الزيادة السكانية: نقمة أم موارد غير مستغلة

هل زيادة أعداد السكان نعمة أم نقمة؟ سؤال يلازم البشرية منذ القدم، جعل المسألة السكانية تثير الكثير من الجدل بين عامة الناس والمتخصصين في التنمية والعاملين على تحقيقها من الساسة.  

منذ مائتي عام بالضبط عام 1825م عندما تحدث “مالتس” الإنجليزي عن المتوالية السكانية التي تلتهم موارد الأرض المتناقصة وتضيع جهود التنمية، وكرر حججه في القرن الماضي عالم الأحياء “بول إيرليش” وزوجته “آن” في كتابهما (القنبلة السكانية) عام 1968، حيث تنبأ بأن النمو السكاني البشري المتفجر سيؤدي إلى أحداث كارثية بدءًا من سبعينيات ذلك القرن الماضي، بما في ذلك المجاعة والمجاعة الجماعية.  

وعلى الرغم من عدم تحقق تنبؤاتهما، بالإضافة إلى التطورات الإيجابية في الخطاب التنموي بخصوص العلاقة بين السكان والتنمية، وما كشفته الخبرات العملية في العديد من المجتمعات عن عدم صحة هذه العلاقة في المطلق؛ إلا أن العديد من حكومات دول العالم ما زالت تصر على التمسك بتلك العلاقة العكسية بين زيادة السكان والتنمية، وتصر على أن زيادة السكان عنصر سلبي في العملية التنموية  لتخفي كثيرًا من نواقص أهليتها لإدارة مجتمعاتها.

بل ويعتبر هذا الخطاب أن شرط التنمية الرئيسي تنظيم أو تحديد النسل والاكتفاء بالحد الأدنى منه حتى يمكن تحقيق الأهداف التنموية العزيزة على التحقق. لكن بالرغم من تحقق ضبط وتنظيم وتحجيم الزيادة السكانية لم تتحقق التنمية، فمن أين المشكلة إذًا؟

الكثرة.. نعمة إلهية لكثير من الأمم

الزيادة السكانية

نجد آيات القرآن تتحدث عن إيجابية العنصر السكاني في تحقيق القوة والوفرة للأمم وتمكنها من استثمار مواردها واعتباره نوعًا من المدد الذي يُنشأ أممًا ويُجدد ويُكثّر أخرى ويعيد لها القوة والحيوية. فالكثرة المؤمنة العاملة العالمة في القرآن العزيز وفي السنة المشرفة مدح وقوة ونماء للأمة: فهذا شعيب عليه السلام يُذكّر قومه بنعمة الكثرة والبركة في النسل: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وكذلك في قوله تعالى للمسلمين تذكيرًا بنعمته عليهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]. 

ونقرأ في القرآن على لسان هود عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، ومثله على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح: 10-12]. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للمسلمين: ((تزوجوا الودود الولود فإِنَّي مُكاثِرٌ بكم الأُمَمَ)) [سنن أبي داود: 2050].

ما رأي الخبرة التنموية في المسألة السكانية؟

على مر التاريخ، كانت البلدان ذات عدد السكان الأكبر هي البلدان الأقوى على الرغم من ثبات العوامل الأخرى فـ”تأثير المضاعف الديموغرافي” يعد عاملًا رئيسيًا في قوة أي مجتمع ورخائه. وقد أثبتت الدراسات المتعلقة بنشوء وسقوط الأمم أن العامل السكاني وزيادته كان سببًا رئيسيًا في نشوء حضارات، وأن تدهوره ونقصانه كان معولًا رئيسيًا لهبوط وزوال كثير منها. 

وهو الأمر الذي أكده الفكر الاقتصادي المعاصر عندما توقف عن الربط السلبي بين السكان والتنمية، وظهر خطاب تنموي جديد يرى العلاقة الإيجابية بينهما، ويهدم الأسس التي قامت عليها النظرة السلبية للسكان باعتبارهم عائقا أمام التنمية.  

كما أن الخبرة التنموية الغربية التي يضرب بها المثل في التقدم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تقول أن معدل النمو ارتبط مع الزيادة السكانية طوال فترات نموها الاقتصادي. فالنمو الاقتصادي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية والطفرة السكانية التي شهدتها الولايات المتحدة كانا مرتبطين ببعضهما البعض، فعلى مدى ثلاثين عامًا، كان معدل الخصوبة في الولايات المتحدة نحو 2.1 طفل لكل امرأة مقابل 1.5 طفل في الاتحاد الأوروبي. مع ملاحظة أن أميركا كانت تشهد تدفقات هجرة كبيرة كذلك. وعندما نقارن بين مكاسب النمو والإنتاجية بين عامي 1950 و1960 عما كانت عليه خلال الثمانينيات والتسعينيات نجدها أعلى مرتين على الرغم من أن هذه الأعوام الأخيرة تميزت بالثورات التكنولوجية، والتي كانت من الناحية النظرية مصادر لمكاسب الإنتاجية.1

كما أن الواقع المعيش خير مصداق لهدم أي فكر يرى في السكان عائقًا أمام التنمية، فمن الصين والهند في آسيا، إلى البرازيل في أمريكا الجنوبية، وجنوب إفريقيا في قارة إفريقيا حيث تضاعف السكان في جميع هذه البلاد كما تضاعف نصيب الفرد من الإنتاج، وإذا أضفنا إلى ذلك خطاب موت الغرب الذي يحذر من اختفاء حضارته نتيجة لجفاف المورد الإنساني واختفاء الإنسان الذي هو عماد أي تنمية، لوجدنا أن عدد السكان عامل قوة شرط حسن تربيتهم وتعليمهم وربطهم ببيئاتهم وإطلاق قدراتهم.  

وتعطينا الهند مثالًا على ذلك، فعدد سكانها يزيد عن 1.4 مليار نسمة، والذي تجاوز عدد سكان البر الرئيسي للصين، وسيتجاوز بأكثر من نحو 2.9 مليون نسمة من البر الرئيسي وهونج كونج مجتمعين، وفقًا لتقرير “حالة سكان العالم” لعام 2023 الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان. ومع ذلك فقد تجاوزت الهند مؤخرًا المملكة المتحدة، القوة الاستعمارية السابقة لها، كخامس أكبر اقتصاد في العالم.

2050: موعد العناء الأوروبي

أدى تباطؤ النمو الاقتصادي والإنتاجية في أوروبا واليابان والولايات المتحدة منذ أوائل الثمانينيات والتي ترافقت مع تناقص أعداد السكان حتى اليوم، إلى إثارة قضية الارتباط بين الديموغرافيا والنمو باعتبارها قضية أمن قومي. 

فقد أصبحت الشيخوخة السكانية وتقلص عدد السكان في سن العمل ونقص العمالة من التحديات الديموغرافية الأكثر إلحاحًا في الاتحاد الأوروبي. حتى أن استفتاء أُجري بخصوص ذلك يؤكد على أن مواطني الاتحاد الأوروبي يتفقون على كون الاتجاهات الديموغرافية الحالية في الاتحاد تعرض الرخاء الاقتصادي والقدرة التنافسية له على المدى الطويل للخطر وتساهم في نقص العمالة.  

وإذا أخذنا في الاعتبار التحول الديموغرافي الذي سيحدث بحلول عام 2050.2 سنجد أن أوروبا قد تعاني من صدمة ديموغرافية في حين ستشهد إفريقيا وآسيا تسونامي سكاني. وهذا التغيير الكبير في التركيبة العمرية للسكان بالزيادة والنقص يفتح فرصًا ومخاطر وتحديات جديدة للقائمين على إدارة الموارد العالم لإنجاز التنمية الاقتصادية أو إفشالها.

المسألة السكانية المصرية.. “اثنين كفاية”

تنظيم النسل في مصر

مصر هي الدولة العربية الأكثر اكتظاظًا بالسكان، حيث يقدر عدد سكانها حاليًا بأكثر من 110 مليون نسمة، مما يجعلها الدولة الرابعة عشرة من حيث عدد السكان في العالم. ويشغل حوالي 95 في المائة من المصريين أقل من 5 في المائة من إجمالي مساحة البلاد. مما يجعل التوزيع الجغرافي السيئ لسكان مصر سببًا رئيسيًا للمشاكل في تخصيص الموارد، وتوافر الخدمات، ونوعية الحياة وليست أعداد السكان ذاتها. 

وللأسف الشديد دأبت الحكومات المصرية المتعاقبة، على النظر للنمو السكاني السريع باعتباره تهديدًا للاقتصاد الوطني وعقبة أمام آفاق التنمية والازدهار في البلاد. وقد بلغ هذا ذروته في الخطاب الرسمي يصف النمو السكاني في مصر بأنه “قنبلة سكانية متفجرة”. بل وصفه أحد المتخصصين بأنه يرقى إلى “الانتحار الجماعي”.3 

وعلى الرغم من تراجع معدل النمو السكاني في العقد الأخير من 2 مليون و188 ألفًا عام 2014 إلى نحو مليون و300 ألف عام 2024، أي انخفاض الزيادة بما يربو من 880 ألف شخص سنويًا.  كما أنه لأول مرة منذ عام 2007 لا تتجاوز أعداد المواليد في العام 2024 حاجز الـ2 مليون شخص. كما انخفض معدل المواليد في مصر بنسبة 46 في المائة منذ عام 2017، وفقًا لمسح أجرته وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية مؤخرًا.4  

وليس ذلك فحسب بل إن عدد السكان قد زاد خلال الفترة من 26 ديسمبر 2024 إلى 25 يناير 2025 بنحو 98 ألف نسمة، وهو ما يُعادل زيادة يومية تبلغ 3260 نسمة فقط، مقارنةً بمعدلات سابقة كانت تشير إلى زيادات أكبر بكثير، ويمثل هذا التراجع علامة فارقة في المشهد السكاني المصري؛ إذ يعكس تباطؤًا في معدل المواليد ستكون له آثار بعيدة المدى على الاقتصاد والمجتمع.  

ويمثل هذا التراجع تغيرًا ملحوظًا في الاتجاهات الديموغرافية للبلاد، وقد يسهم في تحقيق معدل زيادة سكانية يبلغ 1.1٪ فقط خلال عام 2025، وهو المستوى الذي كان مستهدفًا تحقيقه بحلول عام 2028.5 ومع ذلك فإن كل مؤشرات النمو والتنمية بأي مقياس تقول بكل وضوح أن: اقتصاد البلاد في تدهور مستمر وارتفعت معدلات الدين الداخلي والخارجي لمعدلات غير مسبوقة ونسبة الفقر تجاوزت نصف الشعب.

وهو الأمر الذي يجعل أي باحث عن حلول لمشكلة التنمية يعيد النظر في المنطلقات التي حكمت رؤى الحكومات المتوالية منذ الاستقلال حتى اليوم. فالواقع يقول أن قضية التنمية في مصر لا تتعلق بحجم سكانها الضخم فقط.  

كما أن انخفاض أعداد المواليد لا يعني انتهاء المشكلة، ففي حين انخفضت معدلات الخصوبة، مما أدى إلى تقليص الضغوط الديموغرافية طويلة الأجل، لكن “جيل الصدى”، أي الأطفال نتاج فترة التضخم الشبابي، سوف يدخلون سوق العمل قريبًا، مما يزيد من الحاجة إلى سياسات لتسريع خلق فرص العمل. فكيف يمكن لمصر أن تتعامل بنجاح مع سكانها ليكونوا دافعًا للنمو والتنمية كما فعلت بلدان أخرى كثيرة تتميز بارتفاع معدلات السكان؟

نعمة الزيادة السكانية.. نحو استراتيجية جديدة للتنمية 

مصر في حاجة إلى استراتيجية جديدة للتعامل مع قنبلتها السكانية الموقوتة. وهناك دروس كثيرة يمكن تعلمها من جيراننا في تركيا وإيران وفي البلدان التي أحرزت استقلالها وبدأت تنمية اقتصادها معنا وسبقتنا بكثير مثل الصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، وكيف تعاملت مع العامل السكاني. 

وأول نقاط انطلاق هذه الاستراتيجية هو النظر إلى التركيبة السكانية باعتبارها موردًا حيويًا يجب تنميته لبناء مستقبل أفضل. وهو الأمر الذي يعني تغيير أولويات الحكومة المصرية الحالية في تخصيص الموارد وتوجيهها للارتفاع بمستوى السكان تعليمًا وتدريبًا وإتاحة لفرص العمل والإنتاج. وهذا يتطلب زيادة الاستثمار في التدريب، والتوازن الإيجابي بين التعليم وسوق العمل.  

وهو الأمر الذي يعني في الدرجة الأولى وضع سياسات تنمية كافية قادرة على معالجة وتوفير مناخ جاذب للشباب، في التعليم، والتوظيف، والإسكان، والصحة. وبهذا ننتقل من مشكلة السكان كعائق للتنمية إلى إدارة الموارد؛ وفي القلب منها السكان، كحافز للتنمية وقائد لها. ومن ثم تتحول “المشكلة” إلى “حل”. فعندما نعترف بالسكان باعتبارهم موردًا حقيقيًا ستنحل عقدة التنمية المزمنة. لأن عنصر الضعف في  منظومة الإنتاج والاستهلاك سيتحول إلى عنصر قوة. 

أو بعبارة أخرى، ساعة نعرف كيف نفك قيودنا من فكرة عبء السكان، سنعرف كيف نجعل من المواطن منتجًا أكثر مما هو مستهلكًا، ومن ثم فإن كل مواطن جديد يعتبر إضافة للإنتاج.

خاتمة  

انخفاض وزيادة السكان في العالم
المصدر: الجزيرة نت (عددهم تضاعف 3 مرات في 70 عاما.. سكان العالم بين نمو وتباطؤ)

قد يؤدي خفض عدد السكان لتخفيف العبء على الميزانية ويتيح توجيه موارد أكثر للتعليم والصحة لباقي الشعب، وكذلك للاستثمار وتحقيق النمو الذي يعني زيادة دخول الأفراد ورفاهيتهم. لكن ذلك يعني أيضًا على المدى المتوسط والطويل نقص القوى العاملة اللازمة لعملية الإنتاج، وهو ما تواجهه أوروبا واليابان الميتة اليوم، عندما زادت أعداد النعوش عن المهود (نعوش العجائز ومهود الأطفال). 

كذلك، ليس الانفجار السكاني هو العقبة الحقيقية للتنمية، بل ما تفعله الحكومات بالسكان؟ وكيف تنظر إليهم؟ فقد يكون النمو السكاني كارثة أو يكون نعمة. الأمر كله يتعلق بكيفية إدارة موارد الدولة واستغلالها بالسكان ولصالحهم؛ باعتبارهم أهم مورد وثروة فيها.  

أما الإشارة إلى السكان ووصمهم بالفقر وأنهم سبب التخلف، فهو خطاب عاجز يدل على عقم السياسات وجدب الأفكار وسوء اختيار القيادات. فلو كان الادعاء المتعلق بأن زيادة السكان سبب لفشل التنمية صحيحًا، لكانت الهند والصين، الدولتان الأكثر سكانًا، فقيرتين للغاية، ولكانت الدول الأقل سكانًا في إفريقيا، التي تتمتع بموارد طبيعية هائلة، غنية. لكن على الرغم من أن عدد سكان الدول الإفريقية مجتمعين أقل من عدد سكان الهند وحدها، إلا أن هذا العدد من السكان لم يكن مانعًا في تسخير مواردهم الهائلة لصالحهم وانطلاقهم لتحقيق التنمية المنشودة لبلادهم. 

إن المعضلة الديموغرافية في علاقتها بالتنمية تكمن في إدارة السياسات وتنمية الموارد وليس في أعداد المواليد والتحكم فيهم. 

مراجع

  1. بول كيندي، صعود وهبوط القوى العظمى. وكذلك بول كيندي، الاستعداد للقرن الحادي والعشرين. ↩︎
  2. انظر: أوروبا 2050: الانتحار الديموغرافي، النموذج الاجتماعي الأوروبي جان ميشيل بوسيمات وميشيل جوديه. ↩︎
  3. انظر: تصريحات الدكتور ماجد عثمان بخصوص توصيف المعضلة السكانية. ↩︎
  4. وزيرة التخطيط المصرية: انخفاض معدل النمو السكاني 46% منذ عام 2017. ↩︎
  5. تراجع غير مسبوق في معدل النمو السكاني بمصر وانخفاض يفوق التوقعات. ↩︎

عماد الدين عويس

باحث في الشؤون الدينية والسياسية، باحث دكتوراه في السياسية العامة، له مؤلفات عديدة من مقالات… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى