لتكن غزة آلة إبصار

تزداد جراحات إخواننا في غزة كلما طالت المعركة الفاصلة، لكننا تعلمنا من كتاب ربنا أن نلمح ما في أقدار الله من خير وعِبَر يجب استثمارها والبناء عليها. وقد لفتني خلال شهور البلاء السابقة تفاعل الصغار مع طوفان النصر والتحرير بإذن الله، فإن العدو المستأسد بإجرامه الفج الذي لا يراعي فيه أحدًا ولا يخشى من المسلمين قَومةً يسوء وجهه بها وتُلقيه خارج الزمن وخارج التاريخ، قد قدم لهم مادة الوعي والحقيقة الساطعة. 

فهذا صغير يدعو بالموت على قاتل إخوته، وهذا آخر لما يصل لسن المدرسة بعد يغضب ويثور إذا اضطر والده لشراء ما لا يجده إلا في مكان يجب مقاطعته، وآخر يحفظ دعاء القنوت الذي يسمعه يتردد في الصلوات على مدار اليوم وخلال أشهر العدوان الذي لم يتوقف إلى الآن.

هذا الشعور الطبيعي من صغير تجاه ما يسمع من والديه وما قد يعرض له من بعض الصور والمشاهد يقرر لنا حقيقة أن الطفل ابن بيئته، وأنه يتعلم بالمحاكاة ويهتم بما يهتم به والداه وأهله، وهو ما يعطي درسا واضحا لمن يتعذر بالحال والواقع عن تعليم أبنائه ما ينبغي من أصول الإيمان ومقتضياته، وكذلك يلفتنا إلى غيرها من الأمور التصحيحية الكثيرة أو الأساسات الواجبة التي تفوتنا لأننا لا نحاول أو نغفل عن الممكن وعن أثر وأجر الحرث في الاتجاه الصحيح ولو تأخر علينا الحصاد أو قدّر الله له أمرا آخر.

وإن من واجبات اليوم لمن يشهد ما يجري على أرض الرباط أن يأخذ منها ما يصلح به نفسه، وأن يأخذ من عِبَرها ما يُعينه في مهمته على هذه الأرض، ويُحسّن من أداء واجباته ودوره في النصرة والإعداد المكلف به.

فما الذي تُبَصّرنا به غزة إذا تأملنا ما قَدّمته لنا ولأبنائنا خلال الشهور الفائتة؟

بناء قاعدة الإيمان بالحفظ والتلقي

تبين لنا من خلال ما رأيناه في أطفال غزة وفي أبنائنا الذين انتبهوا وتعلموا في تلك الشهور ما لم يتعلموه في الشهور الفائتة أن الإيمان يُتَعلّم، وأن الحفظ يَسير، وأن ما ننشغل به ينشغل به أطفالنا. 

فالأبناء يتعلمون الكثير في سنواتهم الأولى، لكن ماذا يتعلمون؟ فهم يستجيبون للمؤثرات ويلتقطون العبارات المكررة ويعتادون عليها، فماذا نريد لهم أن يتعلموا وماذا نضع في سجل أفكارهم، وسطور ذاكرتهم التلقائية التصويرية؟ 

نحتاج إذن أن نتوقف هنا ونرى ما الذي نريده حقا؟! ونبدع في توصيل المعنى، وغرس الفكرة والكلمة، وتحفيظ الأهم والأولى وهو كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، 

فإنهم وإن لم تصلهم معانيه الآن، فإن الألفاظ القرآنية والنبوية تُحصّن قلوبهم من أضدادها، وهي التي تمنحهم وعاءً لُغويا واسعا تجعلهم أكثر بيانا وأحسن تعبيرا وأنقى كلاما، فغزارة المفردات العربية وثراؤها تمهد لعقولٍ أكثر فهما ووعيا وإبداعا كما يذكر ذلك بعض مختصي اللغة.

ومع تحدي وجود المشتتات والملهيات حول أبنائنا بشكل أساسي في كل مكان، إلا أن البيت إذا جعل الأساس واضحا، والتزمه أول من التزمه الآباء المربون أو من يقوم مقامهم من الأهل، ولم ينقلوا للأبناء ضيقا خفيا به ولا شعورا دائما بالقلق أو الحيرة أو الإحباط المتكرر، وأَعطى بعد ذلك مساحة هادئة لأنشطة تنفع ولا تضر وتُسعد ولا تُسئم، فستبقى لدى الأبناء الصورة واضحة، أن هذا هو الأولى وهذا ما يجب.

تربية الإرادة الإيمانية

في غزة رأينا كيف يتحمل الصغار، وكيف يتعلمون من الكبار الصبر والرضا وحمد ربهم عقب كل مصاب في النفس والولد والدور والمتاع. إلا أننا سمعنا كثيرا قول البعض، أنهم ليسوا مثلنا، وأننا لا نتحمل ما تحملوه، وأن هذا خاص بهم.

وإننا لا نشك أنّ الله يلطف بأوليائه من أهل البلاء، ويفيض عليهم من رحمته وينزل من سكينته ما يلطف بالقلوب ويجبر ألمها، إلا أن التحمل لم ينشأ من فراغ، ولا أتى الصبر بين يوم وليلة، بل إن الشدة التي طبعتها الأيام على واقعهم خلال سنوات طويلة، ووقوعهم تحت نظر أعدائهم وقصف نيرانهم متى أرادوا قد درب النفوس على مواجهة الصعاب وجعلها أقدر على فهم السنن الربانية وعلى القرب من حقيقة الدنيا التي لا تُبقي على شيء ولا أحد، وعلى الأيام التي يداولها الله بين الناس. وهذا ما يقرره قول نبينا صلى الله عليه وسلم أن الصبر بالتصبّر والحلم بالتحلّم.

لذلك فإن غزة تُبصرنا وتُذكرنا بما يجب علينا لتقوية عضلات الإيمان وتربية الإرادة في أنفسنا ولدى أبنائنا، ولا يسهل ذلك ولا تتعلمه النفس إلا بشيء من حرمان أو أوقات من خشونة أو تقليل من الاعتيادات أو الرفاهيات وما تشتهيه النفس وتجده متاحا ويسيرا ويُقبل عليه الناس. 

وفي مقابل التخلي عن الرفاهيات أو الرضا بالقليل، يكون التدرب على الشعور بقيمة ما نملك، ماديا كان أو معنويا، فالاقتصار على شيء من المأكولات دون المعتاد، والفرح بجلسة أسرية فيها قدر من العلم النافع والمزحة اليسيرة والحديث الماتع دون التحلق حول الشاشة لمشاهدة أحد الأفلام أو حول مائدة تغص بأصناف الطعام، يعلم النفس أنها لا تخسر كثيرا إذا فاتها ما يفعله الناس غيرها. 

أطفال غزة

صناعة البيئة الداعمة 

في بيئاتنا العربية والإسلامية قد رأينا أطفالا يحملون هم إخوانهم، يدعون لهم، يتبرعون ويقاطعون منتجات أعدائهم رغم اشتهائهم لأصناف من المأكولات والحلوى التي اعتادوا عليها زمنا طويلا، فأي شيء دفع الصغار إلى التفاعل وبذل ما يستطيعون من جهد رغم ما نجده منهم من فتور وقلة اهتمام في غير ذلك من القضايا والأمور؟ 

لقد دلتنا غزة هنا أن البيئة الداعمة تصنع مناخا وسياقا عاما ينشط فيه الناس صغيرهم وكبيرهم. إن ما نشهده من خذلان لإخواننا ممن يملكون وقف العدوان أو فك الحصار أو الاجتماع للنصرة لا يجب أن يصرفنا عن رؤية النقاط الصغيرة التي يمكن أن تحدث أثرا إذا تم رعايتها ومتابعتها لتستمر وتكمل طريقها. 

