كيف كانت هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان سببًا في قيام النظام العالمي الجديد؟

لم يدر في خلد أحد من صناع السياسة وعباقرة العسكرية وأفذاذ المفكرين، أنه يمكن لشعب يشغل المرتبة الرابعة في قائمة أفقر شعوب العالم أن يصمد لأقوى قوة عسكرية في الأرض ومتاخمة له بحدود يزيد طولها على 1000 كيلومتر توفر له إمدادًا لوجستيًا نموذجيًا ومباشرًا. ولكن شاء الله أن تتحقق المعجزة!!

فقد صمد الأفغان لعملاء الروس من حكامهم منذ عام 1965 إلى 1979 مما سبب الإطاحة بالانقلابات الواحد تلو الآخر، ثم صمدوا للغزو المباشر والمواجهة العسكرية الشرسة مع الآلة العسكرية الساحقة للجيش الأحمر ثلاث سنوات (1979-1982) حتى اقتنعت الإدارة الأمريكية وحلفاءها في الناتو بأن هناك فرصة تاريخية لتحطيم الجيش الأحمر السوفييتي على قمم وسفوح الهندوكوش بصورة أسوأ كثيرًا مما فُعل بالجيش الأمريكي في فيتـنام.

فقرر الكونغرس سنة 1982 تبني الجهاد الأفغاني وركوب موجته، كساحة ترد فيها أمريكا الصاع الفيتنامي للروس بأضعافه، بل ولتجعل منها آخر ساحات الحرب الباردة التـي سيحسم فيها ذلك الصراع بالضربة القاضية كما حصل خلال عشر سنوات.

فقد أرادت أمريكا هزيمة الاتحاد السوفيتي والانتصار في الحرب الباردة، بعد أن كـال لهـا الاتحـاد السوفيتي وحلف وارسو ضربات موجعة في أكثر من مجال، وكانت قضـية أفغانسـتان فرصـة ذهبيـة للأمريكان، وقد استغلوها بصورة صحيحة وحصلوا على ما أسماه نيكسون في كتابه الشهير (نصـر بـلا حرب)، فحققوه بجدارة يحسدون عليها.

تشكُل النظام العالمي الجديد

النظام العالمي

لا يمكن القول أن سقوط السوفييت في وحل الجهاد الأفغاني قطعًا هو السبب الأوحد لسقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه، ولكن يمكن اعتبار تلك الهزيمة هي القشة التي قصمت ظهر البعير.

وهكذا ربحت أمريكا آخر جولة في الحرب بالوكالة مع السوفييت بالضربة القاضية حيث قام المسلمون بلكم الاتحاد السوفييتي تلك اللكمة! وكانت الحصيلة لصالح أمريكا، وكانت نقطة البداية لانهيار المعسكر الشرقي وانفراد أمريكا بالسيطرة على العالم وتمكنها من إعلان النظام العالمي الجديد.فبعد هذه الهزيمة المنكرة تدحرجت الكرة بسرعة إذ أُجبر الروس على إعلان تفكك الاتحاد السوفيـيتي، وحُل حلف وارسو وأُزيل جدار برلين بين الألمانيـتـيـن. وسرعان ما استقلت الجمهوريات المتعددة عن روسيا وسقطت الأنظمة الشيوعية في دول أوروبا الشرقية تباعا كأحجار الدومينو، وقام محلها أنظمة سارعت للارتماء على أعتاب القوة العظمى الوحيدة في العالم أمريكا.
وهكذا تغيرت معطيات النظام الدولي ليقوم على أنقاضه مرحلة جديدة يمكن التأريخ لبدايتها بـ 1990 موعدًا لانطلاق ما سمي بـ (النظام العالمي الجديد).

وسائل ومظاهر هيمنة الولايات المتحدة كقطب وحيد على العالم

مع نهاية الحرب الباردة أصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية أحادية حيث تتميز القوة الأمريكية بالشمولية وذلك لتوفرها على كل مظاهر القدرة المتاحة.

إن هيكل النظام الدولي يتحدد بنمط توزيع القوى فيما بين الدول الكبرى عند قمة ذلك النظام، وهو النمط الذي يحدد بدوره نمط القطبية في النظام الدولي، وليس هناك نوع واحد من القوة يتحدد به نمط هيكل النظام الدولي، ولكن بالقوة العسكرية، والقوة التكنولوجية والقوة الاقتصادية جميعًا يتحدد ذلك الهيكل. وفي هذا الشأن فإن الولايات المتحدة انفردت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، دون سواها من القوى الكبرى بوضع القطب الذي يجمع بين يديه الأنواع الثلاثة من القوة.

وقد تم تحديد المصالح الإستراتيجية العليا للولايات المتحدة الأمريكية في المدى المنظور على النحو التالي:

1- منع ظهور قوة منافسة.               2- تأكيد العولمة بكل أبعادها.

3- السيطرة على مصادر الطاقة.       4- دعم القوى الإقليمية المتناغمة مع السياسات الأمريكية

من مظاهر الهيمنة العسكرية

فعسكريا: زاد الإنـفاق بشكل مضطرد لينتقل من 232مليار$ في أواخر عهد كلينتون إلى 400مليار$ لسنة  2003. وهذا يزيد عن إنفاق كل من روسيا والصين واليابان وخمس عشرة دولة أوروبية مجتمعة. كما تتوفر للولايات المتحدة أحدث وأضخم حاملات الطائرات، وأسلحتها هي الأحدث تكنولوجيًا سواء التقليدية منها أو النووية. وللولايات المتحدة قواعد عسكرية في 40 بلد عبر العالم.

وهذا التفوق العسكري أتاح لها إمكانية الانتشار العسكري-الزجري-بناءً على تدخلات قهرية-والودي-في إطار اتفاقيات ثنائية وإقليمية في مختلف أنحاء العالم. وهي تمتلك من الإمكانيات التكنولوجية في مجال جمع ومعالجة وتوزيع ونشر المعلومات ما يسمح لها بتعزيز رقابتها على كل دول العالم من خلال تقنياتها العالية في مجال الأقمار الاصطناعية المدنية والعسكرية وكفاءتها في مجال الاستعلام والتجسس …الخ. ناهيك عن إقامة قواعد عسكرية في مناطق أخرى بهدف الاستعداد لحروب مستقبلية، ومراقبة التسلح النووي بدول أخرى ككوريا الشمالية وإيران.

من مظاهر الهيمنة الاقتصادية

هيمنة الدولار

كان من الطبيعي أن تفكر أمريكا مـن أجـل تركيع حلفائها ودحر خصومها بالإمساك بشريان الحياة، وعصب الحركة للعـالم الصـناعي؛ وذلـك باحتلال منابع النفط وامتلاكها مباشرة، والسيطرة على المعابر الاستراتيجية للعالم، وزيادة حجم الاستثمارات الخارجية الأمريكية بدول العالم، علاوة على امتلاك أهم العواصم الاقتصادية العالمية كمدينة نيويورك، والتعامل الاقتصادي مع جميع القوى الاقتصادية الكبرى.

كما نجحت بتأهيل اقتصادها ليكون أكثر قوةً واستقرارًا على الصعيد الدولي، من حيث طاقة الإنتاج والمردودية، واعتماد التقنيات عالية الجودة وسيطرة شركاتها العملاقة على حركة رؤوس الأموال والاستثمار والتبادل التجاري الدولي.

كذلك تمكنت أمريكا ومنذ الحرب العالمية الثانية من أن تسيطر على مجمل الاقتصاد العالمي وتتحكم فيه، فاستطاعت تأسيس نظام اقتصادي دولي يخدم أغراضها من خلال المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية التي أفرزها نظام بريتون وودز والتي تهيمن عليها (30% من التمويل الخاص بالبنك وصندوق النقد الدوليين) وعن طريق حقوقها التصويتية في هذه المؤسسات وقدرتها على اختيار رؤسائها ووجود مقراتها فوق ترابها، وهو ما مكنها من تعبئة سياسة كل من المؤسستين لخدمة مصالحها.

فالمنظمات المالية تعرف نفوذًا كبيرًا للأمريكيين فصندوق النقد الدولي-والذي أضحى يؤثر كثيرًا على اقتصاديات الدول النامية-ويفرض الشروط المتعلقة خاصة بالإصلاح السياسي والاقتصادي مقابل تقديم القروض والمساعدة الفنية-تسهم فيه الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر حيث تبلغ حصـتها %17.6، وهذه المساهمة تسمح لها بلعب دور كبير في توجيه قراراته باعتبار النظام السائد في الصندوق يعطي حق التصويت المرجح على أساس نسبة المساهمة والمـستندة أصلا على قاعـدة الحجم الاقتصادي.

من مظاهر الهيمنة الإعلامية

قد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تبتكر تقنيات جديدة للهيمنة على العالم بمختلف الوسائل، كوسائل الإعلام المختلفة (التلفزيون، السينما …)، وهذا يعني أنها تتجه نحو فرض قيمها على باقي دول العالم، كما تمكنت من السيطرة على وسائل الإعلام وتجلى ذلك في الانتشار الواسع للبرامج الأمريكية من أجل خلق مجتمع مستعمر إعلاميًا وثقافيًا.

من مظاهر الهيمنة السياسية

إذا كانت الولايات المتحدة قد لاقت صعوبات وتحديات منعتها من بسط هيمنتها على الأمم المتحدة عامة وعلى مجلس الأمن الدولي بشكل خاص خلال فترة الحرب الباردة، بسبب وجود الاتحاد السوفياتي واستخدامه لحق الاعتراض، فإنه ومع اختفاء الاتحاد السوفياتي وتراجع تكتل دول العالم الثالث ومنظماتها، أصبحت الظروف ملائمة أمام الولايات المتحدة لقيادة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي-المسؤول الرئيسي عن حفظ السلم والأمن الدوليين-وتوجيههما بالشكل الذي يتماشى وأهدافها.

منذ نهاية الحرب الباردة تغيرت بنية النظام الدولي وأصبـح أحادي القطـبية بزعامة الولايات المتحدة بكل ما تتطلبه تلك الأحادية من تركيز كبير لمصادر القوة المختلفة، وهذا ما سهل لها لعب أدوارًا متنوعة في آن واحد. حيث استفادت كثيرا من البنية الأحادية في اتجاه فرض سياساتها.

ومن جهة أخرى فقد تأثرت الولايات المتحدة بظهور فاعليـن جدد من غير الدول على مستوى العلاقات الدولية، خاصة منها تلك الفواعل الرافضـة للهيمنة الأمريكية كالتنظيمات الإسلامـية، ومنها تنـظيم القاعـدة، بالإضافة إلى المنظـمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان والنـاشطة في مجال حماية الـبيئة وغيـرها، حيث الكثير منها تنتقد وتناهض السياسات الأمريكية.

إن العامل الخارجي تجلى أيضًا في بروز ظاهرة المنظمات الدولية والمؤسسات المالية والتجارية الدولية، بالإضافة إلى سياسات التحالفات المـوروثة عن مرحلة الحرب الباردة، وكل هذه المكونات تتأثر بها وتستفيد منها الولايات المتحدة كعـوامل خارجية في اتـخاذ قراراتها، فللولايات المتحدة مثلًا نفوذ كبير في مجلس الأمن لتمتعها بحق الفيتو، كما أنها تستفيد كثيرًا من خلال تحالفاتها مع الأوروبيين داخل الحـلف الأطلسـي وذلك في فرض رؤاها خاصة في المسائل الأمنية.


يتبع.. في المقال القادم نكشف عن العدو الناشئ لهذا النظام العالمي المستحدث. تابعونا

عمّار إسماعيل

المستقبل ليس سيناريو مكتوبًا وعلينا فقط أن نقوم بتمثيله؛ بل هو عمل يجب أن نصنعه… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى