صفحات من دفتر الالتزام: هل من وقفة محاسبة؟

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، قد أصبحتَ اليومَ من فرسان الالتزام ممن أخذ أمر الدين بجدٍ وتحولتْ معه حياته إلى عبادةٍ ومسابقةٍ، ولكن هل من وقفة محاسبةٍ لما فات، ولِنحدد حقيقة مقياس الالتزام الذي وصلتَ إليه؟ ثم نتمكن من تحسس الثغرات وسدها وكذا تصحيح المفاهيم الخطأ وتعديلها.

إن إطلاق كلمة “ملتزمٌ” يرادفه في عصورٍ مضَتْ مصطلح “صالحٌ” ففلانٌ الملتزم في عصرنا يعني في ذلك الوقت فلانًا صالحًا، عُرف بعبادته وحسن خُلُقه وصحبته الطيبة وسمعته الخيّرة بين الناس.

وحين نتأمل في الصالحين في تاريخنا الزاخر، نجدهم أقوامًا علِموا فعمِلوا، وبارك الله في علمهم وعملهم فظهر أثره على الأمة برمتها وانتفع المسلمون من إنجازاتهم،  في حين تعاني أمتنا اليوم مسألة الصدق، فعدد المتعلمين كبيرٌ جدًا ولكن عدد العاملين قليلٌ جدًا، ولاشك أن النوايا تمحق البركة إن كان هذا العلم للشهرة أو التجارة، وليس لخدمة الإسلام ورقي الأمة،  ولهذا فإن غفلةً مثل هذه يطبع الله بها على القلوب ويحرمها لذة الإيمان وحلاوة الفرار إلى الله، فتكون كالآلات، تردِّد العلم وهي أبعد ما يكون عنه.

وقد حذرنا الله سبحانه من هذا الصنف فقال(كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) وقال (وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ) وقال (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) … وهذا ما يعكس حقيقة الالتزام، فهو ليس بكمِّ العلم الذي تعلمتَه أو القبول والشهرة التي قد تحظى بها، بل بكمِّ العمل الذي ترجَمَه هذا العلمُ، هذا هو مقياس الالتزام حق الالتزام، ولأننا في زمنٍ غلَب فيه الرياء والعجب بالنفس وحب الرياسة، فإن الوقوع في مثل هذه المفسدات لمقياس الالتزام عقبةٌ حقيقيةٌ أمام أي ملتزمٍ، وقد ينجو المرء من الأولى ولا ينجو من الثانية أو الثالثة، فهل أدركت مناط الأمر الآن؟!

قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وصدق الله العظيم، إن الطغيان مفسِدٌ لمقياس الالتزام وإن الله بصيرٌ بعباده أعلم بهم وبطبائعهم.

وأنت في الواقع بين خطر الطغيان وخطر التقصير، وكلاهما عقبةٌ في مسيرتك وجب عليك تداركها ومعالجتها.

هل من وقفة محاسبة؟

وحتى نقيس درجة التزامك، لنقف وقفة محاسبةٍ لإنجازاتك منذ التاريخ الذي التزمت فيه وننظر: كم من القرآن حفظتَ؟ كم من التفسير عقِلتَ؟ كم من الثقافة والعلم اكتسبتَ؟

هل من أعمالٍ دعويةٍ أنجزتَها؟ هل من أعمالٍ خيريةٍ تطوعتَ لها؟ كم من العبادات أتقنتَ؟ كم من التغيير حققتَ؟!

كيف أصبحتْ أخلاقُك، كيف هو سلوكك بين أهلك وأصحابك ومحيطك؟ كيف هي صلتك برحمك؟

لأي درجات التواضع ارتفعتَ؟ كم من الزهد والورع تشبَّعت؟ كم من العفو والإحسان سجلت؟!

هل أنت المسابق بالخيرات أم ممن أخبرنا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه لا يزال أقوامٌ يتأخرون حتى يؤخرهم الله.

كيف هو خشوعك؟ كيف هي نوافلك؟ كيف هي اجتهاداتك؟ هل ذقتَ لذة صلاة الليل أو صيام التطوع أو الصدقات والتبرع؟! هل كفِلت يتيمًا؟ هل فرَّجت كرب مسكينٍ؟ هل يسرت أمر معسورٍ؟ هل أصلحت بين الناس؟ هل أحسنت الجيرة…؟ كيف بِرُّك بوالديك؟ كيف حرصك على المسجد؟

كيف أنت والأذكار؟ أما زلت تداوم على أذكار الصباح والمساء؟ أما زلت تحرص على الاستغفار؟ كيف أنت وحِلَق الذكر والدروس والمحاضرات؟ كيف هو بصرك؟ وكيف هي مجالسك؟ تشغلها اهتماماتٌ عظيمةٌ أم غِيبةٌ ونميمةٌ؟

كم من الوقت يمضي في الفكاهة وكم يمضي في أمورٍ جادةٍ؟!

كيف هو أكلك ونومك وسهرك؟

هل قرأتَ لابن القيم؟ هل قرأت “الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي”، هل ازداد إقبالك على القراءة المفيدة؟ كم من الكتب قرأت؟ هل وجدت القدوة الصالحة التي أثرت فيك؟

كم من الذنوب أقلعت عنها وكم من الأخطاء تُبت منها؟ كم من الكبوات تجاوزتها؟

هل دعوت لمعروفٍ، هل دعوت للالتزام؟ هل دعوت للإسلام؟

هل تفكرت في مشروعٍ مفيد للأمة ؟! ماذا قدمت للمسلمين المستضعفين؟! هل يعجبك مدح الناس وثناؤهم عليك؟ هل تبحث عن رأيهم فيك باهتمامٍ بالغٍ؟! هل تحب أن يعرف الناس اجتهاداتك؟ هل لك من عباداتٍ وأعمالٍ صالحةٍ سريةٍ لا يعرفها أحدٌ؟!

هل تدبرت… (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) … هل تستطيع أن تتذكر آياتٍ وقعَتْ في قلبك كل موقعٍ وأثرت فيك فدمعت عيناك وأجهش قلبك رقةً وانكسارًا لمولاك!

هل ظلمتَ أحدًا؟! هل يَحيك في صدرك موقفٌ ما أو قولٌ ما أو تصرفٌ ما!

ماذا تعني لك (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

هل قرأت في كُتُب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، هل تعرفت على أحاديثَ لم يسبق لك معرفتها، هل تدبرت قوله صلى الله عليه وسلم: (تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأيُّ قلبٍ أُشربها نُكت في قلبه نكتةٌ سوداءُ، وأي قلبٍ أنكرها نُكت فيه نكتةٌ بيضاءُ، حتى تصبح على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا لا تضره فتنةٌ مادامت السماوات والأرض، وعلى أسودَ مربادًّا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه).

هل فقِهت قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يهديَ الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم)

هل بحثت في آثار صحابته الكرام من بعده، هل وعَيْت حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن العبد إذا نُشر له ديوانه وأُقيم له ميزانه جاءت أعمالٌ كالغمامات فيقول يا رب ما هذا؟ فيقول سنن هَديتَ إليها كان لك كأجر من عمل بها).

إن أجبتَ على أكثر هذه الأسئلة فقد علمتَ الآن ماذا حققتَ، إلى أي درجةٍ تغيرتَ، وفي أي حالةٍ أنت، هل طغيت أم قصرت أم حقًا… استقمتَ باجتهادٍ!

إن هذه المحطة من المحاسبة تجعلك تُقَيِّم حقيقة التزامك وتدرك فيها ما ينقصك، ولا شك أن أي نتيجةٍ وصلتَ إليها تستلزم منك مراجعةً وتجديدًا للنية.

 ابتدئ من  الإخلاص لله تعالى الذي لابد أن يكون همّك الأول، فلا يُعذب المرء ولا يُفتن بشيءٍ كالإخلاص، يعذب حتى يصبح ذلك دليلًا على صدقه وإرادته لله سبحانه وتعالى، فقد تخرج من بيتك فتتزاحم الخطرات والوساوس لقلبك من المدح والثناء لحالك، ولربما زاد الطينَ بِلةً تزكيةُ الناس ومدحهم لك… وهكذا قد تُفتن في طريق التزامك في باب الإخلاص، وتصاب بعجبٍ في النفس ورياءٍ، ولإغلاق هذا الباب تذكر أن هناك من سبقك لمراتب عاليةٍ بإخلاصه وخشيته من الرياء وأن عليك الحذر من ثناء الناس لأنه قد يفسد عليك إخلاصك فلا تَنْسَقْ خلفه ولا تهتم به واجعل جل همّك إرضاء مولاك.

ثم بعد هذا التجديد للنيّة، عزز الهمة وتعامل بذكاءٍ مع عقباتك النفسية، فأقبل على بعض التغيير في البرنامج التعبدي… أضِف بعض الاجتهادات واستبدِل بعض القُرُبات، لتنزِعَ عنك كل فتورٍ ومللٍ، وتدخِلَ التجديد وألوان الخير إلى حياتك، التحِق بحلق الذكر  لتنهل من بركتها وتستأنس برفقتها وتستقيم بعلمها… قال صلى الله عليه وسلم (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفَّتْهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) وفي حديثٍ آخر (يُقال لهم قوموًا مغفورًا لكم قد بُدلت سيئاتكم حسناتٍ، قال مَلَكٌ من الملائكة: يا رب فيهم عبدك فلانٌ ليس منهم، وإنما جاء لحاجةٍ، فقال الله عز وجل: وهو قد غفرت له معهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

اخرج بقرارٍ جديدٍ بالاستكثار من الأعمال الصالحة وتنويعها، حدد هدفًا جديدًا مختلفًا تنجزه، كصدقةٍ جاريةٍ أو كفالة يتيمٍ، أو توزيع صدقةٍ في مكانٍ لا يعرفك فيه أحدٌ! أي عملٍ صالحٍ تتقرب به إلى الله يكون جديدًا لم تُقدِمْ عليه من قبلُ، وأضعف الإيمان، سجدةٌ! فهل جربت أن تسجد لله في مكانٍ لم يسجد فيه أحدٌ قبلك أو خطر على قلبه أنه يمكنه السجود فيه، فإن خطر في قلبك هذا الأمر فبادرْ للسجود ولا تتأخر، يكن لك ذخرًا عند الله وفيه من الشعور العظيم ما الله به عليمٌ، جرِّبه يومًا، في أرضٍ لم يسكنها البشر أو في ساحل بحرٍ مهجورٍ لا يرتاده أحد، في شطٍّ يعرف المد والجزر، أو جزيرةٍ صغيرةٍ أو صخرةٍ كبيرةٍ في البحر، في أي مكانٍ لم يسبق أن سجدتَ فيه وناجيت ربك بِدُعاء عبدٍ صادقٍ خاشعٍ مخلِصٍ محبٍّ يرجو رحمة ربه ورضوانه!  صلّ فيه ركعتين أو اسجد فيه سجدة شكرٍ وتقرَّب من مودِّعٍ، لترى طعم تلك العبادة حين تُخلِصها لله ولا يدري عنها بشرٌ في الأرض إلا ملائكة السماء.

قد يهون العمر إلا ساعةٌ وتهون الأرض إلا موضعٌ…

قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (ما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئِن استعاذتي لأعيذنه، ولئِن سألني لأعطينه) … ويا لَعظَمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف فقِهوا المسابقة، كيف أعيى الصدِّيقُ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنهما، في جميع أبواب المسابقة، فانظر في تلك المواقف العظيمة لهم لتدرك سر تفوقهم على بقية الخلق! من تسابقوا في خدمة امرأةٍ عجوزٍ عمياءَ وهم الخلفاء العظماء!

اعتمِر أو أدِّ فرض الحج إن استطعت، سافر لمناطق شهدت معارك المسلمين التاريخية، اقرأ عن سيرة بطلٍ من أبطالها تدبرها وتبصر في معالم النجاح فيها… اجعل سياحتك عبادةً، كن باحثًا كن عارفًا لا تركن لمللٍ… كن متفكرًا متدبرًا مستنيرًا…. اختلِق الأعمال والمشاريع النافعة في حياتك حتى لا تجد وقتًا للسأم، بل تعجبُ لمن يجدُ وقتًا لمثل هذا في حياته وهو مسلمٌ مَنَّ الله عليه بقرآنٍ وهمةٍ تواقةٍ… ففي أسوأ الظروف، لا بطالةَ مع مسلمٍ يحمل كتاب القرآن في يده!

زر المستشفى حيث يرقد المرضى في حالةٍ ميؤوسٍ منها، لا يهم أن تعرف أحدًا منهم، زر مريضًا تجهلُ من يكون! تأَمَّل فيمن ينتظر الموت ولم يبق له أملٌ في الحياة، كقسم أمراض السرطان مثلًا، لتتفكرَ في نعم الله عليك فتشكره وتقترب أكثر ولتكسب أجر زيارة مريضٍ وتذكرة مودِّعٍ.

انظر فيمن سبقك لا من تخلَّف عنك… حين يكون الأمرُ أمرَ دينٍ وأمةٍ! وانظر فيمن حُرم ما لديك ومُنع ما تملِك، حين يكون الأمر أمر دنيا ومادةٍ.

هنا تتوقف صفحتنا في مقياس الالتزام، لتستدركَ لا لتُحبطَ نفسَك، لتنطلقَ لجِدٍّ أكثر فما هو آتٍ أعظم.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى