ثقافة الميمز.. كيف أثرت على تفكير الجيل الحالي؟ 

منذ مبدأ التاريخ البشري كانت الطرفة الساخرة إحدى أهم وسائل الترفيه عند الإنسان؛ فقد دأب الناس على عقد مجالس السمر التي تُتداول فيها بعض فنون من السخرية طيلة تاريخهم، عقدها الملوك في قصورهم، وعقدها الشعراء والأدباء في نواديهم، وعقدها الرُّحّل في خيامهم، وعقدها الفلاحون في أكواخهم. فنشأ من كل ذلك عند كل حضارة من الحضارات تراث هائل من النكت والطرف.

ولم تقتصر وظيفة السخرية على الترفيه فقط، بل كانت في كثير من الأحيان وسيلة قوية للتعبير، خصوصًا أمام الأنظمة المستبدة والحكام الديكتاتوريين، قديمًا وحديثًا على حد سواء. إذ كانت السخرية دومًا المتنفس الوحيد لمسحوقي الكرامة ومهضومي الحقوق، يلملمون بها شتات أنفسهم المنكسرة، ويضمدون بها جراحات كبريائهم المسلوب؛ فهي تعطي الإنسان شعورًا بالتفوق والاستعلاء، وإن كان -في كثير من الأحيان- مؤقتًا ووهميًّا. إنها وسيلةُ تعبير من لا وسيلةَ تعبيرٍ عنده.

كما أنها تعتبر أداة جيدة لشن الحروب النفسية بين الأعداء والخصوم، ولذلك نجد أهل الملل والنحل يسخرون من بعضهم البعض، إمعانًا في تسفيه كل منهم لمعتقدات غيره، ونجد قادة الجيوش يسخرون من جيوش أعدائهم لإضعاف عزائمهم وزرع الخوف في قلوبهم. وكان الشعراء يهجون بعضهم نُصرةً لأنفسهم وقبائلهم، حتى لربما وضع بيتُ الشعر الساخرُ قبيلةً كانت من أعز القبائل، أو رفع أخرى كانت من أحطّ القبائل. كما أن الأمم المنتصرة تستخدمها لإذلال الأمم المغلوبة، وللحفاظ على مشاعر الهزيمة النفسية والفكرية عند أفرادها. إننا إذن أمام سلاحٍ إنساني لا يستهانُ به، جمع بين كونه وسيلة ترفيه ووسيلة تعبير ووسيلة حرب.

اتخذت السخرية أشكالًا مختلفة باختلاف سياقاتها، فلدينا مثلًا الأشكال الكلاسيكية للأعمال الساخرة، كالمسرحية والأفلام والعروض الكوميدية والروايات الساخرة، التي تنتجها نخب فكرية وفنية، ولدينا الأشكال الشعبية التقليدية كالنكتة والقصص المضحكة والأمثال الطريفة. لكن مع الثورة الحديثة لمواقع التواصل ظهر نوع جديد من الإنتاجات الساخرة، يكاد يكون في الوقت الحالي الشكل الوحيد للسخرية، هو ما يعرف بالميمز. والغرض من هذا المقال هو التطرق لما آلت إليه هذه الظاهرة عند الأجيال الحالية، إذ إنها أصبحت أسلوب حياة لدى الغالب الأعم من رواد هذه المواقع، فصار من المناسب وصفها كظاهرة، وكثقافة.

ما معنى كلمة ميمز؟ وأين ظهر المصطلح لأول مرة؟

قبل الدخول في الظاهرة نفسها، لنلقِ نظرة على أصل المصطلح “ميم”، الذي قد يبدو بعيدًا تمام البعد عن المصطلح الحالي، إذ إن الميمز “مفهوم مشتق من البيولوجيا، يعود أصله إلى عالم الأحياء ريتشارد داوكنز Richard Dawkins في كتابه الجين الأناني (1976)، الذي يصيغ مصطلح الميم، للتعبير عن انتشار الأفكار والتصرفات في الثقافات بطريقة تكاد تشبه الطريقة التي تتصرف بها الجينات داخل الجسد من تكرار وتحول واستجابة للمؤثرات. عرَّف داوكنز حينها الميمز بوصفها وحدات أو عناصر ثقافية، تنتقل من فرد إلى آخر عبر النسخ أو المحاكاة خاضعةً مثل الجينات إلى التغير والمنافسة والانتقاء. وأورد حينها أمثلة على ذلك كالنغمات، أو العبارات، أو الموضة، وصولًا إلى المفاهيم المجردة”.(١) وقد أوردتُ هذا الاقتباس هو فقط للإشارة لأصل المصطلح، بغض النظر عن الرأي في النظرية أو الأصول التي تقوم عليها.

الميمز وغزو مواقع التواصل

لا يمكن أن تكون من رواد مواقع التواصل إلا وقد سمعت عن الميمز، ولربما أنت تتابعها بكثرة، بل لعلك من منتجيها أيضًا؛ إذ إنها تكاد تكون المادة الأكثر استهلاكًا على الواقع الافتراضي. الميمز هي باختصار عبارة عن صور مأخوذة أساسًا من أفلام أو كرتون أو مقاطع منتشرة على مواقع التواصل، يفترض أن تكون هذه الصور معروفة الدلالة، يتم استخدامها للتعبير عن فكرة جادة أو هزلية، إما بغرض إيصال رسالة ثقافية أو دينية أو سياسية، أو بغرض الفكاهة والإضحاك.

تعتبر الميمز أحد أهم المنتجات الثقافية الإلكترونية المميزة لهذا الجيل، فقد أنشئت صفحات متخصصة في إنتاج الميمز، وقام على إدارتها أشخاص يسمون باسمها، الميمرز. حظيت هذه الصفحات بجمهور واسع، حيث يقصدها رواد مواقع التواصل من أجل التعبير عن آرائهم أو من أجل الترفيه المجرد، هكذا غزت هذه الثقافة العالم الافتراضي وتربعت على عرش المحتوى الأكثر متابعة والأوسع جمهورًا، على اختلاف توجهات هذا الجمهور.

لكن بما أن السخرية عبارة عن سلاح كما قدمنا آنفًا، وبما أن السلاح ما لم يرتبط بغايات نبيلة وما لم تضبطه أخلاقيات وقواعد عليا؛ فإن آثاره تكون سلبية على حامله والمحمول عليه. فقد أحدث التحرر الأخلاقي وضعف تأثير الأعراف الاجتماعية والدينية في الواقع الافتراضي، حالةً من الفوضى لدى الشباب، يشهد لها تردي الواقع الفكري والقيمي على مواقع التواصل.

الميمز وإضعاف الارتباط بالقضايا الدينية

دعنا قبل الخوض في الآثار الكارثية للميمز نتفق أولًا على بعض الأمور: لا يعني حديثي في هذا الأمر تبرئة نفسي بشكل تام مما سأذكره من سلبيات الميمز، كل ما هنالك أن هذا المقال دعوة للتفكر في مآلات هذه الظاهرة، ومحاولة لبث بعض ما رصدته من هذه المآلات، التي لحظتها على شباب مسلم، بل محسوب على الالتزام والتدين، بل ربما يحسب نفسه على الدعوة والدفاع عن الدين. لذلك فإنني أدعو من يقرأ هذه السطور إلى النظر لما جاء فيها بتجرد، سواء كان متابعًا محبًا أو صانعًا هاويًا للميمز. ولعل هذه المقدمة لم تكن ضرورية لولا ما رأيته من التعنت والتعصب في كثير من الشباب المشتغلين بهذا النوع من المحتوى.

إن الفكرة القبيحة في ميزان العقل والشرع، حين توضع في قالب الميمز، تختفي الكثير من قباحتها بسبب الفكاهة التي تغلفها. وإذا كان نشر هذه الفكرة المغلفة على العالم الافتراضي، حيثُ الشعور بأريحية أكثر من الواقع في الغالب؛ فإن ذلك يزيد من خفاء قباحتها أكثر. وإذا تواطأ على التفاعل مع هذه الفكرة ونشرها والضحك عليها أناسٌ كُثر؛ زاد الخفاء أكثر فأكثر. فهذه كما ترى أغلفة بعضها فوق بعض، تخفف وطأة الضمير الأخلاقي على من يستخدم الأفكار الشرعية التي لا تقبل السخرية في قالب فكاهي لا يتناسب وهيبة هذه الأفكار.

والأمثلة على هذا كثيرة، ولا أحصي كم مر علي منها. طبعًا لا يدخل ضمنها ما هو كفر بواح كالاستهزاء بالله ورسوله أو شيء من شريعته، فهذا لا اختلاف حوله. لكن حديثي عن محاولة نصرة القضايا الدينية بالميمز؛ حيث تتجاوز حدود الأدب والشرع في كثير من الأحيان. وقد مرت عليّ منشورات لبعض من يدعي الرد على النصارى يصور فيها المسيح -عليه الصلاة والسلام- بصور ساخرة، فإذا ما روجع في ذلك اعتذر بأنه يسخر من صورته عند المسيحيين فقط! فتأمل كيف يهون مقام الأنبياء على الإنسان حين يغلف قلة أدبه بغلاف السخرية.

ولا أنسى أني نصحت أحد من يكثرون من صور النساء العاريات والألفاظ البذيئة في ميمز تسخر من أعداء الدين ألا يفعل ذلك، فرد عليّ آخر قائلًا: “المهم سلامة العقيدة”! كأن الالتزام بالخلق الحسن وحفظ حدود الأدب العام شيء هامشي لا قيمة له أمام “سلامة العقيدة”، هذا لو تغاضينا عن كون الخلق فرعًا عن العقيدة أصلًا؛ فالذي أخبر بأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته هو نفسه -تبارك وتعالى- الذي أمر بحسن الخلق عن طريق كتابه وسنة رسوله.

بالإضافة إلى أن تناول موضوع ما بشكل ساخر، لا محالة يزيل عن ذلك الموضوع الكثير من هيبته من النفوس، وينزع عنه الجدية التي يُفترض أن يُتناول بها، بل ربما تصل المبالغة في انتقاد فكرة ما بشكل ساخر، إلى وصول السخرية الفكرة النقيضة التي يراد الدفاع عنها. 

الميمز والسخرية من آلام الناس

ميمز

ومع جانب مظلم آخر للميمز، ألا وهو السخرية من آلام الناس والاستخفاف بها؛ فكثير من الصور المستعملة في صنع الميمز، هي في الأصل مأخوذة من مقاطع منتشرة على النت، تعرض مشاكل اجتماعية لبعض الناس. فيتم أخذ الصورة واستخدامها من نفس سياقها بغرض السخرية، وهذا له أثر خطير على مشاهدي الميمز؛ فهم بهذا يصيرون أقل قدرة على التعاطف -الذي هو أدنى درجة للتعاطي مع مشاكل الناس أصلًا-.

والتطبيع مع هذا الأمر يضعف الروابط الاجتماعية، وينتج شبابًا لا يأبه لمعاناة الناس من حوله؛ إنما كل همه إشباع رغبة الضحك والسخرية عنده، ولو كان ذلك من معاناة إنسان آخر. خصوصًا أن الميمز تنتج وتستهلك في داخل العالم الافتراضي، أي في عالم ينعدم فيه الاتصال المباشر بين الناس، وهذا يزيل جزءًا كبيرًا من العبئ الأخلاقي عن كاهل رواد هذا العالم.

وقد تستخدم الميمز كذلك للسخرية من فئات معينة من الناس، بناءً على انتماءاتهم الجغرافية أو مكانتهم الاجتماعية، أو للتعبير عن نزعات عنصرية لا أساس لها في شرع أو عقل، إنما هي محض نعرات جاهلية.

الميمز والانفلات الأخلاقي

لا شك أن أغلب إشكالات الميمز التي وردت في المقال لحد الآن داخلة تحت انتهاكات الجانب الأخلاقي، لكن لا بد من تخصيص الكلام حول هذا الجانب لأهميته من جهة، ولشدة ما يحصل من تجاوزات من جهة أخرى.

فما أكثر ما ذُبح الحياء والعفة على نُصُب السخرية والميمز، من استخدام لصور النساء العاريات، أو للتلميحات الإباحية، أو السب والشتم والألفاظ النابية، أو الإساءة للنساء، وتكاد هذه الأمور تصير جزءًا لا يتجزأ من الميمز.

كلمة في الختام

خلاصة المقال ليست تحريم الميمز أو إباحتها، فهذا أمر له أهله، لكن للانتشار الكبير الذي تعرفه هذه الظاهرة، ولكون الفئات التي تتعاطاها واسعة منها متدينون وملتزمون؛ وجب التحذير من هذه المخاطر ولو بإشارات بسيطة. هي قطعًا لا تفي الموضوع حقه، لكنها على أي حال تسلط بعضًا من الضوء عليه.

المصادر

مجلة الرسالة للدراسات الإعلامية، المجلد ٠٦/ العدد ٠١ مارس ٢٠٢٠، مقال: ميمات الأنترنت، إنتاج واستهلاك للثقافة الرقمية – ظاهرة الميمز نموذجا – ، ص٢٨١-٢٩٣.

عبد الصمد حدوش

مهندس، أحاول أن أكون كاتبا.. مهتم بكل ما أراه ينفع الأمة فكريا وعلميا؛ بعيدا عن… المزيد »

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى