واقع ومآلات المقاومة الإسلامية في الصومال: والعاقبة للمتقين
الصومال ذاك القطر الإسلامي العربي المُهمل، مُقترن الذِكر بعصابات المهرِّبين والقراصنة والإرهاب والجماعات الانفصالية والحروب الأهلية والمجاعات ومخيمات اللاجئين والمساعدات الغذائية التي يمُنُّ بها العالم على هؤلاء المشرَّدين الذين لا يعبأ بهم الإعلام إلا حال استخدامهم لتجميل صورة الأنظمة الدمويّة تستتر بهم تحت مسمى حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية. ولربما تأتي التقارير البحثية على ذِكرهم حين يُذكَر خام الحديد والقصدير والجبس والبوكسايت والنحاس والملح والغاز الطبيعي أو اليورانيوم.
ولكن ماذا عن هذا الشعب الأبيّ، رافض الظلم والطغيان والعبودية، مُقاوِم المحتلِّين، حافظ الدين والعقيدة مجاهِدًا من أجلهما، ثائرًا لحريته ووجوده وتحرير أرضه، متصديًّا للتنصير والمبشّرين؟
قطعًا ما لهؤلاء من أنصار ولا إعلام؛ لذا وعلى ضوء ما سبق جاءت سلسلتنا للحديث حول الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في الصومال وصولًا إلى جَنْي الحركات الإسلامية الصومالية ثمار غرسها وصناعتهم للوعي، ومشاركة الصوماليين في معاركهم ضد نظام بري، وإشعالهم وقود الجهاد في نفوس الصوماليين ضد كل غازٍ ومحتل؛ لتدخل الصومال عصرًا جديدًا لم يكن ليتصوره أهله.
الحرب الأهلية وإعلان الجهاد
ومع تطور الأحداث على الساحة الصومالية تدخلت إثيوبيا عن طريق تمويل ميليشيات من القبائل الحدودية للقضاء على الحركات الإسلامية التي كانت حديثة عهد بالسلاح والتدريبات العسكرية؛ فأنشأت الحركات الإسلامية معسكرات تدريب استغلت فيها الفوضى التي غطت على الساحة الصومالية وانتشار السلاح في سائر أرجاء الصومال.
وكان من بين أبرز معسكراتها معسكر “أمير نور” والذي كان يخدم كل التنظيمات الإسلامية التي تريد تدريب أفرادها، وكذلك معسكر الاتحاد الإسلامي الذي أطلقوا عليه “معسكر الإمام الشافعي” نظرًا لتمذهب عامة أهل الصومال بالمذهب الشافعي.
ولم يكن هذا الاتجاه من التنظيمات الإسلامية نحو الجهاد والعمل المُسلَّح رغبة في نشر الفوضى وفرض السيطرة أو إرهاب الشعب، بل كان واجب الوقت في ظلِّ الحرب الأهلية التي نشبت نتيجة الفراغ الذي خلَّفه نظام بري، كذلك الدسائس التي لم يغفل بري عن زرعها بين القبائل خوف اتحادهم، فما إن رحل بري حتى طفت تلك الشقائق والنزعات القبلية على السطح، بالإضافة إلى الحرب الإثيوبية التي لم تهدأ؛ فأراد الاتحاد أن يُدافع عن المكاسب التي حققها على الصعيد الديني والاجتماعي وأن يضمن ما يُدافع به عن نفسه وسط هذه المعارك التي لا ترحم، حيث فُتحت على الاتحاد العديد من الجبهات في جنوب وشمال شرقي البلاد، ما بين الميليشيات القبلية، وأمراء الحرب المدعومين من إثيوبيا.
هل كان جهادًا بالسنان فقط؟
فرغت الساحة الصومالية من سائر الخدمات العامة كالخدمات الصحية والتعليمية والأمنية؛ فبادرت الجماعات الإسلامية للقيام بدورها المجتمعي انطلاقًا من شمولية الدين والذي لا يقتصر على جهاد العدو بالسلاح، فحازت قصب السبق في هذا الثغر؛ فأنشأوا الجمعيات الخيرية والإغاثية والمستوصفات والمدارس، وكذلك أقاموا الجلسات العرفية لإصلاح ذات بينِ الشعب الصومالي.
التدخل الأمريكي في الصومال
أحرز التدخل الإثيوبي بعض التقدم في الساحة الصومالية؛ ما أضعف جانب المقاومة نتيجة فتح العديد من الجبهات في آن واحد على هذه التنظيمات الجديدة على الساحة القتالية، كذلك لم تكن أمريكا هي الأخرى بمنأى عن الساحة الصومالية صاحبة العمق الاستراتيجي في القرن الإفريقي، وصاحبة متغير فاعل في معادلة الأمن القومي المصري والخليج العربي. وما كان هذا التدخل الأممي بزعامة أمريكية إلا خوفًا من صعود إحدى الحركات الإسلامية للحكم، وخاصة بعد التأييد والحاضنة الشعبية التي صنعتها تلك الحركات.
فكان من بين تداعيات التدخلات الخارجية والحرب الأهلية التي عاشها الصومال؛ أن ضربت البلاد مجاعة عانى منها ما يقارب 30 ألف مدني بالإضافة إلى وفاة أكثر من 10 آلاف منهم. ليوافق مجلس الأمن الدولي-والذي لم يتدخل أثناء الإبادة الجماعية التي شنَّها سياد بري على الصوماليين-على القرار رقم 794 في 3 من ديسمبر عام 1992 والذي نَصّ على تكوين قوة حفظ سلام بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وسميت يونيتاف، بحجة حماية الإمدادات الإغاثية؛ ليُصدِر الاتحاد بيانًا في الأول من ديسمبر للعام 1992 يرفض فيه بشكل قاطع أي تدخل غربي تحت أي مسمًى، وبخاصة هذا التدخل الذي تتزعمه أمريكا، فجاء في البيان: “إلا أننا نرى أن هذا التدخل العسكري الأجنبي لا يحمل أي حل لمشكلة الصومال وإنما سيسبب لنا ضرراً دينياً جسيماً للأجيال الحاضرة والقادمة، تهون دونه الأنفس والأموال، والفتنة أشد من القتل… وإنما جاءت هذه الممهدات الإعلامية، من أجل تبرير الغزو الأمريكي المشبوه، لذلك يعلن الاتحاد الإسلامي الصومالي، رفضه القاطع لهذا التدخل الأمريكي الصارخ، ويعتبره غزواً لدولة مستقلة وانتهاكاً صريحاً لسيادة أمة، ويُحذر الإدارة الأمريكية من عواقب هذا الغزو.”[1]
في إطار كفاح الشعب الصومالي لاسترداد دينه وقراره، وتحديدًا في العام 1993خاض الاتحاد الإسلامي مواجهات طاحنة ضد القوات الأممية والتي كانت بزعامة أمريكية إلى جانب الجنرال عيديد، والكثير من أبناء الشعب الصومالي الذين استفاقوا من غفلتهم وفرحهم بالمعونات الغذائية، التي سرعان ما رفضوها عندما رأوا فيها سبيلًا لإخراجهم عن دينهم وتبديله إلى النصرانية، وكذلك بعد تأكدهم من المطامع الأمريكية في الثروات الطبيعية بأرض الصومال.
انسحاب الأمريكان من الصومال
قاد التحالف الوطني الصومالي بقيادة الجنرال عيديد مواجهات طاحنة ضد قوات التحالف الدولي، وأشاع الإعلام الغربي أنّ القوى الإسلامية تشارك عيديد في هذه المواجهات وخاصة بعد أن شوهدت في شوارع مقديشو في 25 من يونيو 1993م منشورات تفيد بأن الإسلاميين يُعدُّون أنفسهم لشن هجمات على القوات الدولية وذلك مساندةً للجنرال عيديد الذي كان يخوض حربًا ضروسًا ضد هذه القوات.[2]
فيما تراجعت بعض التنظيمات الإسلامية عن المواجهة ونفت تعاونها مع الجنرال عيديد ضد القوات الدولية، وذكرت أن الهدف من هذه الإشاعات أن القوات الدولية ترغب في استدراج الإسلاميين لحرب لم يستعدوا لها بعد.[3] ولكن الاتحاد الإسلامي شارك بعدد من مقاتلي التنظيم بقيادة الشيخ عبد الله أحمد سهل ضد القوات الدولية في تحالف مع الجنرال عيديد.
ويذكر بعض المتابعين للشأن الصومالي أن الشيخ أسامة بن لادن -رحمه الله- وأعضاء آخرين من تنظيم القاعدة قدموا الدعم والتدريب لقوات محمد فرح عيديد. كما أشار بن لادن إلى أن الانسحاب الأمريكي قبل استكمال الجدول الزمني المقرر؛ أظهر ضعف ووهن وجبن الجندي الأمريكي.[4]
واستمرت المواجهات بين الطرفين (القوات الدولية ضد تحالفات من الشعب الصومالي) طيلة الشهور العشرة الأولى من العام 1993 إلى أن حدثت مواجهات مقديشيو في الثالث من أكتوبر لذات العام والتي أسفرت عن خسائر كبيرة في صفوف القوات الدولية، والتي كان قوامها الأساسي من الجيش الأمريكي حيث أسقط الصوماليون مروحيتين أمريكيتين من طراز بلاك هوك وطاردوا طواقمهما والذين كان عددهم 18 أمريكيًا، ليتمكنوا منهم في النهاية ويقتلوهم جميعًا بشوارع مقديشيو، بالإضافة إلى إصابة نحو 70 عسكريًا أمريكيًا.
دفعت تلك الخسائر التي أسفرت عنها المواجهات والهجمات الاستشهادية إلى إعلان الأمم المتحدة سحب قواتها في الثالث من مارس عام 1994، ليلحق بها الجيش الأمريكي يجر أذيال خيبته في الخامس والعشرين من ذات الشهر. ليشهد الواقع الصومالي مفارقة عجيبة، حيث بدأت أمريكا التفاوض مع عدو الأمس: الجنرال عيديد؛ من أجل التعاون المشترك للقضاء على التنظيمات الإسلامية التي بدأت تثبيت أركان ولايتها بعد الانسحاب الأمريكي من الصومال، وعمدت أمريكا في ذلك إلى تسليح المرتزقة من القبائل الصومالية وتدريب عناصرها على أيدي قوات إثيوبية.
أثيوبيا تحارب بالوكالة عن أمريكا
ومع تنامي القوة الجهادية للحركات الإسلامية إثر الخبرة التي اكتسبتها من المواجهات الأمريكية؛ عقدت أديس أبابا وأمريكا الاتفاقيات والمساومات لبدء حرب بالوكالة في الداخل الصومالي؛ تمهيدًا لاقتلاع جذور الوجود الإسلامي هناك. ففي الجنوب قاد الجنرال عيديد حربًا ضروسًا ضد الاتحاد الإسلامي لم تسمح لهم بمجرد التقاط الأنفاس، وفي الشمال الشرقي لم يكن العقيد عبد الله يوسف بأقل من عيديد، هذا بالإضافة إلى جبهة غرب الصومال في معسكر طارق بن زياد والتي قادها الجيش الإثيوبي نفسه.
وفي أواخر عام 1993م وبدايات عام 1994م، كانت الجماعات الإسلامية في الصومال على موعد مع حرب ضروس كتبت نهاية الاتحاد الإسلامي، حيث قامت قوات تابعة للجيش الإثيوبي بتنفيذ هجمات جوية وأرضية على طول الحدود ضد معسكرات الاتحاد الإسلامي، لتنتهي هذه الحرب في العام 1996 بإسقاط ولاية لوق الإسلامية التي أنشأها الاتحاد الإسلامي؛ ليدُبّ على إثرها الخلاف بين قيادات الاتحاد لتظهر بين الإسلاميين معركة العسكري والدعوي وأيهما أصلح للبقاء.
المحاكم الإسلامية وحركة الشباب الإسلامي
واستمرت هذه النزاعات والانفصالات حتى شاء الله وتغيرت الأحوال على أيدي “اتحاد المحاكم الإسلامية” والتي تجمع في صفوفها كثيرًا من أصحاب الفكر الجهادي من أبناء الاتحاد الإسلامي. ففي أعقاب الانتصارات التي حققتها المحاكم الإسلامية على حساب تحالف إعادة الأمن ومكافحة الإرهاب والذي أُنشئ مطلع فبراير 2006 في العاصمة مقديشو، بسطت المحاكم سيطرتها على كافة المناطق في وسط وجنوب الصومال.
جاء هذا النصر للمقاومة الإسلامية على حين غفلة من القوات الغربية التي ظنت أنَّ مرتزقتها في الصومال تسيطر على الوضع، وأنَّ هؤلاء المرتزقة سيفعلون ما عجزت قوات الأمم المتحدة وزعيمتها أمريكا عن فعله، ناهيك عن التأييد الشعبي واسع النطاق الذي حظيت به المحاكم الإسلامية إثر الانتصارات التي حققتها، والاستعداد الشعبي للعيش في أمان بعيدًا عن الاقتتال والحرب الأهلية والمجاعات، وهو ما شرع اتحاد المحاكم الإسلامية في تنفيذه فور أن دنت له الصومال.
استتب الأمر في الصومال، وبدأ الشعب طي صفحات الماضي الأليم الذي عاشه في احتراب واحتلال ومجاعات وأمراض… وعلى الرغم من أنَّ هذه النتائج هي ما اتخذه الغرب زريعة للتدخل في الصومال، وادعو أنهم ما جاءوا إلا لأجل تحقيق الأمن الشخصي والغذائي، إلا أنَّ تلك النتائج عندما حققتها المحاكم الإسلامية على أرض الواقع أثارت مخاوفَ الغرب الذي يرى في صعود الإسلاميين للحكم خطرًا يهدد وجودهم في سائر الأقطار الإسلامية، فكيف إذا نجح الإسلاميون في توفير ما عجزت قوات الغرب عن توفيره ووسط تأييد وترحيب شعبي، وأضحت تجربتهم ملهمة لسائر الإسلاميين في العالم؟!
فكان لا بد من إفشال هذه التجربة في مهدها؛ وهنا التقت مصالح النظم الديكتاتورية التي تقمع الإسلاميين خلف أسوارها وتخاف مثل تلك التجارب، مع المصالح الغربية التي ترفض وجود أي نظام ناجح يقف على رأسه إسلامي؛ وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تجديد الثقة في حكومة أديس أبابا وتوكيلها ثانية مع كامل الدعم الإقليمي والدولي، بكسر شوكة الإسلاميين ومقاومتهم في الصومال.
وهنا اتخذت الحرب الدائرة في الصومال اتجاهًا دوليًا لوأد التنظيمات الإسلامية بل والوجود الإسلامي في الصومال؛ وحينها لم توقف التنظيمات الإسلامية في الجوار الصومالي الأمر على مجرد التأييد، ليستمر الشعب الصومالي في جهاده المبارك، مواجِهًا كافة الأطياف والمطامع التي تريد إنهاء تاريخ زاخر بالجهاد والمقاومة.
«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا»
خاتمة
وفي ظلِّ الوضع القائم في الصومال لا تكاد تستطيع تحديد الجهة التي ستؤول إليها المرحلة القادمة، ولكن الأكيد أن الشعب الصومالي ترفَّع عن الاستسلام والخضوع، وأَبَى إلا أن يُسطِّر تاريخ أجياله القادمة بدمائه وتضحياته، ضاربًا بنبرات الذل والهوان عُرض الحائط، مؤكدًا على جدوى المواجهات في ردِّ العدوان، مُتحَدِّيًا المنطق والمُخذِّلين وحساباتهم. فحقيق لهم النصر على المستعمرين وتحالفاتهم وهيئاتهم.
«إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»
المصادر
- بيان الاتحاد الإسلامي الصومالي.
- تقرير الشاهد الدوري الأول “الإسلاميون الصوماليون… من الهامش إلى مركز الأحداث”.
- Mahasin Hag Alsafi, “The Attitude and Reaction of the Islamic Groups to US/UN Intervention in Somalia 1991-1995”, In Omer Ahmed Saed & Fatuma Fadlella , Africa Post Cold War Era, 2nd edition, ( Khar-toum, 2006) ص 101
- Thornton, Rod (2007) Asymmetric Warfare: Threat and Response in the Twenty-First Century, p. 10
- السلفية في الصومال… بدايات النشأة ومآلات الواقع: علي عبدالعال.
- مفارقات الجهاد الصومالي-الورطة (1)، د. أكرم حجازي، إسلام أون لاين.
- الصُومال… معلومات أساسية.