في ظلال الحروب الصليبية: نحو الاستعمار والامبريالية
انتهينا في المقالات السابقة إلى خلاصة مفادها أن الحروب الصليبية انطلقت وتبلورت على شكل صراع حضاري بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي طيلة القرون الوسطى، لكن مع انتهاء هذه الحقبة بدأت الحرب الصليبية تتحول وتتخذ ملامح جديدة، حيث ستُسطر النهضة الأوروبية مرحلة جديدة من الصراع بين الشرق والغرب.
الصليبيات والنهضة الأوروبية
لم يكن القرن الخامس عشر الميلادي بدايةً لعصر النهضة الأوروبية وإن شهد أبرز مظاهرها، فجذور نهضة أوروبا بدأت منذ القرن الحادي عشر ميلادي، ذلك القرن الذي بدأت فيه الكنيسة الغربية مشروعها المتمثل في الحركة الصليبية الكبرى ضد العالم الإسلامي، ففي الأندلس تدفق المد الصليبي على المسلمين، كما استطاع المسيحيون النورمان إسقاط الحكم الإسلامي في صقلية، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه حملات الفرنجة الصليبيين تشق طريقها نحو المشرق.
وقد احتك النصارى هنا بالحضارة الإسلامية وتأثروا برُقي ثقافة المسلمين، ففي الجهة الأولى أي الأندلس وصقلية (الغرب الإسلامي) التي تمدد فيها الحراك الصليبي على أراضي المسلمين بعد قرون من الحروب، وفي الجهة الثانية وهي المشرق الإسلامي (الشام ومصر) فقد ساعد استقرار الصليبيين هناك تواصلهم مع المسلمين ونُظمهم.
هذا بالإضافة إلى التجارة التي كانت أبرز مخلفات الحركة الصليبية في المشرق، حيث ظهرت المدن التجارية الكبرى في إيطاليا كالبندقية وجنوا، التي شكلت ثروة هائلة على إثر تجارتها مع الشرق التي تمر عبر مصر والشام، لتكون ايطاليا ومدنها منبعا لخطوط النهضة والتي ستشمل الغرب الأوروبي، لكن الانطلاقة الأخرى لهذه النهضة بدأت مع السقوط الإسلامي في الأندلس وانطلاق صليبيو البرتغال وإسبانيا نحو شكل جديد من الغزو، وهو المُسمى بالاستعمار.
البرتغال والاسبان.. طلائع الاستعمار
إن التأريخ لبداية الاستعمار يبدأ من نقطة سقوط الأندلس على يد الإسبان والبرتغال، والتي كانت ضربة كبرى للعالم الإسلامي في مقابل نهضة قوية لأوروبا المسيحية، لتنطلق الرحلات البحرية أو ما يعرف بالاكتشافات الجغرافية التي كان من أهدافها البعيدة الوصول إلى بيت المقدس بعد تطويق الأمة الإسلامية، وهنا يبدأ التحول التدريجي للحرب الصليبية نحو الاستعمار، إذ اتخذت أوروبا قرار البحث عن الثروات والاستيلاء عليها من أجل اكتساح العالم الإسلامي والقضاء على المسلمين.
فكان البرتغال الطليعة الأولى للقوى الاستعمارية، فطوال القرن الخامس عشر الميلادي استطاع البرتغال -بعد تأسيس مملكتهم في غرب الأندلس- تشكيل خطوط بحرية طويلة عبر سواحل افريقيا وآسيا ثم أمريكا، لتتبعها إسبانيا التي أسقطت أخيرا مدينة غرناطة المعقل الإسلامي الأخير في الأندلس عام 1492م، فاستطاعتا المملكتان الأيبيريتان بناء امبراطوريات ممتدة ذات أطماع صليبية عالية.
فبعد سقوط دولة الإسلام في الأندلس اتجه الاسبان والبرتغال نحو بلاد المغرب وشمال إفريقيا في حملات صليبية انتقامية، فاستولى الاسبان على سواحل البحر المتوسط بينما سيطر البرتغال على موانئ المحيط الأطلنتي، لتمتد خطوط المستعمرات الأيبيرية بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح والدوران حول إفريقيا والبلاد الإسلامية؛ مما شكل ضربة عميقة لتجارة المسلمين عبر البحر المتوسط، حيث سيشكل المحيط الأطلنتي الثقل الجديد للتجارة العالمية.
وكان التنافس حميما بين نصارى إيبيريا حول احتكار تجارة الشرق وبلاد الهند، وفي سبيل ذلك استطاعوا غزو الكثير من المناطق ومواجهة المسلمين على عدة جبهات، فمن أجل المشروع الصليبي قاتل الإسبان والبرتغال المسلمون في كل من البحر المتوسط وغرب إفريقيا وبلاد المشرق مع الدولة العثمانية، ثم في المحيط الهندي بل وصلوا حتى إلى جزر جنوب شرق آسيا التي كان الإسلام ما زال يتمدد فيها.
حتى أنهم استطاعوا غزو قارات بأكملها؛ وهذا ما جرى مع أمريكا الوسطى والجنوبية التي قهروها بالنار والحديد بعد أن ادعوا أنها من مكتشفاتهم وأسموها بالعالم الجديد، فقضوا على حضاراتها واستولوا على ثرواتها المعدنية والطبيعية، والتي كانت الخزان الأول لجشع الاستعمار الأوروبي.
التنصير كإحدى أدوات الاستعمار
كانت الظاهرة الاستعمارية في مقدماتها ما هي سوى استمرار للحركة الصليبية التقليدية بقيادة الكنيسة والتي كان من أهدافها نشر المسيحية، وبعد إخفاق هذه المهمة في المشرق الإسلامي اتجهت أوروبا إلى مناطق أخرى ذات الوثنية، فقام الأيبيريون في مطلع العصر الحديث بغزو العالم الجديد والقارة الأمريكية في نطاق رحلاتهم “الاستكشافية”.
فكان من أهم مبررات أساليبهم الوحشية تجاه الأهالي من الهنود الحمر، نشر الديانة النصرانية وقد تم هذا بالفعل بقوة الحديد والنار، وبمجازر دامية راح ضحاياها ما يقدر بالملايين حتى أصبحت أمريكا الوسطى والجنوبية كاثوليكية الديانة، وسميت على إثر ذلك بأمريكا اللاتينية، وتحت ستار الدين وراية الصليب ثم نهب موارد هذه البلاد وثروات شعوبها على يد الأيبيريين أولاً ثم باقي الأوروبيين الغربيين بعد ذلك.
ليصبح التنصير سلاحا فعالا لأوروبا الصليبية في مواجهة انتشار الإسلام، فبعد القضاء عليه في الأندلس، اتجه البرتغال والاسبان نحو تطويق العالم الإسلامي فاحتلوا أطرافه، كما فعلوا بجزر جنوب شرق آسيا التي مازال الإسلام يتغلغل فيها، فقاموا بتنصير الشعوب الوثنية هناك بالقوة كعادتهم، فانتقلوا بعد ذلك إلى وسط إفريقيا لتتبعهم باقي دول أوروبا الغربية في هذه المهمة، ففعلوا ذلك ببلاد الهند وأطراف إفريقيا وشرق آسيا، فكانت الإرساليات التنصيرية من الوسائل التي اتبعتها القوى الاستعمارية طيلة القرون الحديثة والمعاصرة لمحاصرة الإسلام ومنع تمدده، لاسيما في المناطق الفقيرة كدواخل إفريقيا والتي كانت فريسة للنهب الاستعماري الغربي.
الحرب الصليبية على الدولة العثمانية في مطلع العصر الحديث
في الوقت الذي كانت فيه أوروبا الصليبية تواصل جهودها الحثيثة في القضاء على المسلمين في الأندلس ومد أياديها إلى باقي البلاد الإسلامية، إبان عقود القرن الخامس عشر الميلادي؛ كان العثمانيون –القوة الإسلامية الجديدة- قد عبروا نحو البلقان وتوسعوا فيه واستطاعوا فتح القسطنطينية العاصمة الشرقية لأوروبا المسيحية سنة 1453م ، وبذلك سقط خط الدفاع الأول للنصارى الأوروبيين من ناحية الشرق المتمثل في الإمبراطورية البيزنطية.
وبذلك توجب على الأوروبيين الالتفات من جديد نحو الخطر الإسلامي المستجد على الساحة وهو الدولة العثمانية، فبدأت بالتالي التكتلات والأحلاف بين الدول النصرانية في أوروبا الوسطى والشرقية، من أجل حرب صليبية على العثمانيين يقودها البابا نفسه في كثير من الأحيان.
فبالرغم من تمكن المسيحيون من إسقاط أخر المعاقل الإسلامية في الأندلس ثم محاولتهم مد خطوط وحبال لتطويق العالم الإسلامي، إلا أنهم تفاجئوا بمداهمة المسلمين لأوروبا الشرقية وفتح كثير من أجزائها، مما استدعى القيام بصليبيات جديدة ضد العثمانيين.
وقد كانت أولى الحملات الصليبية الكبيرة على الدولة العثمانية قد انكسرت في موقعة نيكوبوليس 1396م، ثم تبعتها فارانا عام 1444م التي قادها الهنغاريين وحلفاؤهم في البلقان والتي انهزمت أيضا وقد حاول بابا روما الحيلولة دون فتح القسطنطينية لكنه فشل ومع توسع العثمانيون في شرق أوروبا ووصولهم إلى مدينة فيينا؛ حشد الأوروبيون كل قواهم فأسسوا حلفًا صليبيًا لمواجهة التمدد الإسلامي العثماني، لكنهم تعرضوا لهزائم كبيرة أبرزها موهاكس عام 1526م.
لكن مع تسرب الضعف إلى جسد الدولة العثمانية في القرن السابع عشر، بدأت أوروبا تحرض مسيحيو البلقان على التمرد ضد الحكم العثماني، ومع مرور الوقت أصبح العثمانيون عاجزين عن مواجهة جميع نصارى أوروبا، لاسيما مع ظهور قوة صليبية جديدة في شمال شرق أوروبا وهي الإمبراطورية الروسية وريثة الكنسية الأرثوذكسية.
الروس: صليبيو الأرثوذكس والتمدد في الأراضي الإسلامية
ما أن انتهت الامبراطورية البيزنطية منتصف القرن الخامس عشر الميلادي مع الفتح الإسلامي للقسطنطينية؛ حتى ظهرت روسيا حاملة لمشعل النصرانية الأرثوذكسية وما لبثت أن تحولت إلى إمبراطورية مسيحية في شرق أوروبا وشمال آسيا، وبرزت ككتلة صليبية تتوسع على حساب المسلمين، حتى اصطدمت مع الدولة العثمانية وأعلنت عن هدفها الصليبي المتمثل في غزو القسطنطينية واستعادتها كمركز للكنيسة الأرثوذكسية.
إذ سرعان ما تأسست الإمبراطورية الروسية في القرن الخامس عشر الميلادي في كل من موسكو وكييف، لتتوسع شرقا وتبتلع ممالك التتار المسلمين، فاستولى الروس على مناطق حول نهر الفولغا وقازان وسيبيريا الغربية، ليتمددوا بعد ذلك نحو الجنوب ليواجهوا العثمانيين فهددوا منطقة أذربيجان في القوقاز، ولم يكتفي النصارى الروس بكل هذا بل زحفوا إلى شمال آسيا الوسطى وبلاد التركمان.
وكانت الدولة العثمانية العدو الأول لروسيا القيصرية، التي شكلت الحلف المقدس مع ممالك شرق أوروبا من أجل القضاء على العثمانيين في البلقان واسترداد القسطنطينية، فقام الروس بتحريض المسيحيين الأرثوذكس داخل الأراضي العثمانية، ونجحوا في هزيمة العثمانيين والاستيلاء على مناطقهم في أوروبا الشرقية وشبه جزيرة القرم وذلك بعد توقيع معاهدة قينارجة، فخاضت روسيا بعدها حروبا متواصلة مع العثمانيين حتى أنها اقتربت في عدد من المرات من غزو اسطنبول.
وقد اتخذ الغزو الروسي للبلاد الإسلامية مزيجًا بين شكل الحروب الصليبية التقليدية حيث الإبادة وتهجير المسلمين من أجل الاستيطان والاحتلال، ونمط الاستعمار الحديث، لاسيما بعد أن أثرت الثورة الصناعية الأوروبية على روسيا في القرن التاسع عشر الميلادي.
بريطانيا وفرنسا: التسابق نحو إخضاع الشرق
كان الفرنسيون والإنجليز من أبرز شعوب الغرب الأوروبي التي شاركت في الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي في حقبة العصر الوسيط، ومع انكسار الحركة الصليبية في المشرق وانتصارها في المغرب؛ تراجعت فرنسا وانجلترا عن دورها الصليبي –مؤقتًا- لتتصدر إسبانيا والبرتغال المشهد الأوروبي مع عصر النهضة –كما رأينا-، لكن سرعان ما سيعود البريطانيون والفرنسيون حاملين راية الاستعمار الأوروبي في العصور الحديثة، ليحلوا محل الأيبيريين ويقودوا الإمبريالية العالمية.
فقد استطاعت قوى الغرب الأوروبي اكتساح العالم الجديد والسيطرة على القارة الأمريكية، حيث غزا الأيبيريين جنوبها ووسطها، بينما قام الإنجليز والفرنسيين باحتلال شمالها، ليلتفتوا بعد ذلك إلى الشرق العدو التقليدي بعد أن أدركوا بوادر تراجعه وانحساره.
فقد أخفقت القوى الأيبيرية الصليبية على مهمتها في ضرب العالم الإسلامي والوصول إلى القدس، لتبرز بريطانيا خاصة بعد الثورة الصناعية في القرن السابع عشر لتصل إلى المحيط الهندي، وتبدأ ببلاد الهند -كبرى بلدان الشرق الإسلامي- ثم بجزر جنوب شرق آسيا، لتتبعها فرنسا كمنافسة لها في احتكار التجارة العالمية، فأسسوا شركة الهند الشرقية كمؤسسة استعمارية تسيطر على تجارة الشرق.
وفي افريقيا كان التسرب الفرنسي قد بدأ في غرب القارة، ليتحول إلى هجوم كاسح دمر مناحي الحضارة الإسلامية هناك، في الوقت الذي تتمدد فيه بريطانيا في آسيا بعد احتلالها للهند ومحاولة اخضاع أفغانستان وإيران واتفاقها مع الروس بشأن ذلك، لكن بريطانيا -المعروفة وقتها بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس- قد اتجهت إلى سواحل افريقيا الشرقية، وبدأت تقترب من وسط العالم الإسلامي والبلاد العربية الخاضعة للدولة العثمانية.
والدولة العثمانية في هذا الوقت كانت تعاني من ضعف شديد والذي اتضح جليًا بعد الحملة الفرنسية على مصر 1798م، والتي جاءت مباشرة بعد الثورة الفرنسية والتغيرات التي عرفتها أوروبا بعدها، حيث تطلع الأوروبيون نحو إخضاع الشرق واحتلاله باسم الحضارة والتنوير، فكان العثمانيون الذين سُموا في هذه الفترة ب”المسألة الشرقية” العقبة الوحيدة أمام ذلك، فجرى اختراق الدولة العثمانية وإضعافها بشتى الوسائل، فقامت فرنسا من جهة بغزو الجزائر (1830م)، لتتمدد في الشمال الأفريقي لتحتله بشكل شبه كامل إلى بداية القرن العشرين، بينما تقوم بريطانيا باستعمار مصر والتخطيط للقضاء على الدولة العثمانية بالمشرق.
فتم ذلك بعد الحرب العالمية الأولى التي سقطت فيه الدولة العثمانية وتم بعدها إلغاء الخلافة الإسلامية، فكان ذلك بعد وصول الانجليز والفرنسيين إلى فلسطين والشام، ليعلنوا في مدينة القدس عن انتهاء الحروب الصليبية القديمة التي كانت مقدمةً للمشروع الإمبريالي المعاصر.
الغرب المُهيمن من الصليبية إلى الامبريالية
لقد كانت الحملات الصليبية التي شنها الغرب الأوروبي على المشرق الإسلامي هجومًا بعيدا المدى على الأمة الإسلامية، بعد أن كان الصراع الإسلامي النصراني مقتصرا على الحدود والثغور في الأندلس وفي آسيا الصغرى مع البيزنطيين، وصحيح أن أوروبا قد اتخذت شعار الصليب في ذاك الوقت ستارًا لقهر الأخر (المسلمين)؛ إلا أنها لم تخفي جشعها المادي والذي دفعها نحو الغزو والاحتلال والسيطرة.
وبعد عصر النهضة اتضحت أهدافها أكثر، ليتحول الغرب الصليبي إلى الغرب الاستعماري وتبقى فكرة “المركزية الأوروبية” هي نفسها سواءً في المسيحية أو في الرأسمالية، ويبقى العدو الأكبر واحداً وهو الشرق المسلم، والذي بسقوطه ستكتمل هيمنة الغرب، الذي توسع مجاله الجغرافي ليخلق كيانا جديدا في أمريكا، بل وكيانا آخرفي قلب الشرق وهو الذي رعته الصهيونية –أحد إفرازات الاستعمار الغربي-، وجعلته مرتكزًا للتحكم الغربي في الأمة الإسلامية، في سياق صراع الغرب المستمر مع العالم الإسلامي فإن الغرب لا يجد مشكلة في استدعاء مفاهيم “الحروب الصليبية” القديمة لأجل ذلك.
المصادر
- العالم والغرب: التحدي الأوروبي والاستجابة فيما وراء البحار في عصور الامبراطوريات، ترجمة رضوان السيد.
- الحركة الصليبية،سعيد عاشور.
- تأثير الإسلام في أوروبا العصور الوسطى،ويليام مونتغمرتي واط.
- تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر،إسماعيل ياغي ومحمود شاكر.
- الشرق الإسلامي في العصر الحديث، حسين مؤنس.