عن معركة تدمير البنية الإنسانية.. مراجعة كتاب (جدل النسوية والذكورية)

«إن أساس مشكلة النسوية الحديثة في الوقت الحاضر هو فقدانها بوصلة عملها، حيث إنها أصبحت لا تناضل من أجل تحسين الحياة اليومية للنساء، بل إنها أصبحت تسعى من أجل التفكيك المخطط للهوية الجنسية، ولم تعد الغاية رفع المرأة إلى مقام الرجل في الحقوق السياسية والاقتصادية، بل جعل الرجل والمرأة شيئا واحدًا»

«على الجانب الآخر هناك أزمة رجولة تنشر في أوساط الجيل الحالي بشكل كبير، والعديد منهم ينسبون أسبابها إلى المرأة من خلال اتهامها بالتسلط والتجبر، وهو ما نتج عنه زيادة في معدلات الكراهية للنساء في أوساط الرجال، وتعزيز الرغبة في الانتقام منهن، وفي الوقت نفسه، فإن الرغبة في تملُّك جسد المرأة لا تزال مستمرة عندهم، وبذلك يكون بغض المرأة معنويا مع حب تملكها جسديا هو التعبير العصري عن الذكورة، التي ساهمت النسوية في إنتاجها وهي تظن أنها تحاربها»


«إن النسوية والذكورية وجهان لعملة واحدة، حيث إن الممارسات الذكورية القديمة والحديثة نتجت عنها الحركة النسوية التي انتقلت خلال عقود قليلة من مجرد حركة حقوقية إلى إيديولوجيا شمولية، وأصبحت من أبرز المذاهب الفكرية المؤسسة للحضارة الغربية الحديثة، ونتج عن ذلك مجموعة متنوعة من الأمور مثل تغيير صورة المجتمع الغربي، وتدمير العلاقات التقليدية داخل الأسرة، وتغيير لغة الخطاب الإعلامي والسياسي، وأخيرا إلى تغير القوانين والأعراف السياسية الحاكمة في الغرب»

خلق الله سبحانه وتعالى الناس من ذكر وأنثى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وجعلهما البنية الأساسية للحياة البشرية، فهما عنصرا الحياة في هذه الأرض، كما جعلهم «أزواجا» من خلال رابطة وثيقة هدفها السكينة والاستقرار، وليس التنافر والتناحر {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].

هذه البنية بصيغتها وصبغتها الربانية تتعرض لحملة شرسة تزداد ضراوة مع مرور الأيام، تسعى لهدمها وتشويهها وحرْفها عن طبيعتها التي خلقها الله عليها، ويأتي -في هذا السياق- كتاب (جدل النسوية والذكورية) للدكتور البشير عصام المراكشي، الذي صدر عن مركز رواسخ في 221 صفحة، تناول الكاتب من خلال فصوله الأربعة عددا من القضايا التي ترتبط بهذا الموضوع المهم والشائك، بدءا من الممارسات المختلفة التي أدت إلى ظهور الحركة النسوية، مرورا بالمخاطر الناتجة عن هذا الفكر الذي يدعي الحفاظ على حقوق المرأة، رغم أنه تسبب في ضياعها، انتهاءً بالطرق الصحيحة والخطوات العملية التي يجب اتباعها لتحقيق الغاية الأساسية التي نشأت من أجلها النسوية، التي تتمثل في الدفاع عن حقوق المرأة في الوقت الحاضر.

عن المؤلف والكتاب

مؤلف الكتاب هو الدكتور البشير بن محمد عصام المراكشي ولد في مدينة مراكش في العام 1392هـ -1972م بدأ دراسته الأكاديمية الأولى بمدينة مراكش، ثم التحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، بشعبة الدراسات الإسلامية، له مجموعة من الأبحاث، نشر منها اثنان: شرح منظومة الإيمان المسماة (قلائد العقيان بنظم مسائل الإيمان)، والآخر تحت عنوان (شرع الله ليس غلوا)، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث الأخرى.