لقد ارتفع الصوت من أجل غزة، دعاءً ومقاطعةً ودعما بالمال، وإن كان أقل ما نملك وأقل الواجب، إلا أن رفع الصوت بلا خجل واستجابة من استجاب يذكرنا أن الاهتمام بأي قضية -لها في الشرع ميزان وقد غفل الناس عنها- والكلام المتكرر حولها وإعطاء الدروس وبلاغ العلم وعدم إقرار المنكر مما يفتح فرجة للحق أن يظهر وللباطل أن يتوارى. 

ومع طول المعركة وشدة الأمر سواء ما يجري هنالك على الأرض أو ما يجري في النفوس والأفكار، فإن واجب المؤمن أن يعلي صوته فيما يحسن من القضايا وفيما يؤمن أنه الحق بما لديه من أدلة حق وصدق وفيما تدعو إليه الحاجة والواقع العملي، مازال قائما وضروريا. 

فإن الباطل ما علا وانتشر إلا بكثرة ترداده وتداوله حتى صار قريبا من النفوس، ولذلك فإن نصرة الدين ونصرة أهله بكافة صورها أولى بأن تتصدر وأن تغالب ما ساد وانتشر من صور الباطل حتى تجد لها مكانا وأحبة وهي كفيلة بذلك بما فطر الله النفوس على حب الخير والصلاح.

وهناك أمثلة رأيناها في العقود الأخيرة تشهد على ذلك، مثل الوقوف ضد شعوذات مروجي العلوم الزائفة رغم انتشارها كالطاقة وبرمجة العقل الباطن وغيرها، أو حتى التربية الإيجابية التي يختلط فيها الحق بالباطل ولا أصول شرعية راسخة لها، وقد أثمر ذلك انتباه كثير ممن انجذب لها من قبل، فعادوا مع ذلك البيان إلى المنبع الأصيل. 

أمة واحدة وعدو لا ينسى

غزة جزء من الجسد المسلم، والمسجد الأقصى ثالث الحرمين، والقدس قطعة من أرض الإسلام، والمسلمون أمة واحدة دماؤهم واحدة ونصرتهم واجبة، سواء كانوا في بلد قريب نشهد حوادثه أو كانوا ممن لا تصلنا أخبارهم أو صور بلائهم. 

تلك معانٍ تُعلّمها غزة لأبناء المسلمين في خضم البلاء، لكنها لا تكفي وحدها، بل يجب أن تكون البداية ليفهم الأبناء تاريخ الأمة، ماذا كانت وكيف صارت؟ 

بأن يتبصروا بواقعهم ويدركوا كيف وقعوا كما وقعت من قبلهم أجيال في فخ القومية والتباهي بحضارات سابقة، ثم التعلق والانجذاب والوقوع في سلطة ثقافة الحضارة المادية الغالبة، والمبادئ البراقة التي لم تُصنع إلا لخداع أجيال المسلمين التي نشأت في ظل أمة مستضعفة، كالسلام العالمي وحقوق الإنسان والمحاكم الدولية وتبادل الثقافات وغير ذلك مما يُراد به فقط هيمنة ثقافة بعينها، وطمس الثقافة التي يمكنها وحدها أن تصنع السلام الحق وتقيم العدل الذي أراده الله لا الذي يُقيمه صاحب عين عوراء.

وإذ كشفت غزة واقع المسلمين في عالم اليوم لمن كان غافلا أو كان منشغلا عن النظر، فإن تأكيد الواجب من إعداد أنواع القوة وتربية النفس والتخلي عن أسباب الضعف الداخلية كالانغماس في الماديات والإكثار من المباحات والتعلق بحظوظ الدنيا أيا كان نوعها، مما يجب إبرازه كعنوان أصلي يعيد الأجيال إلى صفوفهم الأمامية وعملهم المطلوب. 

نسأل الله أن ينجي المستضعفين من المؤمنين في غزة والسودان وغيرها من بقاع الأرض التي يضطهد فيها أهل الإيمان، وأن يجعل أهل الحق على قلب رجل واحد ليكونوا أهلا لتنزل رحمات الله ونصره ومعونته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى