لماذا تراجعت الأمة الإسلامية؟ الجزء الأول: العوامل الداخلية
إنه السؤال الذي ستجد له من الأجوبة العشرات المختلفة المتنوعة الصحيح بعضها والمتناقض بقيتها، لدرجة أن أحد المجيبين يرى سبب تراجعها يكمن في دينها نفسه الذي أطلقها قبلًا و نظمها وغير بها العالم. وارتباطًا بموضوع سابق كنت قد نشرته على موقع تبيان بعنوان “تفريغ الأمة من حماتها” أجدني مضطرًا أن أقدم محاولة جمع لمختلف الرؤى حول سبب تراجع الأمة عن الركب الحضاري بعيدا عن اختزال المشكل في نقطة واحدة أو جهة واحدة أو حتى في الإسلام بعينه كما فعل الكثيرون من ذوي البصيرة العمياء، فلماذا تراجعت الأمة الإسلامية؟
للجواب عن هذا السؤال سأقسم الموضوع حسب الحاجة إلى قسمين رئيسيين و هما:
-
عوامل داخلية
-
عوامل خارجية
ثم أشرع بعدها في تقسيمات داخلية لكل عامل حسب الضرورة و الحاجة.
الجواب على السؤال لابد له من غوص في التاريخ بشكل ضروري، ليس التاريخ الرسمي الذي درسناه في المدارس وإنما التاريخ بكامل أحداثه حتى التي يخفونها علينا تنفيذًا لرغبات جهات معينة إضافةً إلى دراية بما يحيط بنا من أحداث وما تعلق بها من مصالح و اتفاقات. واختصارا للوقت، لنجب عن السؤال عن العوامل التي تسببت في تراجع أمتنا.
عوامل داخلية
هناك طبعا عوامل داخلية مصدرها الأمة ذاتها، فليس كل شر لابد له أن يأتي من الخارج، فالأمة ذاتها أضرت نفسها بنفسها حتى خضعت وضعفت أمام العوامل الخارجية، فلولا الضعف الداخلي لما كان للهجمات الخارجية كل هذا التأثي، فما هي هذه العوامل الداخلية:
-
سوء فهم الإسلام كدين
أول هذه العوامل الداخلية هو سوء فهم الإسلام كدين، بل فهم ماهية الدين ذاته. فقد تأثر المسلمون كغيرهم بالنظرة القاصرة العلمانية لمفهوم الدين فاختزلوه في العبادات والإيمان فقط، وأقاموا تفاعلاتهم مع المصطلح من هذه الزاوية فقصروا كل “دين” على هذه الصورة وحاولوا-و ما زالوا يحاولون-فرض هذه النظرة على كل اعتقاد، وحصره ضمنها. فإن تجاوزها حاربوه حتى يعيدوه ضمن الحدود التي أرادوها له، فلا يضرهم ولا يزاحمهم في مجالات الحياة، فهل الإسلام يقبل ذال؟
بالطبع لا، والآيات الدالة على ذلك كثيرة من كتاب الله بعضها يزاحم بعضًا شهادةً على أن هذه النظرة العلمانية لمفهوم الدين إن هي صلحت للمسيحية فالإسلام استثناء لها. فهو دين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهو عقيدة وشريعة ومنهاج حياة للمسلم، بل ولغيره أيضا في إطار دولة محكومة به تمشي بأوامره وتجتنب ما نهى عنه. و لم يكن الإسلام قط “دينًا” كما النظرة العلمانية، يكتفي بالعلاقة بين العبد وربه، بل كان أداة لإسقاط الظالمين وإعلاء العدل رغم أنف المعتدين. فما كان الجهاد وسيلة لفرض الذات والعقيدة، بل أداة لتحرير الشعوب من كل قيد يمنعهم أن يسلموا لله الواحد القهار، وما كانت الشريعة استعراضًا لقوة الدولة بل كانت لتنظيم الشعوب وضبطها حتى لا تنحرف خارج طريق العدالة.
فأول عامل سبب تراجع الأمة كان الخطأ في التعامل مع مفهوم “الدين” و دلالة “الإسلام”.
2. ندرة العلماء الربانيين
فمما يميز هذا الدين هو عدم وجود كهنوت فيه، فلا عصمة لعالم دين فيه فيحلل و يحرم، بل له علماء يستندون على الحجة والبرهان كي يقنعوا، فإن احتاجت لهم الأمة برزوا استجابة لها غير آبهين بدنياهم ولا بما ينتظرهم من عذاب دنيوي من طرف من تجبر واستأسد. فبهؤلاء كانت الأمة تعود كلما كادت تسقط عن جرف التاريخ، فقد كانوا سبب هدايتها ونجاتها، و كم من مرة وقف فيها عالم دين واحد في مواجهة النظام الحاكم وزبانيته يحاججهم و يدافع وحيدًا عن دين الله، فيجعل الله على لسانه وفي موقفه الحل والمنقذ للمسلمين، فمثل هؤلاء في زماننا هذا بين مسجون، ومقتول، ومطارد، حتى يكاد الشخص يجد أحدهم ليفاجأ باعتقاله أو مطاردته للتخلص منه من طرف دول هي نفسها من تدعي الدفاع عن دين الله.
3. غياب القادة
فبين من يهيم في حب “الخليفة التركي” و من يسكر بعبق إعجابه بحاكم دولته، وجدت الأمة نفسها باحثة عن قائد ينقذها ويشد أركانها ليأخذها نحو النصر؟ وفي انتظار ذلك ينقسم المسلمون كل برهة فتقف كل مجموعة مع شخص ترى فيه “صلاح الدين”، حتى وجدنا من يقف مع أراذل القوم باسم عدم الخروج على الحاكم، لتتعالى منابر الجمعة في كل دولة صادحة بالدعاء بالنصر لحاكمها دون غيره وأن يجعل الله نصر الإسلام على يديه هو دون غيره. فيتخندق المسلمون منفصلين كل يقف مع حاكم دون آخر أو مع شيخ دون آخر، مؤمنين أنه مالك للحل المنتظر دون التأمل في كل الخناجر التي طعن بها الأمة في ظهرها حتى تكسرت النصال على النصال.
4. قلة العلم الشرعي و حسن قراءة الواقع
حتى بلغنا درجة لا يعرف فيها الكثيرون ممن ينتسبون للإسلام أركان الإيمان، بل و يأتون نواقضًا من نواقض الإسلام معتقدين أنها تقربهم لله تعالى. فقلة انتشار العلم و تعلمه جعلا العامة متوقفين على علماء ليرشدوها، فلما قل العلماء الربانيون اتجهت العامة لأراذل القوم ممن لهم مظهر الصلاح وتظهر عليهم علامات القبول فيستفتونهم في دينهم و يسيروا على “هديهم”. فلم يعد هناك كثيرون ممن يجادلون عن علم من عامة الناس بل يخيل للمرء أن “علماء الدين” قد شكلوا طبقتهم الخاصة التي تحوطها الدولة بحمايتها فيأتمرون بأمرها وينتهون بنواهيها، فيجدوا الشعوب خلفهم تسير على خطاهم، فضلت العامة بضلال العالم الذي أصبح أداة في يد النظام الحاكم، فزيد على جهل الشعوب بالعلم الشرعي، زيد عليها سوء قراءتهم للواقع وعلاقاته ونفورهم منه حتى وجدوا أنفسهم يساقون دون أن يكون لهم إبداء وجهة نظرهم.
5. القوانين التي تحكمنا داء و ليست دواء
فلا يخفى علينا أن كل دولة “إسلامية” تحاول خلق تدين يناسبها فنجد “الصوفية” في المغرب و”السلولية” في السعودية و عجبا في البحرين و هكذا دواليك، كل دولة تحاول إصدار نسختها من الإسلام حتى وجدنا فرنسا العلمانية هي الأخرى تنحوا في الاتجاه ذاته لخلق “إسلام فرنسي”، مرتكز على النسخة المغربية. و لتلك الغاية كانت القوانين التي تحكمنا مسارًا ينقل المجتمع بشكل ناعم من الإسلام نحو نسخة منه متوافقة مع النظام. وكلما حدثت نوبة أيقظت الشعوب استعرضت الأنظمة الحاكمة على أسماعهم منجزاتها و ضرورات الخضوع لها بالاعتماد على علماء السلطان الذين لا يتوقفون عن الإشارة إلى كون الأمن الذي نعيشه أهم من الصراع لإعادة هيبة الإسلام من جديد، و أن هذه القوانين الحالية ما هي إلا مرحلة قادمها إن شاء الله هو التحرك نحو مجتمع أكثر أمانًا و أقرب لما يرى هؤلاء “العلماء” أنه ما يريده الله تعالى.
6. الرضا بالواقع و كره الموت
فقد رضي العديد من المسلمين بالواقع الحالي بكل ما لهم فيه من مصالح، ولاستيفائه حاجاتهم ورغباتهم، فقرروا أن يحافظوا عليه عبر عدم البحث عن غيره وإن كان الأمر يضاد أمر الله تعالى، فخلفهم “علماء سوء” يشرعنون لهم موقفهم هذا باسم المصلحة العامة وذرء المفاسد، حتى بلغنا أن من يموت من أجل قطعة الأرض التي يعيش عليها فهو شهيد، فيما من يموت على قطعة أرض أخرى مدافعًا عن دينه فهو خارجي لا شهادة له، خاصة وإن كان الأول جنديًا والثاني مجرد شخص من عامة المسلمين. فكيف يقرر شخص من عامة المسلمين أن ينتفض دفاعًا عن دينه دون إذن وليه؟! بل كيف يفني حياته من أجل دينه؟! إلا أن يكون مغسول الدماغ، فلا عاقل في شريعة هؤلاء يموت كما أمر الله بل كما أمر الحاكم و زبانيته.
7. التفرق و انعزال البعض عن الأغلبية
وهنا أعني به التفرق الذي لا مبرر له والذي أدى لتكوين جماعات مختلفة متحاربة فيما بينها في العديد من المرات، لدرجة أن الكثير من المجاهدين اختاروا الاستقلال في جماعات لكل منها قوانينها حتى تركوا الأمة دون سيف يذود عنها، بل وتحولت عدة من هذه الجماعات إلى السيف الذي تفزع به الأنظمة الحاكمة شعوبها حتى تضمن ولائها.
كانت هذه أهم العوامل الداخلية التي استطعت تذكرها، فإن حضرني غيرها حاولت إضافتها وإن كان الموضوع آخذا في الكبر ومحتاجًا لكتاب مستقل.
معلوماتك مفيدة
كاتب ماهر جداً و وصلت المعلومة جيداً