يستهل المؤلف كتابه بذكر مجموعة متنوعة من الجهود التي قام ببذلها في هذا المجال دون غيره، والتي كان الهدف منها بشكل رئيسي وفق تعبيره أن يبين للمتابع العربي والمسلم أن النسوية الحديثة بعيدة جدا عن النسوية الأولى التي كانت تهتم بالنضال من أجل حقوق المرأة، ويوضح الكاتب أن معظم هذه الجهود كانت مشتتة في العديد من المقالات والمحاضرات المتفرقة، وقد سعى إلى تجميعها في كتاب واحد تسهيلا على الباحث في هذا المجال للإلمام بكافة تفاصيله من خلال مصدر واحد.

الفكرة الأساسية للكتاب

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى توضيح الفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب وهي أن كلا من النسوية والذكورية وجهان لعملة واحدة حيث إن الممارسات الذكورية القديمة والحديثة نتجت عنها الحركة النسوية التي انتقلت خلال عقود قليلة من مجرد حركة حقوقية إلى إيديولوجيا شمولية، وأصبحت من أبرز المذاهب الفكرية المؤسِّسة للحضارة الغربية الحديثة، ونتج عن ذلك مجموعة متنوعة من الأمور مثل تغيير صورة المجتمع الغربي، وتدمير العلاقات التقليدية داخل الأسرة، وتغيير لغة الخطاب الإعلامي والسياسي، وأخيرا إلى تغير القوانين والأعراف السياسية الحاكمة في الغرب.

وجميع الأسباب السابقة نتج عنها تأثير بالغ على تكوين المجتمع، بدءا من الفرد بحيث أصبح الرجل مطالبا بإظهار الجانب المؤنث فيه، أو المرأة التي فقدت أنوثتها في معترك العمل خارج البيت وفقدت اعتمادها الفطري على الرجل، وأثر  ذلك تباعا على تكوين الأسرة التي أصبحت تمتاز بالتفكك والتهميش، ويغيب فيها الدور الفعلي للأب في مختلف المسؤوليات المادية والمعنوية، وبالتالي تفقد الأسرة المكمل الذكوري الضروري لتربية الأطفال، وتصبح الأم مطالبة بممارسة دور الأبوين في ذات الوقت بما يخالف استعدادها الفطري ويؤثر سلبا على راحتها البدنية والنفسية.

نتيجة لما سبق ينشأ جيل مدلل بشكل مبالغ فيه، يجد صعوبة بالغة في التعامل مع الحرمان، وعسرا في الانضباط بالقوانين، وينبذ قيم الجهد والعمل، ويظهر ذلك بشكل جلي في البيئة التعليمية حيث يصبح الطالب بمقتضى التأنيث سيدا متحررا من الواجبات لا يطالب باحترام المعلم ولا طاعته لأن ذلك يرجع إلى الثقافة الباطرياركية البائدة.

النسوية والإعلام

ولم تقتصر جهود النسوية الحديثة على ذلك، بل سعت للسيطرة على الفن والإعلام مما جعلها تفرض جميع تصوراتها باستخدام القوة الناعمة، وتليها محاولة تغيير اللغة لتصبح ملائمة للتوجه المساواتي الجديد بين كلا الجنسين، ثم انتقلت إلى نخل الأدب القديم لاستئصال الجراثيم الذكورية العالقة فيه، كما سعت إلى وضع يدها في يد الرأسمالية المسيطرة في المجال الاقتصادي… وغيرها من الجهود المختلفة.

ومن ثم يوضح المؤلف أن الأيديولوجيا النسوية مسيئة للمرأة نفسها أولا قبل أن تكون مسيئة للرجل أو المجتمع، وأن أصول احترام المرأة قد وردت في الشريعة الإسلامية التي ظهرت جلية في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ضمنت للمرأة أسمى درجات الكرامة الإنسانية وفي تكامل منسجم مع الرجل في بناء المجتمع الصالح، وأن الطريقة الأفضل في الرد على النسوية في بلادنا العربية والإسلامية هي من خلال توضيح التناقضات والانحرافات التي وصلت إليها النسوية في الغرب، حيث لا يمكن الهجوم على الخصم إلا بعد معرفة مواطن ضعفه.

