غُرزة تلوَ غُرزة
رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ الْمُنبَتَّ لا أرضاً قطعَ، ولَا ظهْراً أبْقَ))،1 والْمُنبَتَّ: هو المسافر الذي يسير أيامًا متتالية دون توقّف ليُريح بدنه أو راحلته فلا يصل لهدفه، ويُتعب راحلته. كالفلاح المتعجّل الذي يريد أن يقطف الثمار قبل أوانها دون صبر وقبل أن يهيّأ تربتها، أو الطبّاخ الذي يريد أن ينجز طبخته فيؤجّج النار تحت قِدره فيحترق طعامه. أو كالأم التي تشتمّ رائحة نقصٍ في صفة شخصيّة من صفات ابنتها فتحشد -متعجّلةً- جيوش الأفكار، وتُطلق صافرة الإنذار، وتضع الخطط السريعة، وتبدأ التنفيذ، وسرعان ما تتعب هي، ولا تُحصّل المتربّية المطلوب، بل قد تجني عكسه.
حقيقة التربية.. الصبر
التربية في إحدى تعريفاتها: «بلوغ الشيء كماله بالتدريج».
فهي أخذ يد أولادنا برحمة خطوة خطوة للوصول إلى الهدف المراد. هي الصبر في وضع الخطة التربوية وتجزِئة الهدف لخطوات بسيطة -حسب مستوى أولادنا- وعدم التعجل في رؤية النتائج وتحقيق المطلوب؛ لأنَنا وبصدق قد لا نرى هذه النتائج.. قد نموت أو قد يموتون! ربما نغرس فيهم خصلة ويقطفها غيرنا. أو لربما تختار ابنتي أو ابنك قدرًا آخر من أقدار الله التي لا نحبها. فدعنا لا نتعلّق بالنتائج ولا نستعجلها لأنها في الغيب الذي لا يعلمه سواه، ولنُشغَل بالمُتاح الذي بين أيدينا.
أتذكر نفسي عندما سمعت هذا التعريف لأول مرة، حينها سألت بتعجّل: وكم أسبوعًا يجب أن أصبر؟!!
الصبر والغضب.. معركة مستمرة
كنت كلما حضرت دروسًا عن الصبر اقتنعتُ بضرورته، وبكونه جوهرة الأخلاق، لكنّي لم أعلم كيف أصبر، وكيف أصبّر انفعالي وأبرد حرارته.. كنتُ أدعو في صلاتي بين السجدتين دعاء النبي الحبيبﷺ: ((اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني)) [سنن أبي داود: 850]. وكنت حينما أقول “وعافني”، أقول: يارب من الغضب.
كنت إذ أُردّد دعاء الصباح: ((اللهم استر عوراتي)) [سنن أبي داود: 5074]، أقول: عوراتي النفسية يا رب عند الغضب! فقد بدت المعركة بين غضبي والصبر والأناة طويلة نوعاً ما.. لكنّه -سبحانه- يختبرنا ويبعث لنا أدوات تقوينا على هذا الاختبار؛ فما هو إلا أن بدأ صبري ينتصر أمام انفعالي المذموم شيئًا فشيئًا مع ولادة ابنتي (لانا)، والتي ستُتمّ الحادية عشرة في كانون الأول المقبل، والمعركة مازالت مستمرة.
الصورة المُرفقة تُظهر أول تجربة لابنتي في غزل “الكروشيه”، وهو الأخطبوط الصغير يمينًا وآخر منتجاتها “اللاما” يسارًا. عندما رأيت المنتَجَين معاً دمعت عيناي! ومرّ شريط تحدّياتي وتحديات ابنتي (لانا) في تعلم “الكروشيه” في دماغي خلال ثانية واحدة. وشعرت أنني وُفّقت لفهم معنىً من معاني الصبر، وكأنّها قِطعَة من لعبة تركيب كانت ضائعة ثم وجَدت مكانها في دماغي وجلَست بهدوء.
الأخطبوط البداية واللاما النهاية
بين الصورتين سنة كاملة فيها الكثير من الصراع بين الدوافع الداخلية والخارجية، بين النشاط والهمّة والخمول. فيها محاولات الصمود وتحمّل خيبة الأمل وتقبّل الضعف، والفرح بالإنجاز الصغير؛ بما أنجزه وتنجزه ابنتي. أتذكر كيف كنت أحتمل ردود فعل ابنتي، وكيف كنت أشعر أن هناك جمرة في داخلي تحترق تكاد أن تخرج، كنت أمسكها وأقول: اشعري كما تريدين لكن لا تتكلمي، ستحرقين المخطّط، اسكتي. كنت أتذكر قول الرسول ﷺ: ((وأن النصر مع الصبر)) [مسند أحمد: 2849]، أن في صبرك على ما تكره خيرًا كثيرًا.. كنت أحتمِل حرارة انفعالي وانفعال ابنتي، أُصبّرها وأقول لها: تعالي نجرّب غرزة غرزة.
بين الصورتين الكثير الكثير من المشاهد والأفكار والمشاعر التي أتمنى لو استطعت بكلماتي هذه أن أوصلها.
بين الأخطبوط واللاما قرابة ٣٦٠ يومًا /٨٦٤٠٠ ساعة، والكثير من المعارك النفسية. وتلك التي بدأت غزل الأخطبوط بانزعاج بالغ، هي هي الآن تصنع الكثير من الألعاب بفضل الله، والأمّ التي كانت تنزعج من عدم إتقان الأخطبوط باتت الآن بفضل الله تتغزّل في عدم دقة وتمام البدايات.
نستطيع أن نتخيل أن “اللاما” أيّ مهارة أو عادة نريد أن نزرعها في أنفسنا أو في أولادنا وطلابنا، سيكون الأخطبوط ذو العينين الكبيرتين غير المتجانستين المنتجَ الأول الذي يجب مقابلته بالرضا والفرح، ومثل هذا يغيظ أصحاب وهم الكمال والمثاليين الذين يرفعون سقف التوقعات في معظم حالاتهم ويصيبون أنفسهم وأولادهم بالإحباط.
تذكّر أن بين الصورتين معارك كثيرة أهمّها ثلاث: معركة البدايات والصبر عليها، ومعركة الاستمرار والعمل دون النظر إلى درجة الإتقان، تليها معركة الإحسان.
فلنفترض الآن أن “اللاما” هي هدفك، فكّر في أي هدف أو عادة تسعى لها (تعليم الصلاة لابنك، الانضباط، القراءة، الكتابة، الصبر..)، فإنك كي تصل لأناقة وإتقان “اللاما”؛ لابد لك من احتمال الأخطبوط!
اهدأ وأكمل السعي
أتذكّر محاولة من محاولاتي لتهدئة غضبي وكظمه ذات مرة: اختليت بنفسي وبدأت أتقلّب وكأن جمرًا يتوقّد داخلي، ربما لو رآني أحدهم لظنّني مجنونة. أثناء انفعالي كان ثمة صوت داخلي يقول: إن لم تتكلمي الآن سيكون ويكون.. فكنت أسكتّه وأقول: لا لن يكون ويكون، اهدئي أنتِ أولاً. كانت تلك البدايات، كنت أصمت فقط، ولعلّي كنت في بعض الأحيان أبدو غريبة فأصبر على هذا. وشيئًا فشيئًا زاد عدد المواقف التي أصبر عليها ولا أُنفذ غضبي.
لا أدّعي أني وصلت لمرتبة الإحسان بأن أقول ما في خاطري وأتعامل مع انفعالي الغاضب المذموم في الوقت نفسه، لكنّ التزكية مستمرة -بإذن الله- وسنسعى غرزة نفسية تلو غرزة إلى أن نلقى الله.
هامش
- حديث غريب مرسل ضعيف، رواه بعض أصحاب الكتب منهم: البزار كما صرح بذلك الهيثمي في مجمع الزوائد، فقد قال بعد ذكر الحديث: «رواه البزار، وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل، وهو كذاب»، ورواه الحاكم في معرفة علوم الحديث وقال عنه: «غريب الإسناد والمتن»، والصنعاني، وقال: «فيه اضطراب وروي موصولًا ومرسلًا ومرفوعًا وموقوفًا واضطراب في الصحابة هل عائشة أو جابر أو عمر ورجح البخاري في التاريخ إرساله»؛ لأن هذا الحديث روي عن ابن المنكدر عن عائشة وجابر وعمر؛ وعليه رجح البخاري أنه من مراسيل ابن المنكدر، قال الدارقطني: «ليس فيه حديث ثابت ورجح البخاري في تاريخه إرساله عن ابن المكندر». ↩︎