هل هذه دعوة للاستبداد؟
في نموذج الدولة الحدیثة مراكز القوة یحتكرها ممتلكو السلاح والمال، والدولة نفسها أكبر محتكر للاثنین، فأما احتكارها للسلاح فواضح، وأما احتكارها للمال فبعدما تحولت النقود إلى مجرد ورق تافه تطبعه الدولة، فقد أصبحت الدولة قادرة على التلاعب بسهولة به، في المجتمعات القدیمة كان السلاح غیر محتكر، وكانت النقود لها قیمة في ذاتها (الذهب والفضة) لا یمكن احتكارها ولا التلاعب بها من قِبل السلطة، فكان المجتمع مجتمعًا حیًا إیجابیًا متملكًا لثرواته ومسلحًا، ولذلك لم یكن السلاح وحده هو الفیصل في تحدید القوة كما هو الآن، وإنما كانت القوة تتحدد بحسب ما تحظى به من قبول وتأیید وسیادة في المجتمع، قوة مجتمعیة بشریة خالصة.
فمن یلتف حوله الناس ویثقون به ویأتمرون بأمره كان بالفعل مركزًا من مراكز القوة، شاء من شاء، وأبى من أبى، كانوا یسمون: الوجهاء أو الرؤساء أو النقباء، وكان هذا تمثیلًا حقیقیًا للمجتمع یحصل للشخص عبر سنین ولیس عبر اقتراع انتخابي خاطف یعلوه الدعایة والزیف ویقع فیه التزویر، فقد كان یسود في الناس أهل السیادة، ممن أثبتت الأیام والتجارب معدنهم وأهلیتهم للقیادة، خاصة إذا كان المجتمع أصلًا مجتمعًا مستقیمًا في تقییمه ونظرته، هذه المركزیة للمجتمع أقرها الإسلام وساعد على بقائها، ولذلك قال النبي -صلى الله علیه وسلم- للأنصار لما قدم سعد بن معاذ نحوهم: “قوموا إلى سیدكم”، وصحح الإسلام فیها المقاییس ورشدها ولذلك نهى النبي -صلى الله علیه وسلم- أن یقال للمنافق سید فقال: “لا تقولوا للمنافق ياسيدي فإذا قلتم ياسيدي فقد اسخطتم ربكم عزوجل”.
وقد كان الخلفاء الراشدون هم سادة الناس من قبل أن یتولوا السلطة أصلًا، وإنما جاءت السلطة تبعًا لسیادتهم وأهلیتهم، ولیس العكس، وكذلك أیضًا كان كل أهل الحل والعقد أو “مراكز القوة” في المجتمع كانوا هم سادة الناس الذین سادوا باستحقاق كامل وأهلیة، ولیس بالغلبة والقهر، أو بالزیف والدعایة.
ولأجل هذه القوة المجتمعیة ستجد الأحادیث التي توصي المحكومین بالحاكم أكثر من الأحادیث التي توصي الحاكم بالمحكومین!! ومن المعروف أن الوصیة تكون بالضعیف كما أوصى النبي -صلى الله علیه وسلم- بالنساء مثلًا فقال: “استوصوا بالنساء خیرًا” وذلك لأنهن الطرف الأضعف، وقد كنت أستغرب جدًا من كثرة الأحادیث التي توصي بالحاكم وطاعته، ولكن عندما تتصور بنیة المجتمع القدیم وتعرف أن المخاطب بالأساس بهذه الأحادیث هم مراكز القوة المجتمعیة وأصحاب القدرة والسلطة الثابتة الذین یستطیعون فعلًا الخروج علیه ومنازعته وشق عصاه وتفریق جماعته وإهانته، حینها تعرف أن الحاكم بالنسبة إلیهم فعلًا هو الطرف الأضعف، وأن هذه الأحادیث جاءت تقویة لجانبه، أشبه بالقوة الأدبیة، ومن هذه الأحادیث:
قال صلى الله علیه وسلم: “ومن بایع إمامًا فأعطاه صفقة یده وثمرة قلبه فلیطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ینازعه فاضربوا عنق الآخر” ولاحظ الضمیر في فعل الأمر (فاضربوا) إنه یخاطب المجتمع الذي بیده التحكم. وقال: “من خلع یدًا من طاعة لقي الله یوم القیامة لا حجة له ومن مات ولیس في عنقه بیعة مات میتة جاهلیة”. وقال: “من كره من أمیره شیئًا فلیصبر علیه، فإنه لیس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات علیه، إلا مات میتة جاهلیة”.