المرأة والنسوية والذكورية

يستهل الكاتب فصول كتابه الأربعة بمحور تمهيدي يتناول من خلاله عددا من المصطلحات التي تنتج عنها مجموعة من الإشكالات؛ مثل مصطلح المرأة والنسوية والذكورية، ويبدأ مع مصطلح المرأة من خلال طرح التساؤل التالي: «أليس من الغريب أن نحتاج إلى الحديث عن تعريف المرأة والحال أن نصف الكائنات البشرية نساء»؟ 

فأجاب عن ذلك قائلا: «إن ذلك ليس بحثا من فضول العلم وترف التفكير بل هو أساس مفاهيمي لا بد من ترسيخه ابتداء ليسهل البناء عليه لاحقا، وليس بحثا ظالما بل الغرض منه إنقاذ المرأة من براثن الظلم الذي أنتجه الاتجار بقضاياها».

ويوضح المؤلف أن مصطلح المرأة يمكن أن يعرف في ثلاثة تصورات يجمع بينها اختزال الحقيقة المركبة في بعض مكوناتها، تبدأ هذه التصورات مع تصنيف المرأة بكونها طبقة اجتماعية مستقلة، يتبعها تصور يضخم من التكوين الثقافي والمؤثر التربوي على حساب الحقيقة البيولوجية الثابتة، وتنتهي مع التصور الذي ينظر إلى الحقيقة البيولوجية وحدها ويلغي الأثر الثقافي الذي يشكل كيان المرأة قديما وحديثا، ويتناول الكاتب كل تصور منها بالشرح والتفصيل.

ثم ينتقل المؤلف إلى المصطلح الثاني وهو النسوية فيقول: «الحق أنه لو كان مفهوم النسوية ما يزال مرادفا للنضال من أجل حقوق المرأة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لَصحَّ لنا أن نوسِّع دائرة الحركة النسوية حتى ندخل فيها كل إنسان نزيه في سلوكه سويٍّ في فطرته متوازن في فكره».

 ولأن ذلك لم يتحقق على مدار الأزمنة المتلاحقة نتيجة التطورات المتلاحقة التي عرفتها الحركة النسوية أصبح إيجاد تعريف عام وشامل للنسوية مجازفة فكرية كبيرة، ولكن هذه الحركة في نظر المؤرخين مرت بثلاث مراحل أو ثلاث موجات كما وصفتْها الأمريكية (إليزابيث سارا) في كتابها (إعادة تقييم الموجة الأولى Reassessments Of First Wave).. فأصبح هذا المصطلح هو الدارج وأضيف إلى الموجة الأولى كلٌّ من الموجة الثانية والثالثة لبيان الخلافات الفكرية بينها… وقد تناول المؤلف كل واحدة منها بشرح مختصر في هذا الجزء، وترك التفصيل إلى قسم آخر من الكتاب.

مصطلح الذكورية

وأخيرا ينتقل المؤلف إلى مصطلح الذكورية فيقول: «يمكنني الحديث عن مجموعة من المعاني الداخلة في مصطلح الذكورية».

وقد أوضح في ذلك خمس نقاط أساسية تبدأ من مجموع الأفكار والتصرفات والقوانين التي تسعى إلى تأكيد سيطرة الذكور على الإناث في مجتمع معين، وتنتهي بالدفاع عن حقوق الرجال الاجتماعية والثقافية والتقيد بالأوصاف النمطية للرجال في مجال القيم والعادات والسلوكيات المختلفة، مرورا بما بينها، ثم بين المؤلف ثلاثة معالم كبرى تميز التصور الذكوري للمرأة والمجتمع تبدأ من كره المرأة واحتقارها، وتصور وجودها في المجتمع على أنه ضرر وفساد لا غير، ثم القيام بحصر وظيفة المرأة في الوظيفة الجنسية والتناسلية، وأخيرا تسويغ العنف الجسدي على المرأة بصوره المختلفة. 

القسم الثاني من هذا الفصل يقع تحت عنوان معالم من التاريخ، يستهله المؤلف بتقييد القول المطلق بأن النساء عبر التاريخ تعرضن للظلم وهضم الحقوق، وذلك عبر ثلاثة قيود تتمثل فيما يلي:

  • تكرار الحديث عن خصوص الظلم الواقع على المرأة قديما يشعِر بأن الرجل كان في بحبوحة من العيش، والحق أن الظلم كان واقعا على الجميع.
  • أن التاريخ لم يكن صفحة واحدة سوداء فهناك مراحل زمنية كانت المرأة تنعم فيها بأعلى درجات العدل خاصة في زمن النبوة والخلافة الراشدة في التاريخ الإسلامي، ومراحل أخرى كانت تعاني من أقبح ألوان الإهانة مثل بعض اللحظات الزمنية في القرون الوسطى في أوروبا.
  • الحاجة إلى بيان الحقوق التي يقال إن المرأة محرومة منها سواء في حق العمل أو حق التعليم أو الحقوق السياسية وغيرها.

ثم يتبع الكاتب ذلك بحديث مفصل عن الموجات النسوية السابق ذكرها، فيوضح تاريخ نشأة كل موجة والمطالب التي سعت كل منها إلى تحقيقها على الترتيب من الموجة الأولى إلى الموجة الثالثة والأخيرة.

الأصول الفكرية للنسوية

الفصل الثاني من كتاب جدل النسوية والذكورية، عمد المؤلف إلى تقسيمه إلى ثلاثة محاور رئيسية يناقش كل منها مجموعة من القضايا.

في المحور الأول الذي تناول العلاقة مع الرجل، يشرح المؤلف التباس العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى الناتج عن اتباع أفكار النسوية، والتي يعتبر من أبرزها نظرية (سيمون دوبوفوار) التي قدمتها في كتاب (الجنس الثاني)، وهي تهدف إلى غاية واحدة هي أن الواجب على المرأة أن تكون رجلا مثل سائر الرجال.

وبذلك أصبحت الغاية الأساسية من هذا الكتاب تعظيم مفهوم الرجولة وحث المرأة على الخروج من أنوثتها لتلتحق بالرجل العبقري، والحقيقة أن هذه الغاية تنافي البديهيات البيولوجية بين الجنسين بشكل قطعي، حيث إن الاختلاف بين الرجل والمرأة يظهر منذ الولادة ولا يخضع لأي مؤثر ثقافي أو اجتماعي.

والقول السابق قد أقره العديد من المفكرين فـ(دورين كيمورا) على سبيل المثال يقر أن الاختلافات بين الجنسين لها أسباب بيولوجية مرتبطة بالتنظيم الدماغي، الذي يتغير حسب الجنس بحيث يمكن القول إن هناك «دماغ رجل»، و«دماغ امرأة»، ويورد المؤلف مجموعة أخرى من الأقوال المشابهة لما سبق والتي تثبت الفكرة التي يسعى إلى إيضاحها.

النسوية والأسرة

ويتناول المحور الثاني «النسوية والأسرة» التي يذكر الكاتب كونها النواة الأولى للمجتمع وتفكيكها؛ يعني التفكيك الشامل للمجتمع كله، ويتم ذلك في الوقت الحاضر على وجهين: الأول في غياب الرجل عن ممارسة دور الأب داخل الأسرة، والثاني من خلال تزهيد المرأة في وظيفة ربة البيت.

