الصومال: قصة الإسلام في شرق أفريقيا

الصومال اسم ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالإسلام، منذ إشراقة الرسالة الأولى في مكة وعلى طول محطات المواجهة مع ممالك الحبشة النصرانية المتعاقبة والاحتلال الأوروبي، والتي استمرت لقرون مديدة توثّق بطولات المسلمين الفذّة ومقاوماتهم العجيبة وإصرارهم المبهر على حفظ حضارتهم الإسلامية سائدة يشد أزرهم في ذلك علاقاتهم المتينة مع المسلمين في الضفة الأخرى، ولا تزال أغلب شعوب المنطقة متمسكة بالإسلام دينًا وبحضارته تراثًا رغم حجم التحديات التي تعرضت لها.

في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين

دخل الإسلام أرض الصومال أول مرة مع الهجرة الأولى لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر البحر حيث دخلوا البلاد من ميناء زيلع، شمال الأراضي الصومالية اليوم، وكان الميناء حينها تابعًا لمملكة أكسوم الحبشية.

وجاء أمر الهجرة إلى الحبشة بعد أن لحق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاربه الأذى الشديد والتعذيب على يد طغاة قريش بعد اكتشاف إسلامهم، فأوصاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى الحبشة في أول هجرة في الإسلام، لما علمه من عدل ملكها في ذلك الوقت النجاشي “أصحمة بن أبحر”، ملك لا يظلم عنده أحد، حتى يجعل الله لهم فرجًا مما هم فيه.[1]

فخرج من مكة إحدى عشر رجلًا وأربعة نساء في السنة الخامسة من بعثة النبوة وعبروا البحر الأحمر إلى الحبشة واستجاروا بالنجاشي، فأجارهم وعلم منهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأكرم مثواهم وأحسن إليهم.

لكن البطارقة النصارى في مملكة النجاشي لم يرحبوا بالصحابة وأزعجهم هذا الاستقبال، ولولا سلطان الملك لفتكوا بهم، ولهذا عندما ثار البطارقة على النجاشي وكادوا يخلعونه ثم نصره الله عليهم قبل أن يفسدوا عليه أمره [2]، خشي المهاجرون عاقبة هذه الثورة وأشيع لديهم أن قريش أجابت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت، فأحب المهاجرون اغتنام هذه الفرصة، فعاد أكثرهم إلى مكة وكان مكثهم في الحبشة في هذه الهجرة نحو ثلاثة أشهر. لكنهم ما أن قدموا إلى مكة حتى تفاجأوا بعنت قريش قد تزايد وعداوتهم قد تضاعفت، فقرروا الرجوع ثانية إلى الحبشة، وفي هذه المرة ازداد عدد المهاجرين في هجرة ثانية ليبلغ ثلاثة وثمانين رجلًا عدا النساء والأطفال، وكما في الهجرة الأولى رحب بهم النجاشي وأسكنهم مجتمعين ليقيموا شعائر دينهم، وأسلم هو على يد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وحسن إسلامه لكنه ستره عن قومه حتى وافته المنية، وهذا ما دفع بمؤرخي الغرب إلى إنكار إسلامه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي صلاة الغائب، وكان موته بعد عودة المهاجرين جميعًا إلى المدينة.

ويجدر الإشارة إلى أن بعض الروايات التاريخية أكدت على أن النجاشي لم يسلم وحده بل أسلم معه جماعة من أصحابه أخفوا جميعًا إسلامهم في حين ذهبت بعض الروايات للحديث عن إسلام النجاشي وحده.

رسم يعبر عن موقف المهاجرين أمام النجاشي.

وأقام المسلمون في الحبشة بجوار النجاشي وحمايته رغم مكائد البطارقة النصارى ودسائسهم حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم في سنة 8 هـ (629 م) فعادوا إلى المدينة بعد أن أقاموا في أرض الهجرتين نحو 16 سنة.

ثم بعد وفاة النجاشي المسلم خلفه نجاشي شديد العداوة للمسلمين، وكان من مشاهد هذه العداوة إرساله السفن للإغارة على جدة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل علقمة بن مجزز المدلجي رضي الله عنه على رأس سرية من ثلاثمائة مقاتل فتصدوا لتهديد الأحباش، ففروا منها وعادوا إلى بلادهم.

وبعد خروج الصحابة رضي الله عنهم من أرض الحبشة لم تشهد تلك الأرض اتصالًا بالإسلام سوى محاولة واحدة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أرسل أول سرية في سنة 20 هجرية بقيادة علقمة بن مجزز المدلجي وهذا بعد أن أغار الأحباش على ساحل البحر الأحمر الشرقي، لكن السرية لم توفّق في مسيرتها وأصيبت لعدم خبرتها في البحار فجعل عمر على نفسه ألا يحمل في البحر أحدًا للغزو.[3]

واستمر الأحباش في عهد بني أمية يهاجمون جدة وينهبون السفن وينزلون في أراضي المسلمين لاستفزازهم وتهديدهم، فكان رد خلفاء الدولة الأموية تحرير بعض موانئ الحبشة التي كانت قاعدة لأسطول القراصنة الأحباش. وكان ذلك بإرسال قوات بحرية سيطرت على مصوع وجزر دهلك على شواطئ البحر الأحمر.

الإسلام ينتشر بتدفق التجار المسلمين

ورغم انطلاق جيوش الفتح في كل الاتجاهات في العالم خلال عصر الخلفاء من بعد عمر رضي الله عنهم أجمعين وفي عهد الدولة الأموية، إلا أن سرية علقمة كانت بمثابة أول وآخر سرية ترسل لأراضي الحبشة، لأسباب عديدة أهمها صعوبة أرض الأحباش جغرافيا، لكن بالمقابل، وصلت جموع التجار المسلمين إلى مناطق الساحل فاستوطنوها وسيطروا على جزيرة دهلك ثم مصوع (من سواحل إريتريا حاليًا)، وزيلع ثغر في الصومال على ساحل خليج عدن، واستمروا في التغلغل في البلاد والهيمنة على مقاليد التجارة والاقتصاد فيها.

وكان في طليعة هؤلاء المهاجرين أهل عمان وحضرموت، وتوالت الهجرات تباعًا من ساحل الجزيرة العربية ولا سيما الأحساء والبحرين واليمن إلى شرق إفريقيا لغرض العيش والاستقرار الدائم.

ويرجع إقبال المسلمين على سواحل شرق أفريقيا آنذاك لأسباب عديدة منها الخوف من الفتن أو لأجل التجارة والارتزاق، أو هربًا من الاضطهاد السياسي الذي تنامى منذ استلام الدولة الأموية دفة الخلافة، وأيضًا بسبب الجفاف والبحث عن الأراضي الخصبة.

ولكن تأثير هذه الهجرات لم يكن مجرد إقامة مجاميع سكانية على الساحل الشرقي للقرن الأفريقي بل تطور إلى إقامة ممالك إسلامية وحضارة تمتد أنوارها لعمق القارة الأفريقية ولا تزال آثارها شاهدة على سعي من سبق في تشييد البلاد وازدهارها تحت راية الإسلام.

واستمر تدفق التجار المسلمين وهيمنتهم على المنطقة حتى أصبحت جميع سواحل الحبشة تحت سلطانهم وأدخلوا في الإسلام كثيرًا من القبائل الوثنية التي كانت تقطن المنطقة. ولا شك أن لهذا الانتشار لدين الإسلام على يد التجار والمهاجرين أسباب كثيرة أبرزها أخلاقهم الرفيعة التي قدموا بها، واختلاطهم بأهل المنطقة بالتزويج والمصاهرة، والأهم من ذلك طبيعة الدين الإسلامي وعالميته وقدرته على سد فراغ الأديان أو الانتشار بصورة تدريجية أكثر عمقًا ورسوخًا من بقية الأديان.

ويقول يوسف أحمد صاحب كتاب تاريخ الإسلام في الحبشة:

وإننا وإن كنا لا نستطيع أن نذكر بالتفصيل كيف كان احتلال المسلمين لسواحل الحبشة سلمًا بغير حرب، وجعلها إسلامية، ونشرهم فيها الدين الحنيف، بين القبائل المتوحشة حتى مصروها وأوجدوا منها جنودًا أشداء كونوا بهم قوة مسلمة ذات شأن على جانب عظيم من مكارم الأخلاق والصفات إلا أننا نستطيع أن نبرهن على قيام دولة إسلامية، عظيمة في الحبشة نشرت سلطانها يومًا على جميع أرجائها زمنًا غير قليل.

وفي الواقع فإن إقامة الممالك الإسلامية والسلطنات كان صفة سائدة على طول الساحل الشرقي لأفريقيا بشكل عام، وكان لهذه الممالك جميعًا دورًا بارزًا في نشر الثقافة العربية والإسلامية في القارة السمراء ولا تزال آثارها تشهد بذلك إلى اليوم.

ممالك الطراز الإسلامي

في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) تم للمسلمين في الحبشة عدد من الممالك الزاهرة المزدهرة والتي سميت بـ”الطراز الإسلامي” لأنها كانت كالطراز على السواحل، وفي الواقع قد اختلف المؤرخون في تعدادها فذهب أغلبهم لجعلها سبعة ممالك وهي: مملكة أوفات مملكة دوارو، مملكة أرابيني، مملكة هدية، مملكة شرحا (شرخة)، مملكة بالي، مملكة داره. بينما أضاف القلقشندي لها جزائر دهلك ومدينة عوان المواجهة لليمن وأيضًا مملكة مقديشو.

ولم تذكر مملكة عدل في هذا التصنيف رغم أنها أحد أبرز ممالك الطراز الإسلامي التي بقيت منضوية تحت سلطان مملكة أوفات ثم استقلت بعد سقوط الأخيرة مشتهرة باسمها “عدل”، ولعل لهذا السبب لم تذكر في قائمة الممالك السبع أو ممالك القلقشندي.

كما أوضح القلقشندي في صبح الأعشى أن المؤرخين القدامى أطلقوا اسم “ممالك الطراز الإسلامي” على الممالك التي نشأت في القرن الأفريقي، وهي البلاد المسماة بلاد الزيلع. وهي البلاد المقابلة لبر اليمن على أعالي بحر القلزم (البحر الأحمر) وما يتصل به بحر الهند (المحيط الهندي).

وغلب على مشهد هذه الممالك المساجد والجوامع، حيث كانت تقام فيها الجمعة والجماعة وازدانت البلاد بالخير والرخاء جنبًا إلى جنب ما عدا مملكة “داره” فإن أرضها كانت قريبة من إقليم أمهرا التي كانت قاعدة لمملكة الحبشة آنذاك.

وذكر القلقشندي في كتابه صبح الأعشى هذه الممالك ووصف بعضها مفصلٍ عدد عساكرها بين فارس وراجل معتمدًا في ذلك على كتاب مسالك الأبصار لمؤلفه شهاب الدين العمري.

وعرفت تلك الممالك الإسلامية الرخاء والاستقرار حيث قال القلقشندي يصف المعيشة فيها: “وأما الأسعار فكلها رخيصة ويباع بالدرهم الواحد عندهم من الحنطة حمل بغل، والشعير لا قيمة له وعلى هذا فقس”.

ورغم هذه المرحلة الذهبية التي ازدهرت فيها الممالك الإسلامية في هذه المنطقة إلا أنه بلا شك كان هناك ضريبة لصناعة هذا الإنجاز، حيث يتفق المؤرخون حول الجهود المضنية التي بذلها المسلمون أمام تهديدات الأحباش قبل القرن الثامن رغم ندرة الوثائق التي تغطي هذه الحقبة، أي أن تشييد هذه الممالك الإسلامية كان خلفه قصة طويلة من التعب والصبر والتضحية وجمع أسباب القوة في سبيل إقامتها.

وأشار المؤرخان ياقوت الحموي وعلي بن موسى بن سعيد المغربي إلى أن الصومال على مدار مائة عام امتدت من سنة 1150 وحتى سنة 1250 لعبت دورًا بالغ الأهمية في التاريخ الإسلامي باعتبار الصومال واحدة من أغنى الأمم الإسلامية في تلك الفترة. تقود هذا المجد سلطنة عدل، التي كونت إمبراطورية شاسعة امتدت من رأس قصير عند مضيق باب المندب وحتى منطقة هاديا بإثيوبيا. وانضمت سلطنة عدل تحت حكم سلطنة أوفات الإسلامية والتي بسطت ملكها على العديد من مناطق إثيوبيا والصومال، إلى غاية سقوط مملكة أوفات ثم واصلت مسيرتها باسم مملكة عدل، وازدانت المملكة بنهضة اقتصادية وحضارية بارزة.

وبحسب بعض المراجع لجامعة إفريقيا العالمية، فإن “الزيالعة أو الصوماليون مغايرون ومتميزون عما حولهم سواء من ناحية اللغة أو الدين أو العادات والتقاليد، فهم جميعًا مسلمون وتجمعهم تقريبًا وحدة الأصل والتاريخ، ويعتقدون أنهم ينتمون لسلالة معينة. ولذلك كان التمايز بينهم واضحًا مع جيرانهم سواء في بر الحبش (إثيوبي) أو في بر الزنج (كينيا وما وراءها)”. هذا دون أن ننسى وجود اختلافات داخلية بين قبائلهم وفصائلهم. “فهناك قبائل الصومال وقبائل العفر (الدناكل) وقبائل الجالا والجماعات العربية، لكنها جميعًا تشترك في إطار الإسلام والثقافة الإسلامية.

ولم يجتمع هؤلاء الزيالعة أو الصوماليون في مملكة واحدة بل توزعوا بين عدة ممالك لكل منها حاكمها، ولم تكن متحدة أو متعاونة في معظم الأحيان. ومع ذلك تركت هذه الممالك خلفها مظاهر الحضارة الإسلامية وفن العمارة وتاريخًا ممتدًا في فنون التجارة والصناعة والعناية بالثروة الحيوانية.

كما برز معها عدد من العلماء والأدباء الأعلام، منهم المؤرخ المشهور عبد الرحمن الجبرتي (1168 هـ، 1754م) والإمام العلامة جمال الدين محمد بن عبد الله بن يوسف الزيلعي (762 هـ) والذي من أشهر مؤلفاته (نصب الراية لأحاديث الهداية) في أربع مجلدات، اعتنى به كبار العلماء منهم قاسم بن قطلوبغا (879 هـ) والحافظ ابن حجر العسقلاني (842 هـ) من بين أسماء أعلام أخرى كثيرة. واتبع أغلب سكان ممالك الطراز الإسلامي المذهب الشافعي واستمر انتشار هذا المذهب إلى اليوم في الصومال.

ويشير المؤرخون إلى حالة الضعف التي نالت من هذه الممالك الإسلامية مع بداية القرن الحادي عشر الهجري حينما اخترق حدود الحبشة من جنوب نهر وابي شعوب جالا الوثنيين حتى كادوا يقضون على الإسلام فيها. وقد انتزعوا من المسلمين مملكتي بالي وهدية وتوغلوا في هضبة الحبشة وانتشروا في بلاد كثيرة.

كما عرفت هذه المرحلة التي ظهرت فيها ممالك الطراز الإسلامي صراعًا شديدًا مع مملكة الحبشة النصرانية، حيث دارت العديد من الحروب بين الجانبين أدت إلى هزيمة مملكة أوفات (أكبر مملكة من ممالك الطراز الإسلامي) ومقتل سلطانها آنذاك السلطان سعد الدين الثاني على يد الإمبراطور داوود الثاني إمبراطور الحبشة وتدمير مدينة زيلع على يد جيوشه عام 1403م. لتبدأ مرحلة أخرى من الكفاح لأجل حفظ الدين والهوية.

ولا شك أن أحد أهم أسباب ضعف الممالك الإسلامية هو تفرقها وعدم تحالفها في قتال الأحباش النصارى ويفسر هذا الضعف -جزئيًا- نجاح ملوك الحبشة في إيقاع العداوة بين هذه الممالك الإسلامية، وشغل بعضها البعض بالدسائس، حتى لا تجتمع كلمتها وشعوبها صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص.

مملكة شوا أول مملكة إسلامية

ومع أن المؤرخين لا يذكرون مملكة شوا الإسلامية من بين ممالك الطراز الإسلامي إلا أن ذكرها في هذا التصنيف مهم ولازم، فمملكة شوا الإسلامية والتي امتد ملكها لحوالي 4 قرون هي أول مملكة إسلامية في بلاد الحبشة وكانت مدة حكمها التي انطلقت في عام 283 هـ- 896 م حافلة بالنشاط والاتصالات مع الجزيرة العربية وشرق أفريقيا وانتهت بضمها تحت سلطان مملكة أوفات الإسلامية.

وقامت مملكة شوا في وسط الهضبة الحبشية في نهاية القرن التاسع ميلادي على الأرجح، على يد قبيلة عربية تنتسب إلى قبيلة مخزوم القرشية وظلت هذه المملكة تؤدي رسالتها في الهضبة الحبشية حتى سقطت على يد مملكة أوفات المجاورة أواخر القرن الثالث عشر ميلادي أي نحو عام 688 هـ- 1289 م بعد أن دب فيها الضعف، ومزقت أوصالها المنازعات الداخلية على السلطة.

ولم يظهر الصراع الداخلي بين أمراء هذه السلطنة إلا في المائة عام الأخيرة من عمرها وخاصة منذ عهد السلطان “حسين” (575 هـ – 1179 م)، وقد أدت هذه الظروف السيئة إلى تدخل “عمر ولشمع”، وهو سلطان “أوفات”، فدخل مملكة شوا وسيطر على مقاليد الحكم وتخلص من نزاعات الملك فحفظ بذلك سلطان المسلمين ومنع الأحباش من الاستيلاء على هذه المملكة الإسلامية بعد أن ضمها لمملكته أوفات.

سلطنة أوفات الإسلامية

سطع نجم سلطنة أوفات الإسلامية في أواخر القرن الثالث عشر ميلادي (669هـ/1270م-817هـ/1414م) وكان قد أسسها عرب قرشيون مهاجرون يرجع نسبهم إلى عقيل بن أبي طالب. ممن نزل من التجار القادمين من اليمن والحجاز، وسكنوا في ناحية تسمى جبرت من أراضي زيلع وسموا بعد ذلك الجبرتية.

وجمعت هذه الجماعة صفات الحزم والحكمة وعلوم الهمة فضلًا عن أنها من أهل الشرف والسيادة مما مكنها من تأسيس دولة إسلامية جعلوا قاعدتها مدينة “أوفات” وتعرف بـ”جبرت” وتقع غربي زيلع، ونظموا إدارتها وأحكموا أمرها فدان لهم أهلها بالطاعة، وأخذ سلطانهم يقوى ونفوذهم يمتد وملكهم يتسع.

وسمح موقع هذه المملكة في جنوب الهضبة الحبشية من السيطرة على طرق القوافل، بين ميناء زيلع على الساحل وبين المناطق الداخلية. كما ساهم نشاط الحركة التجارية في تقوية علاقات السلطنة مع مصر واليمن وغيرها من الدول المطلة على البحر الأحمر بشكل خاص.

وهذه السلطنة كانت أوسع ممالك الزيلع حيث كانت تشمل ما يعرف الآن بجيبوتي والجزء الجنوبي من إقليم إرتيريا وسهول الدناكل وتمتد جنوبًا وتضم الجزء الشرقي من حوض نهر عواش، والهضبة الصومالية بما فيها منطقة هرر والأوجادين، وتمتد شرقًا لتشمل جزءًا كبيرًا مما يعرف الآن بالصومال الشمالي بما فيه من موانئ زيلع وبربرة.

فسيطرت مملكة أوفات بفضل موقعها الإستراتيجي على مدخل البحر الأحمر من الجنوب الغربي وقابلت بلاد اليمن، وأصبحت حلقة وصل بين الممالك الإسلامية على طول الساحل في شرق أفريقيا ودول العالم الإسلامي، وازدهرت في زمانها الزراعة والتجارة وتربية المواشي، واشتهرت برخص الأسعار ولا شك أن هذا الصعود رافقه اهتمام بقوتها العسكرية ومكونات جيشها وجهاد يستقوي باقتصاد قوي تحمل أعباء الكفاح ضد الحبشة النصرانية.

ومما يجدر ذكره أن سلطان مملكة أوفات كان يجلس بنفسه لحل قضايا الرعية رغم وجود القاضي في محاكاة لما فعله الخلفاء الراشدون عند القضاء بين الناس بشكل مباشر لاسيما في القضايا التي لا تدخل ضمن صلاحيات القاضي.

مملكة مقديشو

ومن أشهر ممالك الطراز الإسلامي، مملكة مقديشو والتي أسسها في عام (285هـ-908م) سبع إخوة هاجروا على رأس مجموعة من قبيلة بني الحارث، في أواخر القرن الثالث الهجري، وأصبحت مملكة قوية ذات شوكة ونفوذ حتى وصفها الرحالة المسافرون بأنها “مدينة الإسلام المشهورة”، “كثيرة المساجد عظيمة العمران”.

وتمكن بنو الحارث مع السكان الصوماليين الأصليين من إنشاء مدينة أخرى سميت مركة وهي تقع على بعد نحو 100 كم جنوب غرب مقديشو اليوم.

وسادت مملكة مقديشو المنطقة كمركز تجاري هام ينبض بالحياة ويعج بحركة التجار ويقبل عليه المسلمون الأفارقة من كل مكان لأداء الصلاة في مسجدها الكبير، وبقيت متصدرة السيادة في المنطقة زهاء سبعين عامًا إلى أن أنشئت إمارة كلوة في الجنوب فنافستها في السيادة. ويجدر الإشارة إلى أن الرحالة الشهير ابن بطوطة زار مملكة مقديشو سنة 731هـ ووصف بعض مظاهر الحياة فيها.

مملكة كلوة

وهي المملكة التي أنشئت بعد مملكة مقديشو، أسسها الشيرازيون (365-902هـ/975-1499م)، بقيادة علي ابن الحسن بن علي الشيرازي وبنيه، وعاصمتها كُلْوَة التي اشتهرت كقاعدة ومركز كبير لنشر الإسلام والثقافة الإسلامية بين القبائل الأفريقية في الساحل وفي داخل المنطقة.

وهذا ما أجمعت عليه المصادر العربية القديمة بخلاف المصادر التي تنسب تأسيس هذه السلطنة إلى جماعة هاجروا في عهد عبد الملك بن مروان.

وسيطرت هذه المملكة على جزر كثيرة لساحل شرق أفريقيا والجزر المواجهة وامتد نفوذها على المدن المجاورة مثل مومباسا وزنجبار والبعيدة مثل جزر القمر، وشهدت الممالك على طول الساحل من مقديشو شمالًا إلى سفالة وموزمبيق جنوبًا لسلطان كلوة على أنه الأقوى في ذلك الزمان. وقال ابن بطوطة يصف كلوة: “وركبنا البحر إلى مدينة كُلْوَة وهي مدينة عظيمة ساحلية أكثر أهلها من الزنج المستحكمي السواد ولهم شرطات في وجوههم، ومدينة كلوة من أشهر المدن وأتقنها عمارة وكلها بالخشب والأمطار بها كثيرة. وهم أهل جهاد لأنهم في بر واحد متصل مع كفار الزنج والغالب عليهم الدين والصلاح وهم شافعية المذهب”.

وأضاف الرحالة الشهير: “وكان سلطانها في عهد دخولي إليها أبو المظفر حسن ويكنى أيضًا أبا المواهب لكثرة مواهبه ومكارمه، وكان كثير الغزو إلى أرض الزنوج يغير عليهم ويأخذ غنائمهم فيخرج خمسها فيصرفه في مصارفه المعينة في كتاب الله تعالى. ويجعل نصيب ذوي القربة في خزانة لوحده، وكان الشرفاء يقصدونه من العراق والحجاز وسواها، ورأيت عنده من شرفاء الحجاز جماعة، وهذا السلطان له تواضع شديد ويجلس مع الفقراء ويأكل معهم ويعظهم أهل الدين والشرف”.

ويذكر المؤرخون أنه كان في كلوة آنذاك ثلاثمائة وستون مسجدًا وهي تقع اليوم في تنزانيا.

مملكة عدل

تعتبر مملكة عدل (805هـ/1402م-959هـ/1543م) من المماليك المنضوية تحت سلطان مملكة أوفات حتى عام 805هـ/1402م وكانت تعرف باسم “عدل الأمراء” ولكن بعد سقوط مملكة أوفات قامت بدلًا منها مملكة عدل وبقيادة نفس الأسرة التي كانت تحكم أوفات.

وكان سلطانها أصغر من سلطان أوفات من حيث المساحة والقوة العسكرية والاقتصادية. حيث حكمت المناطق الممتدة بين ميناء زيلع وهرر والممتدة جنوبًا لتشمل جزءًا مما يعرف الآن بالصومال الشرقي وإقليم أوجادين.

وكانت عاصمتها تسمى دَكَّر حتى عام 927هـ/1531م قبل أن تنتقل إلى مدينة هرر في عهد السلطان أبي بكر ابن محمد. وتوسعت مملكة عدل في عهد الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي حتى ضمت كل ممالك الطراز ومعظم أقاليم الحبشة المسيحية بفضل فتوحات الإمام أحمد. لكن تلاشى أوج قوتها في عام 959هـ/1543م بعد أن استشهد الإمام أحمد فتقلصت حدودها لتصبح دويلة صغيرة بين هرر وسواحل زيلع والصومال.

مملكة فطجار

كانت هذه المملكة التي أنشئت في عام (935هـ/1528م) تقع حول الجزء الأوسط من نهر عواشي في شماله وجنوبه، ورغم موقعها الهام في الخريطة بين عدد من الممالك الإسلامية إلا أنه لم يرد ذكرها عند العمري والقلقشندي والمقريزي، لكن ذكرها عرب فقيه كأرض وقعت عليها المعركة الشهيرة التي تسمى معركة “شمبر جورا” والتي كانت أول نصر كبير لمسلمي الزيلع على نصارى الحبشة عام 935هـ/1529م. واشتهرت مملكة فطجار بالقوة العسكرية بالمقارنة مع مثيلاتها في ذلك الزمان.

مملكة هرر

تمركزت مملكة هرر (927هـ/1052م-949هـ/1542م) في الجنوب الشرقي من بلاد الحبشة من ميناء زيلع الصومالي أو مباشرة من الناحية الجنوبية الغربية، في هيئة مثلث تمتد أضلاعه وتستند عند مدينتي زيلع وبربرة.

ويمكن التأريخ لقيام مملكة هرر منذ أن توج أمير نور حاكم زيلع ملكا على مملكة هرر بعد مقتل خاله الإمام الغازي أحمد بن إبراهيم، في 21 فبراير 1543م وكان الإمام أحمد قد حكم المملكة منذ عام 1528م، واستمرت مملكة هرر قائمة حتى عام 1875م حيث ضمها المصريون إلى إمبراطوريتهم الأفريقية في ذلك العام.

ولكن خلال سبعون سنة منذ عام 1585 إلى عام 1647 وقعت مملكة هرر تحت سيطرة قبائل الجالا الحبشية. ويجدر الذكر أن سلاطين مملكة هرر مالوا إلى مهادنة الأحباش. إلا أن أول أمرائها إعلانًا للجهاد ضد نصارى الحبشة كان عقب وفاة السلطان محمد بن بدلاي عام 876هـ/1471م.

مملكة دوارو

تقع مملكة دوارو جنوب مملكة أوفات وفي الجنوب الشرقي لمملكة فطجار، وتتشابه ظروف الحياة فيها مع مثيلاتها من الممالك الإسلامية السابقة، وإن كانت مساحتها أقل. ورغم صغر حجمها كانت تملك جيشًا قويًا لا يقل عن جيش أوفات في عدد الفرسان والمشاة.

مملكة بالي

تقع جنوب فطجار ويفصلها عن مملكة دارو نهر شيبلي. وتقع فيها منابع وروافد نهر جوبا الذي ينحدر جنوبًا حتى يصب في المحيط الهندي جنوبي بلاد الصومال.

ونظرًا لما كانت تتمتع به من أراضي خصبة وجو جميل كان سكانها كثيرون وجيشها كبير العدد، إذ بلغ فرسانه ثمانية عشر ألف فارس، ومشاتها أكثر من ذلك.

مملكة داره

تقع مملكة داره جنوب مملكة بالي، كانت ضيقة المساحة وضعيفة نسبيًا أمام بقية ممالك الطراز الإسلامية. كما كانت أقل الممالك الإسلامية خيلًا ورجلًا، فعسكرها لا يزيد عن ألفي فارس وألفين من المشاة.

مملكة هدية

تقع مملكة هدية جنوب إقليم شوا وكانت أقل مساحة من مملكة أوفات أكبر ممالك الطراز، ورغم ذلك فقد كان جيش هدية أكبر عددًا، إذ يبلغ عدد فرسانها نحو أربعين ألف فارس، أما المشاة فهم أكثر من ذلك بمرتين بينما بلغ عدد فرسان أوفات أكثر من نصف هذا العدد. ومع هذه القوة العسكرية فقد وقعت هدية تحت نفوذ الأحباش منذ وقت مبكر وخاصة بعد ضعف سلطنة عدل.

مملكة أرابيني

مملكة أرابيني مملكة مربعة، أي أن طولها وعرضها نفس المسافة، وعسكرها يقارب عشرة آلاف فارس؛ أما المشاة فعدد كبير للغاية.

مملكة شرخة (شرحا)

تقع مملكة شرخة جنوب مملكة هدية، وكانت مساحتها محدودة وضيقة، أما جيشها فكان يضم ثلاثة آلاف فارس وضعف هذا العدد من المشاة.

تاريخ من الصراع مع النصارى الأحباش

ومما يجدر الإشارة إليه أن ممالك دهلك وعوان كانت تقع في كثير من الأحيان تحت نفوذ حكام الحبشة، أما مقديشو فكانت سلطنة مستقلة عن الأحباش والزيلع.

وبشكل عام عاشت ممالك الطراز الإسلامي صراعًا تاريخيًا قديمًا مع الأحباش الذين كانوا يغزونها في كثير من الأحيان. ويسلطون آلة القتال والاضطهاد على شعوبها، ويفرضون سيطرتهم تحت سلطانهم ويعمدون إلى إبقاء حكام من أسر مسلمة تتوارث الحكم فيها تحت المظلة الحبشية.

يقول المقريزي في كتابه “الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام”: “ولكل مملكة من هذه الممالك السبع ملك، ويتسلط عليهم جميعها “الحطى/ السلطان” ملك “أمحرة” ويأخذ منهم القطيعة من المال كل سنة، وبها المساجد والجوامع التي تقام بها الجمعة والجماعة، وعند أهلها محافظة على الدين”[4].

وقال الأعشى: “وقد سيطر “الحطى/ السلطان”، ملك الحبشة النصارى على معظم هذه الممالك بعد الثمانمائة، وخربها وقتل أهلها وحرق ما بها من المصاحف، وأكره الكثير منهم على الدخول في دين النصرانية، ولم يبق من ملوكها سوى ابن مسمار، المقابلة بلاده لجزيرة دهلك تحت طاعة “الحطى/ السلطان”، وله عليه إتاوة مقررة”[5].

ومما يجدر تسليط الضوء عليه أن المؤرخين بدأوا في تدوين أخبار بلاد الحبشة مع حلول القرن الثامن الهجري وكان من بينهم المقريزي الذي عاصر الحوادث التي كانت تجري بين ملوك الحبشة والمسلمين ودون جزء منها في كتابه (الإلمام) وفي هذا الكتاب ورد ذكر النجاشي إسحاق ابن داود، الذي تولى على الحبشة سنة 812 هـ (1409 م) فقال عنه: “وهذا الملك قوي أمره بوفود قوم من الجراكسة إلى بلاده، أنشأوا فيها مصنعًا للسلاح كالسيوف والرماح والخناجر بعد أن كانت الحراب والنشاب عماد سلاحهم. وكذلك انتظمت مالية دولته بوجود رجل قبطي من مصر ولاه أمر أموال المملكة، فأحسن ضبطها وإنمائها فعمها اليسر والرخاء”.

فعند ذلك طغى النجاشي وبغى واتفق مع رجال دولته على انتزاع ممالك المسلمين من أيديهم وإجلائهم عن البلاد أو إبادتهم.

وأضاف المقريزي: “فلما تحضرت دولته وقويت شوكته، سولت له شياطينه أن يأخذ ممالك الإسلام فأوقع بمن تحت يده في مملكة الحبشة من المسلمين وقائع شنيعة، طويلة قتل فيها وسبى واسترق عالمًا لا يحصيه إلا خالقه سبحانه وتعالى”.

ولم يكتف بذلك بل سارع لمراسلة ملوك الإفرنج يحثهم على مساعدته في إزالة النفوذ الإسلامي في المنطقة وأخذ يجمع لهذا الأمر، لكن الله تعالى عاجله بالموت سنة 833 هـ (1429 – 1430 م).

ومن هنا يظهر لنا جانب من العداوة الشرسة التي كانت تهيمن على مشهد الصراع بين المسلمين والنصارى الحبشة، حيث اشتهر الأحباش بالاعتداء على الجار، وخشيتهم من تمدد الإسلام الذي قضى على الوثنية في بلادهم واستبدلها بشعائر الإسلام فأخرج الناس من الظلمات إلى النور.

وكان دأب المسلمين في هذه المرحلة هو الجمع والإعداد لمقاومة العدوان الحبشي الذي يحاربهم حربًا عقدية تدفع باتجاه اجتثاثهم من المنطقة أو تنصيرهم.

واشتعلت روح المقاومة والجهاد في نفوس المسلمين كلما تصاعد عدوان الأحباش، وزاد الأمر حدة عندما امتد نفوذ دولة الممالك الإسلامية إلى شمال الحبشة فقام الحبشي “يكون أملاك” بتأسيس دولة حبشية وهي الأسرة السليمانية وأخذ يشن الغارات على المسلمين في الجنوب والجنوب الشرقي.

إلا أن المسلمين آنذاك قاموا لدفع عدوان الأحباش وحمي وطيس الحرب بينهم ودامت هذه الحروب الشرسة نحو 3 قرون طويلة، وبلغت أوجها في القرن العاشر الهجري (16 ميلادي) حين تولى النجاشي “لبنا دنقل” الحكم وولده “كلاوديوس” من بعده.

ومع شدة العدوان الحبشي عانى المسلمون أيام شدة عظيمة وضعفت دولتهم التي كانت عاصمتها هرر سنة 926 هـ (1520) م وكادت تنهار ويقضى عليها لولا أن قام من المسلمين بطل جسور، غيّر موازين الصراع هو الإمام أحمد بن إبراهيم حيث جمع كلمة المسلمين وتولى أمرهم وقيادتهم أفضل وأرشد قيادة حتى لقبوه الإمام والغازي وصاحب الفتح لفتحه الحبشة وسيطرته عليها.

الإمام الغازي أحمد بن إبراهيم (1507–1543م)

ما أن كادت ممالك المسلمين أن تنهار حتى أظهر الله أحد عباده الصالحين، أحمد بن إبراهيم ليسطر من البطولات ما سيغير به مستقبل الحبشة برمتها ويحفر به سيرة أشهر علم من أعلام الإسلام في أفريقيا.

وقد لقبه الصوماليون بـ “جري” وتعني أعسر، لأنه شن على الحبشة حملات شديدة وتوغل في البلاد إلى عمق مملكة الحبشة وتمكن من إدخال ثلثي الأحباش النصارى للإسلام.

ولد الإمام أحمد في هرر سنة 1507م وترعرع في زيلع واستشهد في سنة 1543م، وخلال سنوات قليلة تمكن من غزو الحبشة وهزيمة العديد من ملوكها، وبالتالي إنهاء تهديد النصارى الأحباش للممالك الإسلامية، وبفضل عزيمته التي لا تبارى في الغزو والفتوحات وصل بجيشه إلى غاية البحيرات العظمى التي تضم بحيرات: فكتوريا وتنجانيقا ونياسا وتوركانا وألبرت وكيفو، وتشمل المنطقة حاليًا دول: (بوروندي ورواندا وأوغندا والكونغو الديمقراطية وتنزانيا)، وتعتبر هذه الدول أغنى مناطق إفريقيا بالماء وأغناها بمعادن الأرض وثرواتها الثمينة. وأكدت بعض الدراسات التاريخية على أن الإمام أحمد وصل إلى غاية مدينة كسلا في السودان اليوم، غازيًا في سبيل الله.

ولا عجب أن بسط هذا الغازي البطل بهمته المذهلة سيطرته على ما يصل إلى 90% من أراضي الإمبراطورية الإثيوبية وخاصّةً الأقاليم الأربعة الكبرى، وهي: شيوا وأمهرا وفتجير وبيل، ومعظم سكان هذه الأقاليم من قبائل اختارت الإسلام دينًا لها.

وبهذا دخلت أغلب أراضي الأحباش تحت سلطان سلطنة عدل خلال الحرب العدلية الحبشية في الفترة الممتدة من 1529 إلى 1543م.

ويشهد التاريخ لهذا الإمام الفاتح أن حروبه مع الحبشة بلغت أقصى حد من الحماسة والإقدام لأن المسلمين اعتبروها جهادًا شرعيًا فتسابقوا على نيل مرتبة الشهادة والنيل من عدوهم بشكل مستميت.

وأفضل من جمع هذا التاريخ في كتاب واحد من جزئين هو العلامة الشهاب أحمد عبد القادر الجيزاني المدعو عرب فقيه والذي سماه “فتوح الحبشة”. ومع توفر الجزء الأول إلا أن الجزء الثاني قد اختفى بشكل غريب، وتقول بعض المصادر أنه يتواجد بأحد متاحف بريطانيا كنسخة وحيدة.

وازدان هذا الكتاب بجمع قصص الفروسية والبطولة وهول الوقائع التي قام بها المسلمون في مواجهة النصارى الأحباش ما ليس له نظير في الأخبار المتداولة، فكانت الأقرب للفتوحات الإسلامية الأولى وبطولاتها.

إنه الإمام أحمد الذي أعاد لحكام المنطقة المسلمين سيرة الحكم الإسلامي الراشد فأقام الشريعة الإسلامية وحكم بين الناس بالعدل وازدهرت البلاد تحت حكمه واستقرت، وأمن الناس، بل وأدخل الأحباش النصارى والوثنيين في الإسلام حتى لم يبق على النصرانية إلا قرابة عشرهم.

ووصل المجد بالإمام أحمد بعد توحيده ممالك المسلمين جميعًا تحت سلطانه، بأن تربع على عرش الحبشة كلها وانتصر على الأحباش الذين كان المسلمون من قبله يؤدون لهم الإتاوة والجزية، فتبدل حالهم للدخول تحت سلطانه واعتناق الإسلام، فسبحان مغير الأحوال.

ومن الجدير بالاهتمام في سيرة هذا البطل المسلم هو أنه بالرغم من انشغاله بالجهاد ورد عدوان النصارى الأحباش وحلفائهم البرتغاليين إلا أنه قام بجد وتفاني في تحقيق الازدهار الحضاري لدولته، بالاهتمام بميادين العلم والدعوة والمجتمع والسياسة والاقتصاد، فنجح في توفير حياة مستقرة كريمة لرعيته، لتتفرد فترة حكمه وتتألق مقارنة مع من سبقه من حكام، فأصبح بفضل هذه العبقرية أشهرهم وأعدلهم وأقواهم على الإطلاق.

واستمرت بطولات هذا العلم الفذ في هذا الجزء الاستراتيجي من العالم الإسلامي يقيم حكم الشريعة الإسلامية ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فاستقرت البلاد بعد أن طهرها من قطاع الطرق ورفع من مكانة أهل العلم والفقهاء وقربهم إليه. فضلًا عن اهتمامه وعنايته الفائقة بأمر الجيش والإعداد، وجمع الآلات والسيوف والخيول يحدوه هدف واحد، الغزو في بلاد الحبشة فما لبث أن فتح الكثير من هذه البلاد.

وتوالت المواقع العظيمة كموقعة “شمبر جورا” فازداد معها قوة وازداد أعداؤه معها ضعفًا. ويجدر الذكر أن عمر الإمام أحمد جري في ذلك الوقت الذي انطلق فيه يسطر الانتصارات الباهرة لم يتجاوز إحدى وعشرون سنة، وقد علم عنه شدة حبه للجهاد حتى أنه كان يبكي البكاء الشديد إن حرم القتال.

استنجاد الأحباش بالبرتغاليين

ولم يحدث تغيير في مشهد القوة الذي وصل إليه أحمد جري، إلا عند قدوم جحافل البرتغاليين الذين هبوا لنجدة الأحباش، وكان البرتغاليون الذين كانوا في أوج قوتهم في تلك الحقبة قد احتلوا جزئًا من شرق أفريقيا فأمدوهم بمدافع وجنود مدربين على استعمالها. وجاء في كتاب فتوحات الحبشة، أن الإمام أحمد بقي يقاتل الأحباش بجيشه البالغ عدد رجاله عشرة آلاف مدة 12 سنة من سنة 937 إلى سنة 950 هـ (1531م – 1543م) حتى استشهد مقبلًا غير مدبر في معركة من معاركه الضارية بعد أن قتل القائد “كريستوفر دي غاما” ابن “فاسكو دي غاما” والملك “لبنا دنقل” الحبشي في معركة وفلة.

ويجدر الإشارة إلى أن تمكّن البرتغاليين من جيش الإمام أحمد جاء بعد هزيمتهم أمام المدد العثماني آنذاك الذي وصل للإمام أحمد في قتاله مع القوات البرتغالية، وبالفعل تمكن العثمانيون من مساعدة الإمام أحمد وإمداده بالمدافع التي يعتبر جيشه أول من استعملها في تاريخ القادة المسلمين في شرق أفريقيا. وما أن استتب الأمر قليلًا وابتعد العثمانيون حتى تفاجأ الإمام أحمد بجمع البرتغاليين له بشكل أشرس، والهجوم عليه بمدافعهم وجحافل جنودهم، ومع ذلك استبسل في القتال ضدهم حتى سقط شهيدًا ليختم بطولاته بمرتبة يتسابق عليها النجباء في كل عصر.

وخلفه ابن اخته الأمير نور بن مجاهد على قيادة المجاهدين وسلطنة هرر فكان من خيرة القواد وسماه المسلمون صاحب الفتح الثاني، وهو الذي قتل النجاشي “كلاوديوس” سنة 966 هـ (1559 م) في إحدى المعارك. وما زال قائمًا بالأمر حتى لقي ربه سنه 975 هـ (1568 م).

ولكن للأسف انتهى بموت الأمير نور الدين بن مجاهد، مجد مملكة هرر الإسلامية فعادت الحبشة إلى جبروتها وعدوانها، وإلحاق الأذى بالمسلمين الذين عجزوا بعد تلك الحرب الطاحنة عن مقاومة تعدياتها.

واستمرت نيران الصراع مشتعلة والمسلمون في ضعف، فاستولى العثمانيون على مصوع في سنة 964هـ 1557م، وبدأوا يتدخلون في شئون الحبشة، ويشدون أزر المسلمين، في البلاد التي تسمى الآن إريتريا. لكن الأحباش لم يستسلموا لنصرة العثمانيين فانتهى الأمر بحرب عنيفة بينهم وبين العثمانيين انتصر فيها الأحباش بقيادة النجاشي “صاجاد” وانتهى حكم العثمانيين هناك سنة 986هـ 1578م.

أما مسلمو شرقي الحبشة فتجمعوا في منطقة “أوسه” واتخذوها مقرًا لهم عوضًا عن هرر.

ولكن من فضل الله على أهالي ممالك الطراز الإسلامية أن الحملة الإسلامية التي قادها الإمام أحمد بن إبراهيم ومن بعده ابن اخته الأمير نور بن مجاهد لم تذهب سدى فقد كانت سببًا في انتشار الإسلام في الهضبة إلى قلب الحبشة ودخل الناس في دين الله أفواجًا فكان لهذا الدخول تأثيرًا آخرًا عميقًا في مشهد الصراع في شرق أفريقيا.

عدو يمسي حبيبًا وجار يظل عدوًا

في حوالي سنة 1195 هـ (1780م) استولت قبائل جالا، ولو، وإيجو على “بغمدر” وعلى قسم من أمهرا، فأصبح رئيس إيجو الذي اعتنق الإسلام يبدي تعاطفًا مع المسلمين ويسمح لهم بأداء شعائرهم وكان ذلك فاتحة عهد جديد للمسلمين. يقول صاحب كتاب الإسلام في الحبشة: “يندهش المطلع على تاريخ الحبشة حين يعلم أن المسلمين يجاورون الحبشة من القرن الأول للهجرة ينشرون بينهم الفضيلة ويراعون ذمتهم من القرن الأول والحبشة توالي عليهم الغارات وتسعى بكل الوسائل لإبادتهم وأن قبائل جالا الذين هم على الوثنية، بعد عداوتهم الشديدة للمسلمين وشن الغارات عليهم ينقلبون أصدقاء وأخلاء فيدخلون في الإسلام ويحفظون الولاء للمسلمين”.

وقامت نهضة إسلامية كبيرة في البلاد في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي) بلغت ما حولها من المقاطعات شرقًا وجنوبًا بفضل ما بلغته مملكة هرر من التقدم في العلوم الإسلامية واتصالها باليمن والحجاز.

الحملة المصرية على الحبشة

رسم يعبر عن محمد علي باشا.

ووصل تأثير هذه النهضة إلى غرب الحبشة بعد أن فتح السودان عزيز مصر، محمد علي باشا. ويرى بعض المؤرخين أن النهضة الإسلامية بلغت أوجها بعد دخول مصر لزيلع في جمادى الأولى سنة 1293 هـ (1875م). لكن ما أن خرج المصريون من إمارة هرر وقاموا بسحب حاميتهم سنة 1885م وأعيد إلى عرش الإمارة الأمير عبد الله بن علي حتى كشر الملك منليك صاحب شوا عن أنيابه فأغار بجيشه على عبد الله في سنة 1305هـ 1887م فكان قدره الهزيمة والفرار إلى بلاد أوجادين.

وتسلط منليك بعد ذلك على عمه الذي زج به في سجن شوا، ليذوق بعدها المسلمون القاطنون في الهضبة الحبشية العذاب والأذى والاضطهاد ما يصعب وصفه.

وفي الواقع فإن النجاشي منليك منذ أن اعتلى عرش الحكم وهو يتوعد بإخضاع جميع الممالك الإسلامية والبلاد الوثنية المتاخمة للهضبة الحبشية، فامتلك أوسة الواقعة في السهل المنخفض للجهة الشرقية، وكان المسلمون قد اتخذوها مقرًّا لهم بعد ذهاب “أمهرا” منهم. ثم أخضع بلاد “الأوجادين” والكثير من الأقاليم الأخرى.

ويسجل التاريخ حملتين لمصر ضد الحبشة؛ الأولى كانت بقيادة الأمير “حسن باشا” ابن الخديو “إسماعيل باشا”، فهزمها الأحباش هزيمة شديدة في موقعة “قراع” سنة 1288ﻫ/1871م، وتمكنوا من أسر من نجا من القتل، كما أجبروا ضبَّاطها المصريين على أن يمروا أمام الجمهور وهم عراة استهزاءً بهم وسخرية. والثانية كانت في سنة 1292ه /1875م بقيادة جنرال دنماركي، فانهزمت هزيمة أشد في واقعة “غندات” أو “غودَّا غودي” على مرأى من النجاشي “يوحانس”.

