
البناء المنهجي تجربة شخصية.. خريج من الدفعة الأولى
بعد خروجي من الكلية في أحد الأيام، أذكر أنه عند الظهيرة، التقيت ببعض الصحب فإذا بأحدهم يقول للآخر: “فُتح التسجيل في دفعة استدراكية، ومن المقرر أن تلحقوا بنا”، استبشر السامع وتحمس، لكني لم أفهم حينها المقالة، فاستفهمت عن أي دفعة قُرر فتح التسجيل فيها؟ ففهمت بعد شرحهما، “ااااه، إذن هناك برنامج علم شرعي عن بعد (إلكتروني) يسمى البناء المنهجي…”
ومن هنا بدأت رحلة البناء المنهجي، أربع سنوات ونيف كانت، هذه الرحلة التي كلما سُئلت عن اللحظة الفارقة لحظة التغيير أرجعت الأمر بفضل الله وتوفيقه لاشتراكي بها، فرأيت قيامًا ببعض الحق وعملًا بما علي من واجب لآل البناء المنهجي أن أكتب هذه الكلمات حثًا على الاشتراك في البرنامج، وتثبيتًا لمن في الدفعات الأصغر من جانب. أسأل الله سبحانه أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ويتقبلها وينفع بها.
مقررات أحببتها
بداية أردت أن أنبهك أن المقال ليس مقالًا أكاديميًا فلا تحاسبني وتنتظر ترتيبًا وتنظيمًا للفقرات، وإنما هي كلمات أسردها سردًا وأنظمها كما تأتي، كما أنك لن تجد فيه استعراضًا لطبيعة الدراسة والمناهج وغيرها، فهي دونك تجدها في مظانها؛ وعليه وإن بدأت بشيء فلا أحب من تلك المواد البديعات التي لامست قلبي وأعملت فكري، فكنت وقتما أذكرها أحن إليها، هاك بعضها.
لامية العجم، تلك القصيدة البديعة رفيعة الكلمات رقيقة الأسلوب، وذلك صاحبها الطغرائي الشاعر الكيميائي عشت معه أياما وصاحبته في قصصه كأني مرافقه المجانب، وهذا شارحها الدكتور مصطفى مخدوم بصوته العميق وتأويله العزيز، أثروا جميعهم فيّ، لا أذكر عدد مرات مدحهم مني أمام أسرتي وأصحابي، أتعرف ذاك الشعور بالحنين لما تسمع صوتا معينا هو بالضبط ما أشعر به كلما تذكرتها أو استمعت لها؛ فصارت هي ديدني إنشادًا واستماعًا خاصة في أوقات الشدة.
ثم كتاب صور وخواطر للشيخ الأديب علي الطنطاوي رحمه الله، وما أدراك ما صور وخواطر؟! كل فصل فيها مكتوب بأسلوب مخالف لسابقه، يتخيل إليك أنما هو كاتب آخر يكتبها، عشت في فصوله نَفْسًا وجسدًا، وبه أحببت الأدب العربي، وفتحت به عالم الكتب الأدبية فولجته خاصة أدباء عصر النهضة الرافعي والزيات والعقاد والمنفلوطي، هؤلاء الفحول. وبه أحببت الشيخ علي حبًا جمًا فكنت أدعو له وأسأل مسامرته في الجنة!
أما تلك الرسالة البليغة قليلة الكلمات كثيرة المعاني، حق لها أن تضرب الآفاق وتسير في البلاد، رسالة الإمام أبي سليمان الخطابي (بيان إعجاز القرآن)، تعلقت بها، كيف لا وبها اطلعت على عبارات المتقدمين، وتذوقت أسلوبهم، وتفقدت أفكارهم؟ وأذكر الآن كيف كان فرحي لما وجدت الرسالة بطبعتها المشهورة المضمنة لكتاب (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) في معرض للكتب المخفضة بين أطنان من الكتب الأخرى، فلما لمحته أثناء تصفحي للصفوف استخرجته استخراج المظفر، حتى أن مالي نفد حينها فأخذت ثمنه من صديقي:) بهذه المواد أحببت اللغة العربية وتقرر عندي وجوب دراستها، فالتحقت بمعهد لتعلم علومها.
أذكر أيضا شرح شيخنا أحمد حفظه الله كتاب (نزهة النظر) للإمام ابن حجر رحمه الله، شرحه شرحًا ماتعًا عاليًا، جمع فيه بين التطبيقات الحديثية والقراءة في كتب المتقدمين خاصة كتاب الإمام ابن الصلاح رحمه الله (علوم الحديث) والنكات عليه، فأجمل به شرح! وأذكر أنه كان مقررا علينا في شهر رمضان، فكنت أخصص الوقت من العصر إلى قبيل الإفطار لهذا الدرس.
وغيرها من المواد الشرعية والفكرية الكثيرة تنهال من ذاكرتي الآن، ما كنت قبلها كما كنت بعدها.
أمور صاحبها

اعلم وأنت داخل إلى برنامج البناء المنهجي أنك لن تصير بعده عالمًا حاكمًا فقيهًا، وإنما -كما يعدك أصحابه- هو خطوة يعقبها خطوات، وإنما هي بداية الطريق، فهو (خطوة لتجاوز الشتات)، فلا تجعل عينك مبصرة أثناء مسيرك الحكم على هذا، والتصدر لأجل ذلك، وغيرها من الأمور الفاتنة، بل جدد نيتك وادخل دخول العابد وارتدي عباءة الخضوع واجعله خالصا لربك، ادخل لأنك تعلم أن الله يحبه ويُتعبد به سبحانه، ثم اجعله فرصة لرفع الجهل عن نفسك، ومعرفة ما ترفعه لربك عسى أن يكون سببا لنجاتك.
واعلم أن القاعدة تقول ليس المشتركون في العمل متساوين في الأجر، فلا يخرج الجميع بنفس الفائدة من المقررات نفسها، وإنما كل بحسبه، على قدر توكلك على الله وطلب المدد منه ثم اجتهادك بالتدوين والحفظ والمراجعة والمذاكرة والعرض والبحث تجد الثمرة بإذن الله.
وأعيذك بالله أن تنسى أن الشيطان ماكر بك، فالأفاعيل تنتظرك، والفتن ستقام حولك، أحسبت أن تترك هكذا دون اختبار وامتحان؟ لا والله، فاستعد رحمك الله وخذ حذرك واسأل الله الثبات واستعذ من الكور.
وشيء أخبرك به ستعلمه علم اليقين بل أقول عين اليقين، أن العلم ثقيل شديد بحق، حمولته عظيمة تريد ظهرا لا ينقض وقلبا لا يرتد، ألا أدلك على ما يشتد به عودك ويقوى به فؤادك: التزكية التزكية، كل سبيل تسلكه لا ترى فيه تزكية سالكة معك فاعلم أنك منقطع لا محالة، هذا الحمل يحتاج إلى معين من كل أنواع العبادة، صلاة وقيام وقرآن وذكر وصدقة، كلها، فكما أن العلم يراد به العمل، كذا العمل معينك على العلم.
آداب خذها

- جدد نيتك وتوضأ قدر استطاعتك قبل الدخول على مقررك اليومي.
- حاول تفريغ ذهنك قبلها وتوجه بكليتك إلى العلم.
- دون ثم دون ثم دون، هذا القلم آلة حفظ العلم فلا تزهد فيه.
- ما أمكنك حفظه فاحفظه.
- اتخذ صديقًا يعينك على الطريق، تذاكرا وشجعا بعضكما، واقتديا بسيدنا عمر رضي الله عنه وجاره الأنصاري من بني أمية بن زيد.1
- تعامل مع الدرس كأنك حاضر بين يدي الشيخ، فلا تأكل ولا تتكلم ولا تلغُ ولا تفتح بجانبه شيء كوسائل التواصل وغيرها من المشتتات، تأدب بآداب الطالب مع معلمه، والطالب مع كتابه.
- إن وقفت معك مسألة فاكتبها واسأل عنها بعد انتهائك فإن لم يجبك أحد، فابحث عنها غاية بحثك.
- فرّق بين مستوى المواد وطبيعتها وتعامل مع كل بقدر، فالمركزي منها ليس كغيره، والأصل في بابه ليس كالفرعي، والشرعي ليس كالثقافي، وهكذا.
- إن فاتك شيء فلا بأس، حاول استدراكه، فإن صَعُب الأمر فاتركه وأكمل المسير وارجع إليه وحدك بعد ذلك.2
وإن كان من كلمة كالخاتمة، فلا أحصي كم من مرة توقفت وانقطعت وسقطت، ولا غرو!! فلا تدخل كأنك قطار يحسب أنه لا يتوقف، بل هو متوقف، ستكسل أحيانًا وتسأم كثيرًا وتتوقف بعد كل مسير، لكن لا عجب في ذلك، هي رحلة طويلة أفتقطعها جريًا طولها؟ بل خذ نفسك بالتدريج وأدبها واصبر عليها، كلما سقطت ارجع وقم، وكلما توقفت أكمل وسِر، وكلما انقطعت داوم ومُرّ، هكذا أيام العلم دُوَل. واسأل من وصل أيحصي عدد مرات سقوطه؟ الفارق بين الواصل والمنقطع أن الواصل انقطع ثم أخذ بحُجَزِ نفسه وأكمل المسير. فلا تَكِلّ أخي وخذ بالجد فيه، ولا تكن صاحب مثاليات عائقة، واعلم {أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [آل عمران: 73].
هامش
- عن عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: “كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا…”، صحيح البخاري، كتاب العلم، باب التناوب في العلم، رقم: 89. ↩︎
- لهذا وسابقه تقريرات كثيرة مبسوطة والكثير من الشواهد والأمثلة يطول المقام بها، انظر مثلا تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة. ↩︎
أريد الانضمام اليكم لاتفقه بالدين
بارك الله فيك ونفع بك وحفظك من كل مكروه وسوء
مقالة جميلة ومؤثرة، بارك الله فيك ونفع الله بك وزادنا من علمه🌷