وينتج عن الوجهين السابقين توزيع جديد للأدوار داخل الأسرة والذي يؤدي إلى مفاسد حقيقية ترتبط بشكل مباشر بعملية تربية الأطفال، يرجع ذلك من وجهة نظر المؤلف إلى كون المطلوب الأسمى في التربية أن يدمج الطفل ذهنيا معاني الالتزام والانضباط بقانون أعلى مما يعينه على أن يكون فردا صالحا في المجتمع، وهو الأمر الذي يتحقق مع السلطة التربوية للأب، وفي حال ترك هذا الدور للأم تقف العلاقة العاطفية بين الأم والطفل حائلا دون تحقيق ذلك، حيث إن الطفل يحقق الانضباط من أجل إرضاء أمه وليس من باب الانضباط بقوانين المجتمع، وبالتالي فإن غياب الأب يحول دون تربية الجيل الناشئ ليكونوا أفرادا صالحين.

على الوجه الآخر فإن المرأة التي تختار أن تكون ربة منزل دون أن يكون لها عمل خارجي أصبحت تُرى من وجهة نظر النسوية متخلفةً ورجعية وخاضعة للذكورية، وهو ما تؤكد عليه النسوية الفرنسية (جيزيل حليمي) بقولها: «أن تكون المرأة ربة بيت يبقى اختيارا وهو محترم ولكنه اختيار لا يتماشى مع مسيرة تحرير النساء».

واتباع أي من الاختيارين السابقين يكون الضرر الأكبر فيه من نصيب الأطفال والنساء، فقد أصبحت مهمة الوالدين تقتصر على عملتي الإنجاب والإنفاق المادي فقط، في إطار انشغال كل منهما بحياتهما المهنية وازدهارهما الشخصي، وترك توجيه الطفل وتربيته على القيم الصحيحة للعوامل الخارجية مثل المدراس وغيرها، والمرأة التي تسعى إلى الجمع بين منزلها وحياتها العملية يعتبر أنها تسعى للمحال، تهلك في سبيله كل من صحتها النفسية والبدينة، ولا تكاد تحقق نجاحا في أحد المجالين إلا على حساب المجال الآخر.

نظرة النسوية لجسد المرأة

أما المحور الأخير في هذا الفصل فهو يتناول جسد المرأة من وجهة نظر النسوية في ثلاث نقاط أساسية، وهي: تسليع الجسد، والحرية الجنسية، وعملية الإجهاض.

فمساهمة النسوية في تسليع جسد المرأة جاءت في العديد من الصور التي أوضحها المؤلف بشكل تفصيلي مثل: الاستهانة بمؤسسة الزواج، والسعي إلى تحرير الطلاق وتكثير أسبابه، بالإضافة إلى تضخيم مفهوم الحرية الفردية التي أصبحت تتساهل مع الدعارة والإباحية ما دام ذلك برضا من الطرفين… وغيرها من الصور المختلفة.

وعند الانتقال إلى التحرر الجنسي نجد أن بداية هذا الفكر كانت مع ثورة 1968م، واستمر لعدد من العقود التي تلتها، حتى حملت النسوية الحديثة المشعل وجعلت من ضمن الحريات التي يجب أن تمتلكها المرأة الحرية الجنسية بشكل كلي، ويبين الكاتب أن هذا الفكر على عكس المعتقد هو إهانة للمرأة في حقيقته، وذلك لأن الحرية الجنسية استغلال صريح لجسد المرأة تحت مسمى الحداثة والتطور، وأن هذه الحرية هي تلبية لرغبات الرجل بالدرجة الأولى، ولكن من ينتبه إلى ذلك؟

أما محور الفصل الأخير فيقع تحت عنوان: «الحق المفترى عليه»، والذي يقصد به عملية الإجهاض التي هي ناتج طبيعي لعملية التحرر الجنسي، وفي حال القيام بتجريمه أو منعه فإن ذلك مخالفة صريحة لأحد أهداف النسوية الحديثة، والتي عمدت إلى تبرير مشروعية هذا الفعل في ضوء مجموعة من الأسباب بيَّنها المؤلف بالتفصيل.

الانحرافات الجديدة

سعى المؤلف -في الفصل الثالث من الكتاب- إلى توضيح العديد من المفاهيم التي ظهرت في المجتمع الحديث في العقود الأخيرة، ليصبح القارئ قادرا على إدراك مختلف الصور التي تتمثل فيها النسوية الحديثة سعيا إلى تحقيق أهدافها المختلفة.

فمثلا «تأنيث المجتمع» واحد من المفاهيم الدارجة في العقدين الأخيرين، والذي يحتاج إلى الحذر المبالغ فيه عند الاستخدام حتى لا يتحول من أداة تحليلية لرصد الاختلالات الفكرية إلى قراءة ماضوية للواقع تبنى على الحنين إلى القيم التقليدية، كما يناقش المؤلف الحضور الكثيف والمساواة التي غيرت من مكانة المرأة في المجتمع الغربي والآثار السلبية التي نتجت عن ذلك.

وينهي المؤلف هذا الجزء من الفصل بالحديث عن الرافد الأيديولوجي الذي يجعل من المؤنث مثلا يسعى إليه، ويوضح الأسس التي كان يقوم عليها المجتمع قديما والتي تمثلت في الأسرة والمدرسة والدين، والنتائج الوخيمة التي نتجت عن تخلي المجتمع الحديث عنها.

الجندر في الخطاب النسوي

في القسم الثاني من هذا الفصل يتناول المؤلف واحدة من أشهر نظريات النسوية الحديثة في الوقت الحاضر بالشرح والبيان، وهي نظرية الجندر /النوع، من حيث أصول النظير التي وضعتها (سيمون دو بوفوار) في البداية التي تمثلت في السعي إلى فك الترابط بين النوع (الثقافي) والجنس (البيولوجي) من خلال التأكيد على أن النوع تصنعه البيئة الثقافية والاجتماعية مما يتيح للفرد اختيار ما يشاء من الاختيارات الجنسية، متحررا بشكل كلي من الفرض البيولوجي.

ثم جاءت من بعدها الفيلسوفة الأمريكية (جوديث بتلر) لتدعم الرأي السابق بقوة وتضيف إليه العديد من التفرعات الأخرى ذكرها المؤلف بشكل مفصل، لتكون نتيجة ذلك أنه يمكن تغيير حقائق الأشياء من خلال صناعة أفراد محايدين، والتي تسمح بتحقيق المساواة التامة بين الجنسين في جميع المجالات، ثم ينتقل المؤلف إلى توضيح النتائج الكارثية التي نتجت عن اتباع هذا الفكر في فرنسا والدول الأوروبية نتيجة الإصرار على مخالفة الفطرة الإنسانية.

النسوية والشذوذ

القسم الثالث من هذا الفصل يوضح نضالات الهوية الجنسية التي سعت النسوية الحديثة إلى تحقيقها من خلال التحالف مع تيارات الشذوذ الجنسي، وكان لذلك أسباب ثلاثة أوضحها المؤلف وهي: الجذور المنحرفة عن الكاهنة الكبرى للنسوية (سيمون دوبوفوار) ابتداء، مرورا بمخلفات التأنيث المجتمعي الشامل، وانتهاء بالآثار الوخيمة لنظرية النوع، ويتبع المؤلف هذه الأسباب برواية القصة التي نتج عنها في النهاية هذا التحالف بين النسوية تيارات الشذوذ.

مشكلة النسوية الحديثة

يوضح المؤلف بعدها أن أساس مشكلة النسوية الحديثة في الوقت الحاضر هو فقدانها بوصلة عملها، حيث إنها أصبحت لا تناضل من أجل تحسين الحياة اليومية للنساء، بل إنها أصبحت تسعى من أجل التفكيك المخطط للهوية الجنسية، ولم تعد الغاية رفع المرأة إلى مقام الرجل في الحقوق السياسية والاقتصادية بل جعل الرجل والمرأة شيئا واحدا، ويورد المؤلف مجموعة من التناقضات التي تقوم بها النسوية الحديثة في الوقت الحاضر مما يؤكد قوله.

ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى بيان المعارك الوهمية التي تخوضها النسوية الحديثة، التي هي في حقيقتها لا تطالب بنيل الحقوق المهضومة للمرأة بشكل فعلي، بل تكون عبارة عن مجموعة من الجهود المشتتة في معارك ملتبسة وتافهة، لا تمكنها من الوصول إلى أهدافها، بل إلى عكسها.

فعلى سبيل المثال: لا تقبل النسوية الحديثة الحديث عن مشكلات المرأة النفسية والجسدية المتزايدة نتيجة تحرير الإجهاض ما دام في ذلك تحقيق لأحقية المرأة في امتلاك جسدها، كما أنها ترفض الاعتراف بأحقية المرأة في ممارسة واجباتها الدينية كحق المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب، ولا ترى ذلك من التدخل في حريتها الشخصية بل هو خضوع للمؤسسة الدينية الذكورية. 

ثم يوضح المؤلف الأسباب التي جعلت النسوية الحديثة تقصر في خوض المعارك الحقيقية، من أبرزها: أنها ترى المرأة طبقة اجتماعية متجانسة، لها مشكلات وتحديات واهتمامات مشتركة، على الرغم من أن للنساء اهتمامات متباينة وفق النسيج الاجتماعي والاقتصادي الذي ينتمين إليه.

وتعتمد النسوية بشكل أساسي أثناء خوضها لهذه المعارك على رفع شعار المظلومية، وتسعى إلى أن تحقق في القمع المحتمل الذي يمكن أن تتعرض له برهانا على صحة نضالها، ويورد المؤلف بشكل تفصيلي مثالا على أبرز المعارك الوهمية للنسوية الحديثة وهي محاربة الصور النمطية بسبب هوس التمييز الجنسوي، وذلك في سبيل بيان هذه النقطة بشكل أعمق.

أين الرجولة

ولأن المؤلف كما سبق أن ذكرنا يرى النسوية والذكورية وجهين لعملة واحدة، يتنقل في هذا الجزء إلى الحديث عن تمدد الأوهام الذكورية في صفوف الرجال المعاصرين إما بشكل معلن أو بصيغ مستترة، وذلك لكون الذكورية اليوم صارت تكتسي صورا متعددة تخالف الصور النمطية في الأدبيات النسوية.

من أبرز المظاهر التي تدل على الذكورية الحديثة في الوقت الحاضر هي الرجل الغائب، وهو ما وصفه المؤلف بكونه أزمةَ رجولةٍ لها العديد من المظاهر، منها تأنيث الذكور في الكلام واللباس والمشاعر والقيم، والعزوف عن الزواج أو التأخر في الإقدام عليه لأبعد سن ممكن دون مبرر اقتصادي.

نتيجة لمختلف هذه الأسباب أصبح هناك أزمة رجولة تنشر في أوساط الجيل الحالي بشكل كبير، والعديد منهم ينسبون أسبابها إلى المرأة من خلال  اتهامها بالتسلط والتجبر، وهو ما نتج عنه زيادة في معدلات الكراهية للنساء في أوساط الرجال، وتعزيز الرغبة في الانتقام منها، وفي الوقت نفسه فإن الرغبة في تملك جسد المرأة لا تزال مستمرة عندهم، وبذلك يكون بغض المرأة معنويا مع حب تملكها جسديا هو التعبير العصري عن الذكورة، الذي ساهمت النسوية في إنتاجه وهي تظن أنها تحاربه.