الصومال في مرمى أهداف الاحتلال الأوروبي

وخلال القرن التاسع عشر ظهر خطر جديد يستهدف أراضي المسلمين في شرق أفريقيا حيث قررت الدول الأوروبية الكبرى بعد مؤتمر برلين عام 1884، إرسال جيوشها إلى منطقة القرن الأفريقي لاحتلال هذه المنطقة الاستراتيجية في العالم إلا أن الله استعمل لرد عدوانهم عبدًا من عباده المسلمين لم يكن في الحسبان، وبدأت قصة مجد تليد امتدت فصولها بروائع البذل والمسابقة والتضحية.

إنه الملا محمد عبد الله حسن، مؤسس الدولة الدرويشية، الذي على خطى الإمام أحمد جري الغازي تمكن من حشد الصوماليين من شتى أنحاء القرن الأفريقي وانطلق في حرب صنفت كأحد أطول حروب المقاومة ضد الاستعمار على مدار التاريخ.

ثورة سيد محمد عبد الله حسن (7 أبريل 1856م – 21 ديسمبر 1920م)

وبفضل دولة الدراويش تمكن المسلمون في القرن الأفريقي من صد هجوم الإنجليز وإيطاليا مرات متتالية وإجبارهم على الانسحاب نحو الساحل، حيث حصلت فصول طويلة من الصراع عرضتها في سيرة الملا سيد محمد عبد الله حسن في كتاب نجوم على الطريق، وتناولها بتفصيل أكثر الدكتور عبد الصبور مرزوق في كتابه ثائر من الصومال.

وتمددت دولة الدراويش واشتد بنيانها وازدادت قوتها حتى أن اتصالات جرت بينها وبين الدولة العثمانية ونصبت رايات الدولة التي كانت تمثل آخر شكل من أشكال الخلافة في ذلك الزمان ومع أنها كانت في مرحلة ضعف، فإن حرص الملا محمد عبد الله حسن على الانتماء لأمة الإسلام كان فقها نيّرًا.

ويجدر الإشارة إلى أن محمد بن عبد الله حسن المنحدر من إحدى القبائل الصومالية في أوجادين والذي كان يلقبه البريطانيون ب”الملا المجنون”. شن حروبًا ضد المحتلين الأوروبيين والقبائل والكيانات الموالية لهم وأيضًا ضد الأحباش الحاقدين فكان يقاتل أعداء مختلفين على جبهات متعددة. ومع ذلك تمكن الدراويش من توحيد صف المسلمين وبناء القلاع وتشييد الحصون وحفر الآبار وتطوير المدن وتثقيف المجتمع، وحثهم على الجهاد ومقارعة قوى الاحتلال وأعوانه، وظهرت خلال 20 سنة ممتدة من الجهاد الأساليب الدفاعية وبناء وحدات للهجوم السريع والمباغت التي أرقت القادة الإنجليز والإيطاليين. وبرزت عبقرية الملا محمد عبد الله حسن في جميع أنواع الإدارة، الدعوية والتعليمية والاقتصادية والعسكرية فكان بالفعل نموذج دولة إسلامية مبهر أنقذ الله به الأمة في هذه المنطقة من التنصير الذي كان يجري على قدم وساق بالتوازي مع رحى الصراع العسكري.

وقد ذكر الباحث المستشرق توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام The Preaching of Islam الذي نشره عام 1898، أن خمسين ألفًا من المسلمين أُكرِهوا على قبول العماد أي التنصير في سنة 1880م في القرن الأفريقي.

واستمرت موجات التنصير إلى اليوم في هذه المنطقة حيث يروي أهل البلاد قصصًا عجيبة غريبة مع محاولات التنصير التي تسلطت عليهم.

وأورثت دولة الدراويش المجتمع الصومالي الكثير من الأشعار والخطب وتاريخًا من الانتصارات المجيدة ونموذجًا للنجاح في الحكم بالشريعة الإسلامية والقضاء على النزاعات القبلية ورفض الذلة والخضوع للقوى الخارجية.

وسلط الاحتلال وأعوانه من أهل البلاد، كافة الوسائل للقضاء على ثورة السيد محمد عبد الله حسن ورفاقه الأشاوس والتي كان منها تأليب الرأي العام واغتيال المعنويات عبر وكلاء الاحتلال، وقطع طرق الإمداد بالأسلحة والذخائر بسبب الحصار الأوروبي المفروض على السواحل الصومالية، ومع ذلك لقن هذا القائد المسلم الأبي دول الاحتلال الأوروبي إضافة إلى الحبشة دروسًا باهظة الثمن وكبدهم خسائر جسيمة طيلة عقدين اشتعلت فيهما نار الجهاد في الصومال واشتد أوارها، وحفظت خلالها البلاد هيبتها وهويتها الإسلامية.

وفي عام 1920 وظّفت القوات البريطانية الطائرات في أفريقيا، وقصفت “تليح” عاصمة دولة الدراويش أول مدينة أفريقية قصفت بالطائرات، وهي مدينة في إقليم سول في شمال الصومال، ولم يتمكن المسلمون الذين كانوا يقاتلون بالخيول والجمال آنذاك من مقاومة هذا الاختراع الذي يقصفهم بجبن من السماء. ولكن تمكن الإنجليز والإيطاليون من الدراويش لم يكن فقط بسبب القوة الجوية التي بدأ استعمالها حديثًا في ذلك الوقت إنما أيضًا بتوظيف وسيلة قذرة حسمت الحرب بشكل نهائي، وهي الحرب البيولوجية حيث عمدت قوات الاحتلال الأوروبي إلى تسميم الآبار لحرمان الدراويش من المياه، وبالفعل قتل الكثير منهم بالتسمم بما فيهم الملا سيد محمد عبد الله حسن لكن مع ذلك لم يتمكن أعداؤه من الوصول إلى جثته حيث دفنت في مكان آمن من أتباعه المخلصين معانقًا سلاحه الذي أقسم أن لا ينتزعه منه أحد حتى يلاقي ربه، فرحل عزيزًا بعد أن وقف على ثغره تمام الوقوف وأحسن حفظ بلاد المسلمين وأداء الأمانة رحمه الله.

تقسيم الاحتلال

وتمكنت بذلك قوات الاحتلال الأوروبي في أواخر عام 1927 من بسط سيطرتها على القرن الأفريقي عن طريق إبرام معاهدات أدت إلى تأسيس الصومال البريطاني والصومال الإيطالي والصومال الفرنسي. ورافق هذا الاحتلال حملات التنصير والعمل الدؤوب على محو الإسلام واللغة العربية من شرق أفريقيا منذ بداية احتلالهم لها حتى خروجهم.

وأصبح شمال الصومال مستعمرة بريطانية بينما تحول جنوب الصومال الذي قبع تحت الاحتلال الإيطالي إلى الوصاية البريطانية بإدارة عسكرية عام 1941 ثم تم توحيد المنطقتين عام 1960 تحت اسم جمهورية الصومال الديموقراطية.

وتم اقتطاع جيبوتي (الصومال الفرنسي) بشكل دولة في عام 1977م بينما بقي الشطر الغربي تحت سيطرة إثيوبيا بعد أن قدمته حكومة الاحتلال البريطاني لها على طبق من ذهب كما فعلت مع الجنوب الصومالي وهو الشمال الشرقي بالنسبة لكينيا والمسمى بإقليم “إن أف دي”، وهي اختصار للمقاطعة الشمالية الشرقية، والذي وضع شكليًا تحت الوصاية الكينية لمدة عشر سنوات بدء من عام 1948م ولكنه بقي كذلك تحت يد الكينيين والذين تسلطوا على سكان المنطقة الصوماليين بسياسات القمع والإرهاب وتسطير المجازر البشعة التي كان من أشهرها مجزرة مدينة واجير في المقاطعة الشمالية الشرقية، راح ضحيتها الآلاف من المسلمين ووثقت فصولها بعض الوثائقيات المرئية.

ولم يبق إلا سلطنة “أوسة” التي حافظت على الإسلام وعلى اللغة العربية إلى منتصف السبعينيات، إلى أن قضى عليها النجاشي الجديد “منجستو هيليا مريام” بعد انقلابه على الإمبراطور هيلاسي في العام 1975م، بدعم من أكبر عدو للإسلام آنذاك الاتحاد السوفيتي.

عصر ما بعد الاحتلال الأوروبي

استلم العقيد محمد سياد بري الحكومة الصومالية كثالث رئيس للبلاد بعد الاستقلال ووصل بري إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري في 21 من أكتوبر 1969 بعد اغتيال الرئيس السابق عبد الرشيد علي، وكان حينها قائدًا للجيش وقد امتد حكمه إلى عام 1991 حكم فيها الصومال بسياسة الحديد والنار معتنقًا نظام الشيوعية الماركسية.

وشهد عصر هذا الرئيس حربًا مريرة مع الأحباش في محاولة لاستعادة إقليم أوجادين الصومالي المحتل من قبل إثيوبيا، لكنه فشل في ذلك بعد تدخل الاتحاد السوفيتي وكوبا، وعرفت فترة رئاسته قمعًا لكل الأحزاب ومحاربة لكل ما هو إسلامي حتى سجلت له حادثة مريعة، عندما أنكر عليه أكبر علماء الصومال لنشره الشيوعية الماركسية في البلاد وطالبوه بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية فقام باعتقالهم وحرقهم في ساحة في العاصمة مقديشو بدم بارد، ولكن ظلم هذا الدكتاتور الذي تسلط على الصوماليين لم يدم طويلًا حيث سقط حكمه بعد أن تعرض لانقلاب عسكري نتيجة خلاف قبلي قام به مجموعة من كبار قادة الجيش على رأسهم اللواء محمد فارح عيديد فلجأ سياد بري إلى نيجيريا وبقي فيها لاجئًا إلى أن وافته المنية في عام 1995م.

ووقعت البلاد بعد سقوط حكومة سياد بري في فوضى الحروب الأهلية وكانت أقسى حقبة يمر بها الصوماليون حيث كثرت فيها الجرائم وعصابات قطاع الطرق في غياب سلطة تحكم البلاد، إلا أن الأصل الطيب لهذا الشعب، وتاريخه الأصيل المتصل بالإسلام قبل المدينة المنورة، كان دافعًا لنجاح بعض العاملين من هذه الأمة في إنشاء نظام اتحاد المحاكم الإسلامية الذي أخرج البلاد من ظلمات الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي إلى أنوار الحكم بشريعة الله، فاستتب الأمن واستقرت البلاد في أروع مرحلة لم تعرفها منذ زمن بعيد.

اتحاد المحاكم الإسلامية

شريف شيخ أحمد (25 يوليو 1964 -)، رئيس الصومال السابع، ورئيس اتحاد المحاكم الإسلامية.

وبالفعل اجتمع أبناء الصومال الأحرار، من تشبع بروح الإسلام وتعاليمه واستمد القوة والقدوة من تاريخ المقاومة الإسلامية المتجذر في هذه المنطقة، تحت مظلة نظام المحاكم الإسلامية الذي يستحق الدراسة والاهتمام كونه استطاع أن يحول البلاد من قمة الفوضى إلى أوج النظام والانضباط وهكذا تفعل شريعة الله في البشر.

لكن الولايات المتحدة الأمريكية وعدو الصومال التاريخي اللدود إثيوبيا (الحبشة) لم يرق لهم استقرار البلاد وصعود الإسلام فيها من جديد، فدخلت القوات الإثيوبية يدعمها الأمريكان لتحتل الصومال في عدوان سافر، في شهر ديسمبر من عام 2006، فتشتت شمل المحاكم الإسلامية التي دام ملكها الزاهر 6 أشهر فقط، وأقامت الإدارة الأمريكية حكومة شكلية لتضبط البلاد وفق خططها للهيمنة. وتنامت روح المقاومة لإخراج الاحتلال الإثيوبي من البلاد وبالفعل تمكن الصوماليون من تسطير بطولات فتكت بالقوات الإثيوبية وأجبرتها على الانسحاب بالرغم من حجم المجازر التي سطرتها بحق الشعب الصومالي، لكن هذه القوات رجعت بمكر ودهاء تحت مظلمة ما يسمى قوات حفظ السلام للاتحاد الأفريقي التي أنشأتها الأمم المتحدة.

ومنذ ذلك اليوم والبلاد في صراع لا يخفت فيه صوت الأطماع الحبشية الإثيوبية كان قد أشار لها أحد أبناء هذه البلاد، الدكتور عمر إيمان أبو بكر الذي حذر من خطر إثيوبيا على الصومال في كتابه تجربة المحاكم الإسلامية في الصومال حيث قال: “وقد يتساءل الشخص غير المتابع للأحداث في الصومال، فيقول كيف يمكن للفريق المدعوم من قبل إثيوبيا أن يختلف فيما بينه، أليست قادرة على جمعهم على رأي واحد، ولكن يخفى على هذا الشخص أن إثيوبيا لا تريد أن يحصل وفاق بين الصوماليين، بل كانت ولا تزال تغذي الخلاف بين الزعماء، لأن الخلاف هو الذي يحقق هدفها في منع قيام دولة صومالية ذات سيادة على أراضيها، وهذا هو الذي تريده، بل إنها تبارك هذا الخلاف، ولو كان في صف فريقها ما دام هو لصالحها”.

ولا شك أن هذه الأرض المباركة التي شهدت الإسلام منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، سيكون لها شأن في خريطة العالم الإسلامي ومساهمة حقيقية في نهضة الأمة الإسلامية بتاريخ مثقل بالتجارب والآلام والاعتزاز بالدين والهوية لا يُهزم، لعلاقة الحبشة الوطيدة بهذا التاريخ ونبوءات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حيث ورد في أحاديث آخر الزمان أن هدم الكعبة يكون على يد ذو السويقتين من الحبشة فعن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة” (رواه مسلم) وعن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يخرب الكعبة ذو السويقتين في الحبشة، ويسلبها حليها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلعًا أفيدعا، يضرب بمسحاته ومعوله”.

وإن بقاء الصومال حرة مسلمة قوية سيبقى سدًا منيعًا أمام الحقد الحبشي الذي يتطاير شرره بين الفينة والأخرى إلى أن يشاء الله ويقضي أمرًا كان مفعولًا.

[1] (تاريخ الطبري ص 222-ج2).

[2] (ذكر هذه الثورة ابن الأثير في الجزء الثاني صفحة 38).

[3] (ابن الأثير ص 280 ج2).

[4] 324. في “رسائل المقريزي”.

[5] انظر صبح الأعشى للقلقشندي 324 فما بعدها.

المصادر

  • فتوحات الحبشة الجزء الأول.
  • تاريخ الإسلام في الحبشة ليوسف أحمد.
  • نشأة الممالك والدويلات الإسلامية في أفريقيا: ممالك الطراز الإسلامي في شرق أفريقيا، الكاتب: علي السماني.
  • ممالك المسلمين في الحبشة من خلال كتاب مسالك الإبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري.
  • بين الحبشة والعرب لعبد المجيد عابدين.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. شكرا استادة ليلى حمدان, رغم انى من هدا البلد المبارك لكننى استفدت هده المقالة ما لا كنت اعرفها من قبل “الشعب الصومالي يقاوم الى اليوم وبادن الله سينتصر”

  2. بحث راقي وكنز معلوماتي لا يعرفه الكثير من الأمة الإسلامية.
    منطقة شرق إفريقيا كانت ومازالت إحدى بؤر الصراع بين الإسلام وأعدائه والشعب الصومالي يمثل شوكة الإسلام في المنطقة.
    شكرا للدكتورة ليلى حمدان على هذا الجهد الكبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى