مشاهد من زمان العزة… ألم يأنِ لنا الوقت بعد؟
مشاهد عزة الإسلام وأنفة أهله كثيرة جدًا، ذاك أن الدين الإسلامي الحنيف يأمر أهله بالعزة وأن يبسطوا هيبة الإسلام في أرجاء الأرض، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- خير قائم لله بحفظ حدوده، وإتمام أوامره، وببسط العدل وإقامة الحق، فمثلت صفاته الكريمة وسجاياه العديدة نموذجًا ساطعًا ونجمًا فارقًا في الإباء والتضحية والفداء وعدم النوم على الضيم. كيف لا وأول ما هدَّأت به السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها روعه حال رؤيته الملك عند أول لقاء به: “إنك والله لتصل الرحم وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر” (صحيح البخاري كتاب بدء الوحي).
وعلى ضوء ما جاء في قولة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، كانت سيرة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقد كان يغيث الضعيف والملهوف، ويعين على نوائب الدهر ولا ينام على ضيم، ينصر المستجير به ولا يرد سائله بشيء، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وفيه يصح قول القائل:
هُوَ اليَمُّ مِنْ أَي النَّواحي أتيتَهُ … فلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ
تعوَّدَ بسط الكفِّ حتى لو أنَّه … ثناها لقبضٍ لمْ تُجبهُ أنامِلُهْ
ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ … لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ
فلو استقصى الباحث آثار نجداته لتعب في عدها، لذلك سنقتصر على نموذجين في سيرته العطرة تجلي الغمام عنهما وتظهر مكامن الدرّ فيهما ويبرز الإبريز من جنباتهما.
المرأة المسلمة ويهود بني قينقاع!؟
لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- للمدينة المنورة كانت تعج بحياة اليهود وكان من بين أحياءهم هذه حي بني قينقاع، وكان أول فعل فعله الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- أن كتب وثيقة المدينة لتنظيم شؤونها وتدبير سياستها وسن تشريعات تنظم العلاقة بين الدولة المسلمة الناشئة وبين أحياء اليهود وقبائل العرب المحيطة بهم.
سارت فترات زمنية معينة ساد فيها النظام وعاش اليهود في كنف الأمة المسلمة لا يضيرهم شيء ما داموا مستقيمين، لكن وبما أن اليهود قوم بهت وأهل غدر وخيانة باشروا التدبير لخلخلة نظام الأمة المسلمة والتحريش على الشريعة واستفزاز أهل الإسلام، وكان خاتمة أفعالهم القبيحة كشف حرمة امرأة مسلمة أتت تبتاع عند صائغ حلي من اليهود فعمد أحد الأشقياء إلى ربط طرف ثوبها برأسها دون أن تشعر وعندما وقفت انكشفت فصرخت، فجاء أحد المسلمين فقتل اليهودي الذي فعل ذلك فاجتمع اليهود عليه فقتلوه، وما كاد يصل الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى استنفر الصحابة وانتقل بهم لحصن بني قينقاع وحاصرهم خمسة عشر ليلة حتى نزلوا على حكمه وشدّ وثاقهم لينظر ما يفعل بهم، وكانوا من حلفاء زعيم المنافقين عبد الله بن أبي فكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم وألح عليه فيهم حتى أطلقهم وقال عليه الصلاة والسلام: “خلوهم، لعنهم الله ولعنه معهم” -يقصد ابن أبي-.
أما حليفهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه فتبرأ منهم وقال أتولى الله ورسوله وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم فنزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (المائدة: 51). فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم لأذرعات بأرض الشام بعد غنم أموالهم.
هذا موقف من مواقف عزة الإسلام، أن يسير الجيش لإنجاد امرأة، لقد مثلت هبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته عزة ومنعة المسلم، وبسط بهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته هيبة المسلم فلا يجرأ أحد على المساس به فضلًا عن أن يفكر بانتهاك حرمة امرأة مسلمة، فيالله كيف صار إليه أهل الإسلام في زماننا ولكأن القائل عناهم بقوله:
لَوْ كُنْتِ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي … بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا
إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ … عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا
قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ … طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا
بنو خزاعة واستنصارهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد غدر قريش وبني بكر
والموقف الثاني من مواقف هبّاته عليه السلام في نصرة المظلوم ورد عاديته ما جاء في السيرة فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما تم الصلح بينه وبين قريش في عام الحديبية كان من جملة الشروط أن بني خزاعة حلفاء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وبكر من حلفاء قريش، ولكن بني بكر سيّرت سرية رفقة نفر من قريش في نقض صريح للعهد الذي أبرموه مع النبي -عليه الصلاة والسلام- فباغتوهم على حين غرة، وأعملوا فيهم القتل والسلب، فأسرع زعيم خزاعة عمرو بن سالم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فأنشده أبيات تقطر حزنًا واستجلابًا للنصرة منه عليه السلام، جاء فيها:
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا … حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا … ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا … وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا … إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا … إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا … وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا … وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
فانصر، هداك الله، نصرًا أيدا.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “نُصرت يا عمرو بن سالم”. ثم عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنان من السماء، فقال: “إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب; يعني خزاعة”. ثم سيّر بعدها عليه السلام جيشًا عظيمًا لتأديب المشركين ولم تفلح محاولات زعيم قريش حينها أبو سفيان بن حرب في ترقيع الحادثة فصبّح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشركين بخيله وكان فتح مكة تتويجًا لهذه الهبّة الكريمة.
لقد كانت هبّة النبي عليه الصلاة والسلام وإنجاده لعمرو بن سالم، ونصرته للمرأة المسلمة، مثالًا للوفاء بالعهد ورفض النوم على الضيم وتضحية وفداء ونصرة وجهاد، فصلى الله وسلم على خير من أوفى بالعهد وبسط هيبة الحق وأهله.