
انهيار نظام الأسد: قراءة شاملة في الأسباب ودور القوى الفاعلة
في لحظة فاصلة من التاريخ الحديث، كانت سوريا على موعد مع مشهد درامي غير مسبوق: انهيار نظام بشار الأسد وتهاوي أركان حكمه تحت ضربات عسكرية كاسحة وضغوط سياسية متشابكة. روسيا المنشغلة بمغامرتها في أوكرانيا أدارت ظهرها لحليفها القديم، وإيران، الحليف الوفي، وجدت نفسها تتراجع أمام تغير المعادلات الإقليمية والدولية، مع ضربات موجعة تستهدف قياداتها وميليشياتها في سوريا ولبنان. أما المؤسسة العسكرية السورية، فقد عاشت انهيارًا نفسيًا ولوجستيًا، عاجزة عن مواجهة الزحف الميداني لقوات المعارضة المدعومة إقليميًا.
وفي خضم هذه التحولات، بدا أن الحلفاء ينفضّون عن الأسد أو على الأقل عاجزون عن الحيلولة دون سقوطه، وأن النظام يترنح بين تناقضات المصالح الإقليمية والدولية. كيف انقلبت الطاولة؟ من تخلى عن الأسد ولماذا؟ وكيف أسهمت الولايات المتحدة وتركيا والدول العربية، إلى جانب فصائل المعارضة، في كتابة الفصل الأخير من حكم دام لعقود؟ الإجابات في تفاصيل كواليس مثيرة، تابعوها معنا في هذا التقرير الاستثنائي.
الموقف الروسي المأزوم

لعبت روسيا على مدى سنوات الحرب السورية دور المظلة الأمنية التي تحمي نظام بشار الأسد، مستخدمةً قوتها العسكرية وقدرتها على البطش بدون رحمة لتثبيت أركان حكمه في وجه الانهيار. لكن المشهد تغيّر بشكل جذري في الأيام الأخيرة للنظام السوري، حيث كانت موسكو غارقة في مستنقع الحرب في أوكرانيا، التي أصبحت محور سياستها الخارجية وصداعها الداخلي الأكبر.
مع تصاعد القتال في أوكرانيا بعد الاجتياح الروسي الواسع عام 2022، وجدت موسكو نفسها في مواجهة استنزاف لمواردها العسكرية والبشرية. تشير التقديرات إلى مقتل وإصابة أكثر من 250 ألف جندي روسي حتى أواخر 2024م، فضلاً عن خسائر ضخمة في المعدات العسكرية التي تجاوزت آلاف الدبابات والطائرات، وفق تقارير غربية وروسية مستقلة. في ظل هذه الضغوط، تحوّل تركيز روسيا بالكامل نحو أوروبا الشرقية، حيث أصبحت الحرب الأوكرانية ساحة صراع بالوكالة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي ضخ مئات المليارات من الدولارات لدعم كييف عسكريًا واقتصاديًا.
معركة أوكرانيا وضعت روسيا في مأزق جيوسياسي عميق. العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ 2014م تصاعدت بشكل كبير لتشمل قطاعات رئيسية مثل النفط والغاز، ما أدى إلى انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة قاربت 4% في 2023م و2024م، وتراجعت قيمة الروبل إلى أدنى مستوياته منذ سنوات. كما أدت العقوبات إلى حرمان موسكو من الوصول إلى التقنيات الحديثة التي تحتاجها لتطوير صناعتها العسكرية والمدنية.
في هذا السياق المأزوم، جاء اجتياح المعارضة لحلب وطلب الأسد المساعدة العاجلة من موسكو. زيارته الأخيرة إلى الكرملين كانت تحمل طابع الاستغاثة، حيث طالب الأسد بدعم عسكري مباشر وتسهيل مرور الإمدادات الإيرانية عبر قاعدة “حميميم”. لكن الرد الروسي كان باردًا ومخيّبًا للآمال. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي كان منهمكًا بصد الضغوط الغربية على جبهات متعددة، لم يُظهر استعدادًا لتوريط بلاده في صراع جديد قد يُفاقم أزماتها المتصاعدة.
الموقف الروسي ازداد تعقيدًا بسبب التصعيد الغربي في أوكرانيا، حيث زوّد الناتو أوكرانيا بأنظمة صاروخية متطورة، مثل “هيمارس” و”باتريوت”، وفتح خطوط إمداد عسكرية شملت دبابات “أبرامز” الأمريكية و”ليوبارد” الألمانية. هذا الدعم جعل روسيا تواجه حربًا ذات طابع استراتيجي، دفعتها إلى تقليص تركيزها على جبهات أخرى، بما في ذلك سوريا.
في موسكو، تأخرت لقاءات الأسد مع بوتين لساعات طويلة، في رسالة واضحة عن تراجع الأولوية السورية بالنسبة للكرملين. وعندما طالب الأسد بحماية الإمدادات الإيرانية، رفضت موسكو التدخل خشية استفزاز الولايات المتحدة، التي أرسلت تهديدات مباشرة بقصف الطائرات الإيرانية المتجهة إلى سوريا عبر العراق. هذا الموقف كشف عجز موسكو عن مواجهة الضغوط الغربية في أكثر من ساحة، ودفعها إلى التخلي التدريجي عن الأسد.
الذروة كانت عندما أرسلت روسيا طائرة خاصة؛ لإجلاء الأسد وعائلته من دمشق إلى قاعدة “حميميم”، ومنها إلى الأراضي الروسية. كان ذلك بمثابة إعلان غير مباشر عن انسحابها من دورها كحامٍ للنظام السوري، مفضّلة التركيز على حربها الوجودية في أوكرانيا.
مغامرة روسيا في أوكرانيا لم تؤثر فقط على موقفها من سوريا، بل شكّلت اختبارًا لقدرتها على مواجهة تحالف دولي تقوده واشنطن، وسط اقتصاد متداعٍ واستنزاف عسكري غير مسبوق. هذه التحديات دفعت الكرملين إلى إعادة ترتيب أولوياته، ما أسهم في تسريع انهيار النظام السوري وترك الأسد لمصيره المحتوم.
الموقف الإيراني: بين خيبة الأمل والعجز

منذ بداية الأزمة السورية، كانت إيران أحد أبرز الداعمين لنظام بشار الأسد، مدفوعةً بتطلعاتها لتوسيع نفوذها في المنطقة. لكن في المرحلة الحرجة من الحرب، بدأت مواقفها تتراجع بشكل ملحوظ. تعززت مشاعر الإقصاء لدى طهران بعد التقارب المفاجئ بين النظام السوري وبعض الدول العربية، وهو ما اعتبرته إيران تهديدًا مباشرًا لنفوذها في سوريا.
ورغم الوعود المستمرة بتقديم الدعم العسكري، واجهت إيران تحديات كبيرة على الأرض، سواء على الصعيد اللوجستي أو الاستراتيجي. فحتى محاولات إرسال الطائرات الإيرانية عبر الأجواء العراقية إلى سوريا، والتي كانت تمثل شريان حياة للنظام، قوبلت بتهديدات أمريكية مباشرة بإسقاط الطائرات الإيرانية، وهو ما أعاق جهود طهران.
في هذه الأثناء، تعرضت طهران لضغوط إضافية من ضربات إسرائيلية متواصلة ضد القيادات الإيرانية وميليشياتها في سوريا ولبنان. فقد استهدفت الطائرات الإسرائيلية مواقع إيرانية حساسة وشخصيات قيادية كبيرة، من ضمنها منشآت عسكرية في دمشق وحلب، ما أدى إلى مقتل العديد من القادة العسكريين الإيرانيين، بمن فيهم جنرالات كبار في الحرس الثوري. في الوقت ذاته، تلقت إيران ضربات موجعة على أراضيها، حيث استهدفت إسرائيل أيضًا منشآت عسكرية استراتيجية في إيران نفسها، ما جعل طهران تشعر بالتهميش والعجز والحصار شبه الكامل.
تزامن ذلك مع فشل زيارة كبار المسؤولين الإيرانيين في الأيام الأخيرة مثل عباس عراقجي وعلي لاريجاني إلى دمشق، حيث بدت هذه الزيارات بمثابة الوداع الأخير، إذ كانت خالية من الحلول العملية أو الخطط الممكن تنفيذها لإنقاذ النظام السوري. أمام هذه التطورات الميدانية والسياسية، تراجعت خيارات طهران في دعم الأسد، وأدركت أنه لم يعد من المجدي الاستمرار في محاولات الحفاظ على النظام السوري في مواجهة تقدم المعارضة المتأهبة والمدعومة من قبل تركيا بشكل واضح.
الموقف الأمريكي: استراتيجية الضغط على النظام وتقويض نفوذ إيران في سوريا
على الرغم من عدم انخراطها المباشر في النزاع العسكري على الأرض بين قوات المعارضة والنظام في هذه المرحلة، لعبت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة دورًا حاسمًا في محاصرة النظام السوري بشكل مستمر، وتوجيه ضغوط استثنائية على بشار الأسد وحلفائه الإقليميين، وفي مقدمتهم إيران.
المصلحة الأمريكية في سوريا كانت واضحة: تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة ومنع سوريا من التحول إلى ساحةٍ دائمة للتوسع الإيراني، الذي تعده واشنطن غير مرغوب به كما تعتبره تهديدًا لأمن حليفتها إسرائيل في المنطقة.
من أبرز الأدوات الأمريكية في هذا السياق، كانت سياسة التجفيف الاقتصادي لنظام الأسد في السنوات الأخيرة ومنع الإمدادات العسكرية عنه في الفترة الأخيرة. فقد أبلغت واشنطن الإيرانيين بشكل صريح أنها ستقوم بقصف أي طائرة إيرانية تحاول عبور الأجواء العراقية إلى سوريا، وهو تهديدٌ كان يهدف إلى تقييد قدرات طهران على تعزيز وجودها العسكري في سوريا. هذه السياسة الأمريكية كانت خطوة أساسية في حرمان الأسد من دعم حيوي كان يمده بالحياة العسكرية واللوجستية.
لكن الضغوط الأمريكية لم تتوقف عند هذا الحد. فقد صار من الواضح أن واشنطن لا ترى مستقبلًا مستقرًا لسوريا في ظل حكم الأسد، لا سيما بعد أن فشلت في فرض أي حل سياسي في سوريا يتضمن بقاء بشار الأسد، الذي أصبح وجوده رمزًا للتعطيل والشلل والدمار في نظر المجتمع الدولي، ما حوله إلى عبِء لا طائل من استمراره، لا سيما مع انهيار قواته أمام اكتساح قوى المعارضة للمدن الكبرى الواحدة تلو الأخرى بشكل مضطرد.
كما لعبت تركيا دورًا محوريًا في طمأنة أمريكا ودفعها نحو القناعة بأن البديل الوحيد للاستقرار في سوريا هو نظام سياسي جديد بعيد عن الأسد ونفوذ طهران وتأكيدها على عدم وجود أي تهديد جدي من قبل قوى المعارضة لمصالح واشنطن. ما أسهم في تسريع التحولات الجارية وفتح الباب أمام تغييرات كبيرة في مستقبل سوريا السياسي.
الموقف التركي: استراتيجية الضغط والتمدد في سوريا لتعزيز النفوذ الإقليمي

منذ اللحظات الأولى للثورة السورية، تبنت تركيا موقفًا حازمًا ضد نظام الأسد، مدفوعةً برغبتها في توسيع نفوذها الإقليمي في الشمال السوري. استغلت أنقرة حالة الفوضى التي أحدثها الصراع في سوريا لتعزيز وجودها العسكري والسياسي في المناطق الحدودية، حيث شنت العديد من العمليات العسكرية مثل “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. هدفها كان واضحًا: منع قيام كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية، فضلًا عن توسيع دائرة النفوذ التركي في شمال سوريا.
لكن التدخل الروسي المباشر في سوريا عام 2015م لدعم الأسد، أضاف بُعدًا جديدًا للصراع، حيث دخلت تركيا في منافسة استراتيجية مع موسكو على الأرض السورية. رغم التوترات الواضحة بين الطرفين، حاولت أنقرة وموسكو الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتهما، حيث استمرت روسيا في دعم النظام السوري، بينما واصلت تركيا دعمها للمعارضة المسلحة.
أدركت تركيا منذ البداية أن تعزيز وجودها في الشمال السوري سيكون ضروريًا لمنع روسيا من الهيمنة المطلقة على الملف السوري. ومن خلال هيكلية منظمة لدعم الفصائل المعارضة، قدمت أنقرة الدعم العسكري والمالي المباشر، إضافة إلى تدريب وتأهيل قادة وعناصر المعارضة. هذه الاستراتيجية جعلت تركيا القوة الداعمة الرئيسية لهذه الفصائل، ما ساعدها على الحفاظ على فعاليتها العسكرية في مواجهة النظام السوري.
أنشأت تركيا مجالس محلية في المناطق “المحررة” من سيطرة النظام، ووفرت لها خدمات أساسية مثل الكهرباء والمياه والاتصالات. عزز هذا من نفوذها السياسي والإداري في تلك المناطق. وسرعان ما أصبحت تركيا الحاضنة الأساسية لهذه المناطق، ما ساعد في تعزيز قوتها على الأرض، وزيِّن لها دورًا متناميًا في التأثير على المشهد السوري.
الدعم التركي للمعارضة المسلحة كان له أثرًا كبيرًا في تغيير موازين القوى العسكرية. فقد ساعدت أنقرة في توحيد جهود الفصائل المتعددة، مما زاد من الضغط على قوات النظام وأضعف قبضته العسكرية على الأرض، لا سيما في معركة حلب التي أدت إلى انهيارات متلاحقة لقوات النظام. مع تقدم المعارضة نحو دمشق، عملت تركيا على تنسيق الجهود العسكرية للفصائل المعارضة، ما ساهم في تحقيق اختراقات استراتيجية كبيرة ضد قوات الأسد.
ومع تطور الأحداث ونجاح المعارضة في توظيف زخم الهجوم الخاطف، كان موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان واضحًا تمامًا؛ فقد رفض جميع محاولات الوساطة لإعادة فتح قنوات الاتصال بين أنقرة والنظام السوري، مؤكداً أنه «لا مجال للحديث عن وساطات» مع الأسد. في الأيام الأخيرة للنظام، رأت تركيا أن سقوط الأسد مسألة وقت فقط، حيث تراجعت قبضته على الأرض بشكل دراماتيكي وشبه كامل.
مما لا شك فيه، كان للدور التركي في الضغط العسكري والسياسي دور كبير في دفع الأسد نحو التفكير في الهروب من دمشق. وبسقوط النظام السوري، ووصول القوى المدعومة من قبلها إلى دمشق تحقق لتركيا هدفها الاستراتيجي طويل المدى المتمثل في ضمان أمنها القومي وتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي، مؤكدةً على أهمية الحفاظ على استقرار حدودها وتحقيق التوازن الإقليمي في مواجهة التهديدات المتزايدة.
موقف النظام العربي الرسمي: بين الانقسام والضغوط
رغم المحاولات المتكررة من الدول العربية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، بقيَ الموقف العربي بعيدًا عن التنسيق الفعّال أو التأثير الجدي في مجريات الأحداث. كان هذا الموقف مشوشًا ومبعثرًا، حيث تباينت سياسات الأنظمة العربية بين التأييد ومحاولات التعويم وبين الضغط لإبعاد نظام الأسد عن طهران، ليظهر المشهد العربي مضطربًا لآخر لحظة، في محاولة بائسة ومترددة لتطوير ملامح استراتيجية مشتركة حول سوريا. في الوقت ذاته، كان النظام السوري بقيادة بشار الأسد يشهد تحولًا مترددًا وقلقًا في المواقف بين الدول العربية من جهة وإيران من جهة أخرى؛ لهذا فضّل الاستمرار في نهج المعاندة والمراوغة على اعتبار عدم وجود خيار بديل عنه. بدا الأسد وكأنه غير مدرك تمامًا للتحولات السياسية والاقتصادية التي طالت سوريا داخليًا، ولا للضغوط الخارجية التي كانت تزداد حدة وسوءًا يومًا بعد يوم.
في هذا الإطار، سعت عدة دول عربية إلى فرض شروط سياسية واضحة على النظام، بدءًا من معالجة الموقف الإيراني في سوريا، وصولًا إلى التعامل مع قضايا المخدرات واللاجئين السوريين. إلا أن هذه الجهود لم تكن لتقابل بجدية من قبل النظام الحاكم في دمشق، الذي لم يبدِ أي رغبة حقيقية في تعديل مواقفه أو تصحيح مساره. وفي زيارتين متتاليتين إلى دمشق، حمل وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي مطالب محددة، أبرزها وقف تهريب المخدرات عبر الحدود الأردنية، وهي القضية التي كانت تشكل تهديدًا للأمن الإقليمي. كما طرح الصفدي خطة لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، لكن النظام السوري لم يُظهر أي استجابة جادة تجاه هذه المقترحات. بدلًا من ذلك، استمر بشار الأسد في إلقاء خطب مليئة بالوعود الفارغة والانتقادات السفسطائية تجاه الدول العربية، في محاولة للتأكيد على موقفه الذي بدا أكثر تشبثًا بالحفاظ على السلطة دون أي تسويات أو تنازلات تستجيب لمتطلبات المرحلة.
الجيش السوري: انهيار نفسي ولوجستي
قبل سقوط النظام السوري، كان الجيش في حالة من الهشاشة الواضحة، أدت مع اكتساح قوى المعارضة إلى الانهيار التام على المستويين النفسي والعسكري، حيث غرق الجيش في حالة من التخبط إضافة إلى الإحباط العميق بعد سنوات طويلة من الصراع المدمر. كانت القوات العسكرية تشعر بأن المعارك أصبحت بلا طائل، وأن الأثمان التي دفعها الجنود والضباط لم تثمر سوى مزيد من الخسائر والدمار، دون أن تلوح في الأفق أي نهاية لهذا الصراع الدامي. هذه المشاعر من اليأس والإحباط ازدادت مع إدراك كبار الضباط تخلي القوى الدولية عن النظام.
ومع تقدم قوى المعارضة وتوسع سيطرتها على المدن الرئيسية، أصابت الجيش السوري حالة من الصدمة جعلته غير راغب في خوض معركة جديدة، خاصة في محيط العاصمة دمشق. كان الجنود والضباط يشعرون أن الحرب قد انتهت عمليًا، لا سيما مع نقص حاد في التجهيزات الضرورية لخوض معركة شاملة، سواء من حيث الذخائر أو الإمدادات اللوجستية. وكان الاعتماد المستمر على الحلفاء، وخاصة إيران وروسيا، قد جعل الجيش أكثر تعويلًا على غيره، خصوصًا بعدما أصبح واضحًا أن هؤلاء الحلفاء بدورهم بدأوا يتراجعون عن دعم النظام في اللحظات الحرجة.
وفي الأيام الأخيرة من المعركة، بدأت وحدات الجيش السوري الانسحاب بشكل تلقائي وغير منظم من مواقعها في مختلف المناطق، وصولًا إلى أطراف العاصمة دمشق. حتى الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، التي كان يُنظر إليهما كأقوى التشكيلات العسكرية وأكثرها ولاءً للنظام، انسحبت من مواقعها دون مقاومة تُذكر، ما يعكس مدى انهيار الروح المعنوية داخل القوات السورية. هذه الانسحابات لم تكن ناتجة عن “خيانة” بقدر ما كانت حالة من التخلي عن النظام وتجنب معركة خاسرة. ببساطة لقد استنفد الضباط والجنود طاقاتهم ورغبتهم في القتال، وقد اختاروا الانسحاب على خوض معركة كانت قد حسمت بنظرهم.
التوتر داخل الجيش كان ناتجًا أيضًا عن غياب التوجيه العسكري الواضح من القيادة العليا. على الرغم من التحذيرات الأمنية المتكررة من هجوم وشيك من المعارضة، لم تكن هناك خطة استباقية واضحة للتعامل مع هذا الوضع، ما تسبب في مزيد من الارتباك والهرولة للهروب من ساحة المعركة.
فرار الأسد بعد إلغاء خطابه الأخير

بعد الهزيمة الثقيلة التي تعرض لها جيش النظام في حماة، أعد بشار الأسد خطابًا صيغ بعناية، كان يهدف من خلاله إلى توجيه رسائل تهديد مبطنة إلى القوى الدولية والإقليمية. ركز الأسد في خطابه على الموقف العربي، الذي وصفه بأنه “تخاذل” و”تقصير”، واتهم الدول العربية بعدم تلبية احتياجاته العسكرية والسياسية، ما تركه في مواجهة انهيار متسارع.
في الخطاب الذي اطلع عليه عدد قليل من المقربين، رسم الأسد صورة قاتمة للأوضاع في سوريا، محذرًا من أن استمرار هذه الأوضاع سيؤدي حتمًا إلى تقسيم البلاد. وأشار إلى تداعيات كارثية على المنطقة، بما في ذلك موجات جديدة من اللاجئين وتصاعد الإرهاب الذي قد يجتاح الأراضي السورية ويمتد إلى الدول المجاورة. ومع أن الخطاب كان يحمل نبرة تهديد، إلا أن الأسد أدرك لاحقًا أن إلقاءه لن يغير من الواقع شيئًا، حيث كانت الأحداث تتسارع والانهيار العسكري يخرج عن السيطرة.
مع فقدان الجيش السوري السيطرة على مواقع حيوية، واستمرار الانسحابات غير المنظمة، بات واضحًا أن النظام وصل إلى نقطة اللاعودة. في مواجهة هذا الواقع المتأزم، تخلى الأسد عن فكرة إلقاء الخطاب وبدأ في البحث عن مخرج شخصي آمن. سارع إلى التنسيق مع الروس، الذين سرعان ما رتبوا خطة لهروبه من دمشق إلى قاعدة “حميميم”، ومنها إلى روسيا، حيث بدأت مرحلة جديدة من حياته بعيدًا عن ساحة الأحداث.
بهروب الأسد، طُويت صفحة من تاريخ سوريا، تاركة البلاد أمام تحديات كبرى في إعادة بناء الدولة. يقف الشعب السوري اليوم على أعتاب مستقبل غامض في ظل أوضاع محلية متأزمة، وواقع إقليمي ودولي معقد يتطلب جهودًا استثنائية لإعادة رسم ملامح سوريا الجديدة.
المراجع
- القصة الكاملة لسقوط نظام الأسد في 12 يوما، محمد شعبان أيوب، 8/12/2024، الجزيرة نت.
- لماذا انهارت قوات الأسد على هذا النحو السريع؟، أحمد مولانا، 3/12/2024، الجزيرة نت.
- هل ساهم تغيّر خطاب هيئة تحرير الشام في نتائج “ردع العدوان”؟، يوسف موسى، 5/12/2024، الجزيرة نت.
- ما العوامل التي أدّت إلى سقوط الأسد؟، 8/12/2024، بيروت: «الشرق الأوسط».
- اللحظات الأخيرة بالقصر ليلة سقوط النظام، 5/1/2025، كامل صقر.