تاريخ النسوية في العالم الإسلامي 

في فصل الكتاب الأخير اختار المؤلف أن يكون الحديث عن ملخص تاريخ النسوية في العالم الإسلامي، ويستهل المؤلف حديثه بتوضيح أن الحركة النسوية في العالم العربي والإسلامي تجمع بين أمرين:

  • نشأتها مرتبطة بالتيار النسوي العالمي، بحيث تكون متفرعة عنه في المطالب وآليات اشتغاله والارتباط المادي والمعنوي.
  • الحركة النسوية في العالم العربي والإسلامي لم تقتصر على التقليد، بل عملت على إحداث خطاب خاص بها تخضع فيه المخرجات الفكرية الغربية للثقافة العربية، فتنجح قليلا وتفشل في أكثر الوقت.

ثم ينتقل المؤلف إلى بيان النشأة التاريخية للحركة النسوية في العالم العربي والإسلامي انطلاقا من الحملة الفرنسية على مصر والأحداث التالية لها حتى وقتنا الحاضر.

قسما النسوية في العالم الإسلامي

يوضح المؤلف فيما بعد الطريقة التي تعتمد عليها نساء العالم العربي والإسلامي في اتباع النسوية الغربية، وهن في ذلك على قسمين:

  • الأول: النسوية المغتربة الرافضة للدين.
  • الثاني: نسوية غير رافضة للدين من حيث هو، ولكنها تعصب الجناية بالقراءة الذكورية للنصوص الدينية.

 ومما سبق يجد المؤلف أن القسم الثاني هو الأحوج إلى الشرح والتوضيح بسبب كونه الأعظم تأثيرا على مجتمعنا المحافظ الذي يتمسك بدينه، ولأن مناقشة شبهات الفريق الثاني تدخل حيز الإمكان لوجود أرضية مشتركة يمكن استخدامها كلغة للحوار.

ودعوة الفريق الثاني تقوم على مبدأين أساسيين هما: أصول التلفيق، وتطبيق التلفيق، ويشمل المبدأ الأول على ثلاثة مناهج أساسية يعتبرها المؤلف الأكثر تداولا في الكتابات النسوية المعاصرة وأورد كلا منها بالشرح والتفصيل، وهذه المناهج هي:

  • مراجعة علم أصول الفقه.
  • القراءة التاريخانية.
  • القراءة التأويلية.

ترشيد النضال النسوي

وفي ختام الفصل يوضح الكاتب الطريقة الصحيحة التي يجب من خلالها تحقيق نسوية حديثة راشدة من خلال الاهتمام بالمشكلات الحقيقية التي تعاني منها المرأة في الوقت الحاضر، مثل التحرش الجنسي المفروض في أماكن العمل والمواصلات، أو التزايد الخطير لمعدلات الاغتصاب بسبب السعار الجنسي، أو المتاجرة بصورة جسد المرأة في الفن الدرامي، وغيرها من المشكلات الحقيقية.

وضَّح المؤلف بعض الطرق التي يمكن اتباعها من أجل ترشيد النضال النسوي من أبرزها:

  • مراعاة التصور الفطري القائم على انقسام الإنسان إلى ذكر وأنثى، ورفض التصورات المشكِّكة في ذلك.
  • إعادة الاعتبار للطبيعية البيولوجية للرجل والمرأة معا في نوع الأدوار المجتمعية المسندة لكل منهما.
  • إحياء المفهوم الشرعي للمساواة بين الجنسين في التكليف وخطاب العبودية والأحكام غير المختصة.

 اتباع الطرق السابقة وغيرها، يضمن الحفاظ على حقوق الرجل وحقوق المرأة دون إفراط أو تفريط.

في النهاية فإن هذا الكتاب جدير بالاطلاع والاستفادة من قضاياه وأفكاره، يدرك القارئ من خلالها مدى الضرر الذي يسعى داعمو الأيدولوجيا النسوية الحديثة إلى إحداثه في البنية الإنسانية الفطرية التي جبل الله عليها الخلق، وكيف يمكن التغلب على معظم أفكارها السلبية بصورة صحيحة، تضمن حفظ حقوق كلا الطرفين، وتجنب الوقوع في براثن صراعات دعاة الحرية الزائفة.

رضوى التركي

كاتبة، آخذة بعنان قلمي في سبيل الله، تخصص تربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى