النظام العالمي الجديد والبحث عن عدو: هل يجد أفضل من الإسلام؟!
قرأنا في المقال السابق عن تشكل النظام العالمي الجديد ووسائل هيمنته على العالم كقطر أوحد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكيف كانت هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان سببًا في قيام هذا النظام العالمي الجديد؟ نكمل الآن التعرف أكثر على هذا النظام العالمي الناشئ من خلال التعرف على عدوه.
النظام العالمي الجديد والبحث عن العدو
تحتاج الأنظمة السياسية في بعض الأحيان خلال مراحل تطورها إلى «عدو» خارجي، بهدف توظيف الخطر والتهديد الذي يمثله العدو المفترض؛ سواء أكان حقيقيًا أو وهميًا لتحقيق غرض ما أو تبرير سلوك سياسي معين. وقد ظل الاتحاد السوفياتي يشكل طيلة الحرب الباردة تحديًا أيديولوجيًا وتهديدًا أمنيًا للغرب، الذي وجد في ذلك مبررًا لتطوير قدراته العسكرية بتخصيص نسب مرتفعة من الميزانية العامة لقضايا الدفاع ودعم هيمنة العقلية العسكرية. ولأن الخطر السوفياتي قد زال بانهيار مصدره كان لزامًا على الغرب البحث عن البديل «عدو جديد» لضمان استمرار نمو الآلة العسكرية الغربية بنسب مرتفعة.
وهذا ما يفسر زيادة النزعة الاوليغارشية على مستوى النسق العالمي حيث السيطرة والتحكم بيد الولايات المتحدة. وهذا في ظل انسياق الغرب وحتى روسيا للسياسة الأمريكية، وكذا انتهاج الصين لسياسة تقوم على الحذر والبراغماتي. وهذا ما سهل على الولايات المتحدة والدول السبع الأكثر تصنيعًا فرض رؤاها الخاصة على العالم حيث بات الجميع مطالب بالانصياع والامتثال وهنا ظهر جليا إتباع الازدواجية في التعـامل خاصة مع قضـايا العالم الثالث وأضحت الثقة هشه بين الشمال والجنوب.
ما هو العدو الأبرز للنظام العالمي الجديد؟
إمكانية تنامي العداء بين الإسلام والغرب، في حالة وضع الإسلام كمعاد أو مهدد للهيمنة الغربية (الغرب) بعد أفول الشيوعية، وفي جانبه الحضاري والقيمي يمكن أن يكون الطرف المقاوم لقيم الحضارة الغربية الكاسحة بعد انهيار الأيديولوجية الشيوعية، وذلك ما تكون تداعياته على الأمن المجتمعي
هكذا كان التنبؤ الذي أثبت صحته. إن النظام العالمي الجديد كان قد وضع عدة أهداف لتكون في خانة الأعداء المحتملين للهيمنة الأمريكية الغربية منها: الصين كقوة اقتصادية منافسة، وروسيا كمنافس سابق للولايات المتحدة، وألمانيا واليابان، والمارد الإسلامي الرافض للهيمنة بكافة أشكالها، ولا شك أن أبرز هؤلاء الأعداء وأشدهم خطورة على الأمريكان هو الإسلام الرافض للهيمنة الغربية.
وشهد شاهدٌ من أهلها
شهد كلا من روبرت جيتس المدير السابق للـ (سي آي إيه) و الرئيس الروسي جورباتشوف والأمريكي ريغان وكذلك تقرير لجنة التخطيط الاستراتيجي التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، شهد كل هؤلاء على أن الإسلام هو العدو الأبرز في تلك الفترة.
1- أثناء الحرب بين السوفييت والمجاهدين الأفغان
قال روبرت جيتس مدير ال(سي آي إيه) فى مذكراته «في الظلال»:
(وكنا على علم، في تلك المرحلة-حرب السوفييت بأفغانستان-بكثرة أعداد المواطنين العرب القادمين من دول أخرى إلى أفغانستان للجهاد «المقدس» ضد السوفييت. كانوا يأتون من سورية، العراق، الجزائر، وبلدان أخرى. ويقاتل معظمهم إلى جانب مجموعات المجاهدين الأصوليين الإسلاميين،… فقمنا بالكشف بتمعن عن سُبُل زيادة مشاركتهم، ربما من خلال نوع خاص من المجموعات المتعددة الجنسية، لكن ذلك لم يثمر
وبعد ذلك بسنوات بدأ هؤلاء المقاتلون الأصوليون، المدربون على أيدي “المجاهدين” في أفغانستان، بالظهور في مختلف أنحاء العالم، انطلاقًا من الشرق الأوسط حتى مدينة نيويورك، وهم لا يزالون يقاتلون في حربهم الجهادية ضد أعدائهم ومن بينهم الآن الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت مهمتنا طرد السوفييت من أفغانستان، وكنا نظن أن أفغانستان بعد السوفييت سوف تكون رهيبة، إلا أننا لم نكن نعتقد قط أنها كانت ستتحول إلى ملاذ للإرهابيين الذين كانوا يعملون على المستوى العالمي) اهـ.
2- ما قبل الانهيار الكامل للسوفييت
حيث خفت حدة الصراع بين الولايات المتحدة والسوفييت الروس، ذكر تقرير صادر عن لجنة التخطيط الاستراتيجي التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية عام 1988م عددًا من الأعداء المحتملين وكان منها الأصولية الإسلامية في العالم الثالث الرافضة للهيمنة، يقول التقرير:
أما وأن الحرب الباردة قد انتهت، والاتحاد السوفياتي لم يعد عدوًا للغرب بالطريقة التي كان عليها في السابق، فإن مصادر التهديد البديلة ستكون خلال السنوات القادمة هي مصادر عدم الاستقرار في العالم: الأصولية الإسلامية في العالم الثالث، والأنظمة السياسية غير المستقرة، وأن على العرب والحلف الأطلنطي أن يكون مستعدًا جيدا لمواجهة هذه المصادر الجديدة للتهديد
3- في مرحلة ما بعد حل الاتحاد السوفييتي وتفككه
اجتمع (غورباتشوف) الذي أشرف على حل الاتحاد السوفييتي بـ (مرغريت تاتشر) رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك بالرئيس الأمريكي (ريغان) ليعلنوا أن الإسلام وحضارته وشعوبه هم العدو المقبل للحضارة الغربية. وطرحت فكرة توسيع حلف الناتو ليشمل روسيا ودول أوربا الشرقية أي دمج حلف (وارسو) في (الناتو) عمليًا، ولما سُئل عن جدوى ومعنى بقاء حلف الناتو بعد زوال المعسكر الشرقي ولم لا يحول لحلف اقتصادي وثـقافي؟
أجاب القائمون عليه بأن هناك ضرورة لتقويته وتوسيعه لمواجهة الخطر القادم والمتمثل بالإسلام والأصولية الإسلامية، ثم خلف (كلينتون)،(ريغان)، ليعلن انطلاق حملات مكافحة الإرهاب الإسلامي، وبدأت أمريكا رسم سياسات العالم والتدخل في مصائر شعوبه ودوله.
المارد الإسلامي ضد الهيمنة
أصبح من البديهيات أن القادة السياسيين في الغرب يعتقدون أن الإسلام-الذي يصفونه ب الراديكالي-هو الآن العدو الأول والخطر الأكبر على الحضارة الغربية بعد سقوط الشيوعية. لقد كان الاتحاد السوفييتي مضاهيًا للغرب في تقدمه العلمي والتقني، وما ترتّب على ذلك من قوة مادية، وكان في مبادئه وأيديولوجياته ومؤسسيه امتدادًا للفكر الغربي نفسه. أما المسلمون فما الخطر الذي يمثلونه على الحضارة الغربية وهم اليوم أكثر ما يكونون تخلفًا في تلك العلوم والتقنيات بالنسبة للغرب، إذ إنهم لا يكادون يملكون من القوة المادية شيئًا:
فما الخطر الذي يمثله الإسلام إذاً؟
إن تصرفات الساسة الغربيين، ولا سيما الأمريكان منهم والبريطانيين، تدل على أنهم لا يحصرون الخطر الإسلامي على حضارتهم فيما يسمونه بالإرهاب، بل يجعلونه في الدين الإسلامي نفسه. إن الدين الإسلامي رافضٌ للهيمنة أيًا كانت وكيف كانت. فالإسلام جاء ليكون هو المهيمن بديلًا عن كافة الأنظمة الجاهلية، فهو الدين الخاتم لجميع البشر لا لقوم دون قوم، نحن مأمورون بالعمل على نزع تلك الهيمنة من على رقاب أمتنا. كيف لا!! وقد حذرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من تلك الهيمنة الجاهلية التي ستصيب أهل الإسلام، وقد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يعلم ما سيؤول إليه حالنا اليوم حين قـال لأصحابه رضوان الله عليهم:
يوشـك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟. قـال: لا، بـل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت
خاتمة
مع كل هذا الخطر الغربي، فإن بعض الدعاة وكذلك بعض الواقفين لهذا الخطر بالمرصاد-من أبناء جلدتنا-يتصرفون وكأنه لا وجود للغرب نفسه؛ فلا يتتبعون أخباره، ولا يهتمون بمعرفة سياساته ومخططاته، ولا يُفكرون في الرد على أفكاره، ولا بوضع استراتيجيات واقعية مماثلة قابلة للتطبيق ردًا على مخططاته الخبيثة.
إن الغرب يعلم جيدًا وربما أكثر من كثير من المسلمين، جوهر هذا الدين وخطورته على هيمنتهم وعلى قيمهم التي يسعون لنشرها، يعلمون أن هذا الدين لو تمكن في أي بقعة كانت على هذه الأرض سيسود الدنيا كلها، فهلّا للمسلمون اليوم معرفة جوهر دينهم والاعتزاز بتاريخ مجدهم التليد والعمل على إعادة هذا المجد بتحطيم كافة القيود العائقة لرجوع هذا العزّ مرة أخرى!!
ولكن لابد أولاً من معرفة أحوال أعداء الإسلام، وكما قال العلامة السعدي-رحمه الله-:
إن معرفة أحوال الكفار من أعظم أبواب الجهاد
فهذه الأمور من الأهمية والخطورة بمكان التعرض لها والتمكن منها لكل من أراد أن يقاوم ويجاهد تلك الهيمنة الغربية على بصيرة والله تعالى أعلى وأعلم.
المصادر
- كتاب آفاق التحولات المعاصرة.
- رسالة ماجيستير بعنوان: (السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خلال إدارتي جورج بوش الأب والإبن).
- كتاب: (دولة الأمن القومي وصناعة القرار الأمريكي: تفسيرات ومفاهيم)
- مقال: (العولمة وصراع الحضارات) لجعفر شيخ إدريس العدد 169 بمجلة البيان.
- مقال: (عناصر الشرك الاستكبار والفحش في القيم الغربية) لجعفر شيخ إدريس مجلة البيان عدد234.