تجربة نجم الدين أربكان: ما لها وما عليها
نجم الدين أربكان: هو مهندس مبتكر أراد أن يستثمر علمه في نهضة بلاده، وصاحب تجربة إسلامية في ظروف قاسية تحت حكم نظام علماني عسكري. مسلم مخلص بحث عن حل فأدركه أو لم يدركه ولكنه ليس معيارًا يقاس إليه.
نشأته
ولد عام 1926 في مدينة “سينوب” بأقصى الشمال على ساحل البحر الأسود، كان والده يعمل قاضيًا، التحق بكلية الهندسة وتخرج في قسم الهندسة الميكانيكية عام 1948 وكان الأول على دفعته فتم تعيينه معيدًا في الكلية.
سافر إلى بعثة في ألمانيا 1951 وحصل على شهادة الدكتوراه في هندسة المحركات، وعمل إلى جانب دراسته رئيسًا لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات “دويتز” بمدينة كولن، وتوصل إلى عدة اكتشافات لتطوير صناعة محركات دبابات تعمل بكل أنواع الوقود عام 1956.
-عاد إلى تركيا في نهاية 1965 ليعمل أستاذًا مساعدًا ثم حصل على درجة الأستاذية في نفس العام وهو في سن صغيرة.
-أنشأ شركة مصانع “المحرك الفضي” وهو في الثلاثين من عمره وشارك معه في هذا 30 من زملائه، وتخصصت هذه الشركة في تصنيع محركات الديزل وما تزال هي الشركة الرائدة حتى الآن.
-تولى منصب الأمين العام لاتحاد الغرف الصناعية والتجارية واستغل هذا المنصب في خدمة الصناعة الوطنية، ولكنه صُدم في موقعه هذا بأن السياسة لا تسمح بالنهضة العلمية أو الصناعية بل تحاربها وهذا ما أدى إلى تحول مساره ودخوله ساحة السياسة فأسس أول أحزابه السياسية ليستمر في الدفاع عن مصالح أمته.
مسيرته السياسية
كانت بداية مسيرته السياسية أنه خاض الانتخابات النيابية 1969 كمرشح مستقل في مدينة “قونية” وفاز –بعدما رفض ديميريل رئيس حزب العدالة أن يضعه على قوائم انتخابات 1969 بسبب ظهور توجهه الإسلامي-وحتى بعد فوزه مُنع من المشاركة في الحكومات المختلفة لنفس السبب.
تأسيس أول حزب
أسس أربكان حزب النظام الوطني وكان أول حزب إسلامي في تركيا عام 1970 وأكد أربكان على ذلك منذ البداية من خلال الكلمة التي ألقاها في أول مؤتمر للحزب بمناسبة مرور عام على تأسيسه قائلًا:
أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام.
في نفس العام أقامت الحكومة دعوى ضد الحزب بحجة انتهاك الدستور العلماني ومحاولة إقامة حكومة إسلامية، فأصدرت المحكمة العليا قرارًا بحل الحزب ومصادرة أمواله وممتلكاته مع حظر ممارسة أعضاؤه للسياحية لمدة 5 سنوات، فاضطر أربكان أن يغادر تركيا، ثم عاد مرة أخري عام 1972 ليحث بعض الإسلاميين ممن لم ينطبق عليهم الحكم لتأسيس حزب جديد وهو حزب السلامة الوطني، ولكن خفف من لهجته الإسلامية وتبنى صورة تبتعد عن استخدام شعارات تظهر التوجه الإسلامي، فخاض انتخابات 1973 وفاز ب11.8% من الأصوات ما يعادل 48 مقعدًا وحصل بذلك علي المركز الثالث.
واستفاد من انقسام الحزبين الكبيرين (حزب العدالة وزعيمة ديميريل وحزب الشعب الجمهوري وزعيمة أجاويد) بأن أجاويد اضطر أن يأتلف مع أربكان فحصل حزب السلامة علي 7وزارات وصار أربكان نائبًا لرئيس الوزراء، لكن هذه الحكومة الائتلافية لم تدم طويلًا حيث سقطت بعد9 أشهر، وتغيرت الأحوال حيث تحالف حزب العدالة مع السلامة وصار أربكان نائبًا لرئيس الوزراء مرة أخرى ، ثم في عام 1977 تراجعت مقاعد حزب أربكان ولكنه حافظ علي موقعه في الائتلاف الحكومي ونائبًا لرئيس الوزراء، ولكن هذا التحالف مع حزب العدالة لم يدم ليعود مرة أخري إلي التحالف مع حزب الشعب.
الأحداث الإقليمية والانقلاب العسكري
1979 في هذا الوقت كانت المنطقة الإقليمية مليئة بالأحداث فمن الثورة الخمينية إلى القرار الصهيوني بضم القدس مروًا بمظاهرة حاشدة في مدينة قونية احتجاجًا على القرار لذا حدث الانقلاب العسكري 1980 بقيادة افرين وحلت الأحزاب وتم فرض الإقامة الجبرية على زعمائها واعتقال الناشطين السياسيين وتعطيل الدستور وسجن أربكان، ولكن بعد ذلك تم إطلاق سراحه مع حظره من ممارسة السياسة لأربع سنوات.
-1983 سمحت الحكومة الجديدة -برئاسة “توركوت”- بتأسيس الأحزاب من جديد فعاد أربكان مرة أخرى لينشئ حزب الرفاة، ولكن لم يُسمح للحزب بخوض الانتخابات 1983 لذلك نقصت أصواته في انتخابات 1984 ولكن أربكان واصل مسيرته حتى حصل على أغلبية الأصوات في انتخابات 1996 ليدخل في حكومة ائتلافية أخرى مع حزب الطريق القويم–بعد انهيار التحالف الحاكم بين حزبي الطريق القويم وحزب الشعب الجمهوري-قضى في رئاسة هذه الحكومة أقل من عام كانت فيهم تركيا لأول مرة تحت إدارة إسلامية.
سعى فيها أربكان إلى الانفتاح على العالم الإسلامي وتغيير تركيا فزار عددًا من الدول الإسلامية، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الصناعية الإسلامية التي تضم أكبر ثماني دول مسلمة تمهيدًا لإنشاء سوق إسلامية مشتركة، واعتماد سياسة وطنية اقتصادية تقف في وجه الاستثمارات الغربية، وتمنع الاقتراض من الخارج مما سيضرب مصالح الدول والشركات الكبرى، حاول أيضًا الترويج لاستعمال العملة الذهبية (الدينار الإسلامي)، وإنهاء السير في طريق الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولكنه لم يفلح في هاتين.
حملة العسكر ضد الأكراد
وعلى صعيد آخر كانت الفترة التي جاء فيها أربكان تتصاعد فيها حملة العسكر على الأكراد، وكانت “الدولة العميقة” تدير هذه الحملة التي تشيع الاغتيالات والتعذيب لكل من يقف ضدها، وفي نفس الشهر الذي ولى فيه أربكان الحكومة وقعت حادثة “سوسورلوك” التي بدأت تكشف خيوط بعض الأعمال غير القانونية التي تقوم بها الدولة، وأصبحت تنشر في الصحافة وتواجه بها الحكومة التي لم تكن تستطيع أن تفعل شيئًا.
-أيضًا لم تفلح محاولاته في التماهي مع السياسات المستقرة كمواصلته الدعم اللوجيستي للقواعد العسكرية الأمريكية في تركيا، أو موقفه من مسألة قبرص أو حتى إبقاء العلاقات مع إسرائيل، أو ابتلاع الحظر الموجود على الحجاب.
انقلاب عسكري جديد
وحدث ما هو المعتاد في تركيا من جنرالات العلمانية وهو انقلاب ولكن بشكل جديد؛ حيث قدمت جنرالات الجيش إلى أربكان مجموعة طلبات لغرض تنفيذها على الفور وتشمل (مكافحة الرجعية –التي تستهدف مكافحة كل ما هو إسلامي-ووقف النشاط الإسلامي أيًا كان وإنشاء هيئة برئاسة نائب رئيس الأركان تشرف على التنفيذ، وبعد أيام من الضغط اضطر أربكان إلى الموافقة والانسحاب كي لا يتحول إلى انقلاب عسكري فعلي بشكل مباشر.
-صدر بعد ذلك قرار بحل حزب الرفاة بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، وتم حرمان أربكان من العمل السياسي لمدة 5 سنوات، وكان الحزب قد وصل في ذلك الوقت إلى 4 ملايين عضو، ولكن أربكان ذو النفس الطويل لم ييأس حيث عاد من جديد مع حزب “الفضيلة” الذي أنشأه بمن لم يشملهم الحظر السياسي وترأسه صديقه محمد رجائي طوقان، ولكنه سرعان ما تعرض للحظر أيضًا بالرغم من اعتماده خطابًا أهدأ وأقل حدة من خطاب الرفاة.
ومن جديد ليعود أربكان ليؤسس حزب جديد عام 2003 وهو آخر أحزابه “حزب السعادة” ولكن تمت محاكمته في نفس العام بتهمة “اختلاس أموال من حزب الرفاة” وحكم عليه بالسجن عامين وكان يبلغ وقتها 77 عامًا من العمر.
العفو الرئاسي
تم العفو الرئاسي عنه عام 2008 برئاسة “عبد الله غول” بسبب تدهور حالته الصحية.
وفاته
توفاه الله الأحد 23 ربيع الأول 1432هـ الموافق 27 فبراير 2011م عن عمر 84 عامًا.
كان في تشييع جنازته الملايين من الأتراك، وشارك الرئيس عبد الله غول وأيضًا رئيس الوزراء ” رجب طيب أردوغان” الذي قطع زيارته لأوروبا ليشارك فيها، وصديقه رجائي طوفان والكثير من الزعماء الإسلاميين على مستوى العالم العربي.
مكانته
حظي أربكان بتقدير كبير داخل العالم الإسلامي بالرغم من طريقته الصوفية ودخوله في العالم السياسي، وأثنى عليه الكثير مثل الشيخ “حازم صلاح أبو إسماعيل” عند وفاته وقال انه (علمًا من أعلام الأمة الإسلامية)، وتوسط له الشيخ “ابن باز” لئلا يعدم في سجنه بعد الانقلاب العسكري.
إضاءات حول تجربة أربكان
كانت هذه التجربة مفيدة وفيها الكثير من الدروس والعبر التي تفيد من يحاول تكرارها؛ فإذا نظرنا ف الأمر نرى أن مقاليد الأمور الفعلية لم تكن كاملة بيده، وأن الدولة العميقة كانت مستمرة فيما تفعله بشكل طبيعي جدًا، ويتيحون له ما يرضونه وما لا يمكن تحمله ويعارض النظام العالمي فالانقلابات والمعتقلات جاهزة له. ولكنها أيضًا نقلت الحركة الإسلامية إلى موقع ظاهر فعال ولا ينكر هذا منصف.
لا يسعنا في مثل هذا موضوع أن ننسى أن الديمقراطية –التي يتخذها البعض سبيلًا حتى الآن-لم توصل إلى التمكين؛ لما فيها من تنازل عن بعض ثوابت الدين، وعدم التزام بالمنهج الرباني.
وأخيرًا لا يغر السالكين لهذا الطريق الفرص التي يبتليهم الله بها–والتي ظاهرها أنها ستمكن لدعوتهم وتختصر المراحل وتقلل التضحيات-مقابل بعض التنازلات عن ثوابت دينهم الذي سلكوا له هذا الطريق من الأصل ولكن الاستسلام الكامل لله.
المصادر:
موجز التجربة الإسلامية في تركيا العلمانية
موجز تجربة نجم الدين أربكان (1)
موجز تجربة نجم الدين أربكان (2)