَّض لكلٍّ منها فيما بعد.
- التسمية: وهُنا يقف ليبيِّن سبب تسمية السورة إنْ كان لها سبب خاص. يقصد لماذا سُمِّيت باسم “البقرة” مثلًا.
- فضل السورة: إنْ وُجِدَ للسُّورة فضل ثابت بالأثر.
وبعد هذا القسم يبدأ في تفسير الآيات من كلّ سورة. وذلك على المنهج الآتي:
- قسم تفسير الآيات المُفردة:
- إيراد الآيات: يورد آيات السورة كلّها دَفعَةً واحدةً إنْ كانت من السُّور القِصار، أو يقسِّمها لمجموعات كلٍّ منها تتضمن عشر آيات أو أكثر أو أقلّ -على حسب المعيار الآتي-.
- المُناسبة: وهي من أهمّ ما أتى به الشيخ في تفسيره؛ حيث يُخصِّص هذا العنوان الفرعيّ دومًا للعلاقة التي تربط دَفعةَ الآيات هذه بما سبقتها من آيات. وهذا يفيد المُسلم أشدّ الإفادة فيوضِّح له اتساق النظم القرآنيّ، ويترك القارئ في حالة انسجام معنويّ بين كلّ مجموعة من الآيات، وما سبقها، وما تلاها.
- اللُّغة: وفيها يهتمّ بتبيين المعاني اللُّغويَّة للألفاظ المُفردة في مجموعة الآيات التي سيأتي على تفسيرها. ويركز على المعنى اللُّغويّ الخاصّ بالآية، مُعتمدًا على قاعدة التفسير القائلة بتحرِّي الأشهر من المعاني.
- سبب النزول: ويخصِّص هذا العنوان لإيراد سبب نزول الآية -أو الآيات- إنْ كان لها سبب خاصّ في نزولها.
- التفسير: وهُنا يأتي على تفسير الآيات جُملاً بعد جُمَل، أو يُقلِّلها لكلمة حتى. يُؤسِّس هذا على هدف واحد هو إيصال المعنى أمام القارئ، وصناعة سياق مُنسجم من المعاني.
- فائدة: وهو عنوان قليل الظهور، وتحته يورد ما يأتي في الآيات من فوائد معنويَّة؛ فكريَّةً كانت أو أخلاقيَّةً، أو رُوحيَّة أو… كلُّ هذا غرضَ تعزيز الإفادة للقارئ.
- لطيفة: وهو عنوان قليل الظهور جدًّا. ويورد فيه لطيفة معنويَّة في الآيات. مثل قوله -ج3، صـ382- في تفسير سورة “الجمعة”: التعبير بقوله تعالى (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) -آية 9- فيه لطيفة؛ وهي أنَّه ينبغي للمسلم أنْ يقوم إلى صلاة الجمعة بعزيمة وهِمَّة، وجدٍّ ونشاط. لأنَّ لفظ السعي يفيد الجد والعزم. ولهذا قال الحَسَنُ البَصريُّ: والله ما هو سعيٌ على الأقدام، ولكنه سعيٌ بالنية والقلوب”.
- تنبيه: وهو عنوان أشدّ نُدرةً من السابق. وفيه ينبِّه الشيخ إلى شيء قد يفوت انتباه القارئ. مثل تنبيهه من سورة النساء -ج1، صـ298-: “أمر تعالى في القتل الخطأ بإعتاق رقبة مؤمنة. والحِكمة في هذا -والله أعلم- أنَّه لمَّا أخرَجَ نفسًا مُؤمنة من جُملة الأحياء لزِمَه أنْ يُدخِلَ نفسًا مثلها في جُملة الأحرار…”.
- البلاغة: وهو عنوان ثابت يبيِّن فيه الشيخ ملامح البلاغة في الآيات جامعًا بين العلوم البلاغيَّة الثلاثة (المعاني، البيان، البديع) دون التزام ترتيب أولويَّة -الأولويَّة أهميَّةً هي الترتيب السابق-.
تفسير الشيخ للحروف المُقطَّعَة
تباينت التفسيرات للحروف المُقطَّعَة التي تبدأ بها بعض السُّور الكريمة. وقد اختار الشيخ توجيهَيْن من هذه التفسيرات؛ أنَّها تخطف سمع السامع للوهلة الأولى التي يسمع فيها هذه الحروف، وأنَّها دلالة على إعجاز القرآن الكريم؛ حيث لا يستطيع المُعاند أنْ يأتي بمِثله مع كونه مُركَّبًا من هذه الحروف نفسها التي هي بنية كلامه.
واستدلّ برأي “ابن تيميَّة” في هذا التوجيه الأخير؛ حيث قرن بين وجود هذه الحروف في أوائل السُّور التي أتى فيها ذِكر التحدِّي بالقرآن، مِمَّا يدلُّ على اقتران بينهما.
تفسير الشيخ لبعض آيات الاعتقاد
قد تعرَّض الشيخ لبعض الانتقادات التي اتهمته بتأويل الصفات على مذهب الأشاعرة. وبغضّ النظر عن المسألة الأساسيَّة فقد ردَّ الشيخُ نفسُه على مُنتقديه بكُتيِّب أسماه “كشف الافتراءات في رسالة التنبيهات حول صفوة التفاسير”. وهُنا ننقل بعض تفسيره لآيات يحدث حولها جدل عقديّ لنرى كيف فسَّرها الشيخ. يقول في تفسيره لآية (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) -طه 5-: “أيْ ذلك الرَّبّ الموصوف بصفات الكمال والجمال هو الرحمن الذي استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تجسيم، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل كما هو مذهب السلف”.
ويقول في تفسير آية (إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) -القيامة 23-: “أيْ تنظر إلى جلال ربها، وتهيم في جماله. أعظمُ نعيم لأهل الجنة رؤيةُ المولى -جلَّ وعلا- والنظرُ إلى وجهه الكريم بلا حجاب. ثم يقول في هامش الصفحة التالية: “هذا هو مذهب أهل السنة … وأنكر المُعتزلة رؤية الله في الآخرة، وأوَّلوا الآية “ناظرة بمعنى منتظرة تنتظر ثواب ربِّها، وهذا باطل…”.
وفي صفة الكلام يقول في آية (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) -النساء 164-: “أيْ وخصَّ الله موسى بأنْ كلَّمَه بلا واسطة؛ ولهذا سُمِّي الكليم. وإنَّما أكَّد (تَكْلِيمًا) رفعًا لاحتمال المجاز….”. وفي قضية الاختيار والجبر فسَّر الآية (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ) -الأعراف 179-: “أيْ خلقنا لجهنم ليكونوا حطبًا لها خلقًا كثيرًا كائنًا من الجِنِّ والإنس. والمراد بهم الذين حقَّت عليهم الكلمة الأزليَّة بالشَّقاوة”.
وقد يورد الشيخ رأيَيْن مُختلفَيْن معًا؛ في مثل تفسيره للآية (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) -الفتح 10-: “قال ابن كثير: أيْ هو حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المُبايع بواسطة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-. وقال الزمخشريّ (وهو من المُعتزلة الكبار، بلاغيّ ثبت في بابه): يريد أنَّ يد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- التي تعلو أيدي المُبايعين هي يد الله. والمعنى أنَّ مَن بايَعَ الرسول فقد بايَعَ الله”. انتهى كلام الشيخ، وأوردت هذين النهجَيْن في التعامل حتى يتضح أنَّ الشيخ اتسق مع هدفه من التفسير أولاً وأخيرًا، وأنَّه ما خرج عن نهج الصحَّة في المُعالجة.
دعاء للشيخ الصابونيّ
هاكُم خلاصة مُوجَزة، أرجو من الله -تعالى- أن تكون نافعةً، وأن تكون دافعةً لاقتناء هذا التفسير وقراءته، ولاقتناء غيره وقراءته. وأرجو من القارئ الكريم أنْ يمدَّ يده إلى السماء ليُخلص دعاءً للشيخ “محمد علي الصابوني” بما يتيسَّر -ولصاحب هذه السطور إنْ تفضَّل-. وأنْ يكون مُقتديًا في دعائه للشيخ بالقرآن الذي أحبَّه وأخلص له، وفي آياته نسمع:
(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) -الرَّحمن 60-.
صفوة التفاسير
رائع
ما شاء الله عليك. تقديم مذهل لهذا العمل المبارك.
ربنا يرحمه ويجعل مثواه الجنة .. وربنا يبارك لكم في جهودكم المباركة