وقال: “إِنَّ من إِجلالِ الله إِكرامَ ذي الشَّیْبَة المسلم وحاملِ القرآنِ غیرِ الغالي فیه ولا الجافي عَنه وإِكرامَ ذي السلطانِ المُقْسِط”. وقال: “على المرء المسلم السمع والطاعة فیما أحب وكره إلا أن یؤمر بمعصیة، فإذا أمر بمعصیة فلا سمع ولا طاعة”.
وعن عبادة بن الصامت قال: “دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبایعناه فقال فیما أخذ علینا أن بایعنا على السمع والطاعة في منشطنًا ومكرهنًا وعسرنًا ویسرنًا وأثرة علینا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فیه برهان”.
كل هذه الأحادیث تعكس قوة المجتمع كما ذكرنا، بل إن الأحادیث كانت لا تفصل بین الإمامة والجماعة، وتعتبر الخارج على الإمامة مفارقًا للجماعة، فالمجتمع والسلطة كانا شیئًا واحدًا لا ینفصلان، یظهر هذا في وصیة النبي -صلى الله علیه وسلم- لحذیفة حین قال له: “فالزم جماعة المسلمین وإمامهم”، فأنزلهما النبي -صلى الله علیه وسلم- منزلة الشيء الواحد ولم یفرق بینهما.
وقال صلى الله علیه وسلم: “من رأى من أمیره شیئًا یكرهه فلیصبر فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات فمیتة جاهلیة”. وقال: “من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات میتة جاهلیة”. وقال صلى الله علیه وسلم: “من أتاكم وأمركم جمیع على رجل واحد یرید أن یشق عصاكم أو یفرق جماعتكم فاقتلوه” أي أن الخروج على الحاكم في هذه الحالة التي اجتمع فیها الناس برضاهم هو خروج على المجتمع بالأساس الذي منح السلطة للحاكم ثم بدأت مركزیة المجتمع تقل شیئًا فشیئًا بعد الخلافة الراشدة.
وصارت السلطة أكثر انفصالًا عن المجتمع، ثم اختفى تمامًا أي وجود “لسلطة المجتمع” بعدما تسرب نموذج الدولة القومیة الحدیثة إلینا من الغرب، حیث تلاشت “مركزیة المجتمع” وأصبحنا أمام شيء جدید اسمه “الدولة” وصرنا نسمع مصطلحات مثل:
(خزانة الدولة – ممتلكات الدولة – أراض ملك للدولة – هیبة الدولة – رئیس الدولة – یموت الجمیع كي لا تسقط الدولة .. الدولة .. الدولة .. الدولة) بدلًا من أن یُقال: (خزانة الشعب – ممتلكات الشعب – أراض ملك للشعب – هیبة الشعب … الخ) ولا یوجد أحد یسأل: ما هي الدولة؟! .. ما هذا الجماد المقدس الذي تنسبون إلیه كل شيء؟ والذي من حقه أیضًا أن یسلب منا كل شيء: دیننا .. أرواحنا .. كرامتنا .. لقمة عیشنا!!
ما هذا الصنم المقدس الذي تطلبون منا كشعوب ومجتمعات أن نجوع من أجل أن یشبع هو؟ وأن نتقشف من أجل أن ینعم؟ وأن نموت من أجل أن یعیش؟ وأن نُهان من أجل أن یحفظ هیبته؟! في الحقیقة: الدولة هي “صنم وهمي” تدعي مراكز القوة المغتصبة للسلطة وجوده حتى تتستر وراء اسمه، بینما في الحقیقة كلمة “الدولة” لا تعني عندهم إلا “السلطة” ومراكز القوة!!
وحتى یتقبل الناس فكرة الخضوع والإذعان لهم فهم یدعون دائمًا أن كل ما یفعلونه لیس لأنفسهم وإنما من أجل الدولة، یأخذون أموالك ویسرقون حقوقك ثم یدعون أنهم أخذوها لأجل أن یوفروا أموالًا للدولة، یهینونك شر إهانة وربما یستحلون دمك ثم یدعون أنهم یفعلون ذلك حفاظًا على هیبة الدولة، یستغلون الجنود في حفظ كراسیهم وسلطتهم ویزجون بهم في مواطن الموت ثم یدعون أنهم یحمون الدولة!!
إذ لو قالوها صراحة: “نحن نقتلك ونهینك ونسلب مالك لأجل سلطتنا” لما تقبلها أحد! ثم إذا أرادوا أن یضفوا مزیدًا من التقدیس والتعظیم على هذا الصنم سموه باسمه “المقدس”: مصر مثلًا أو الجزائر أو المغرب الخ الخ .. لتردد الشعوب وراءهم: نموت نموت وتحیا مصر، نحن فداء للجزائر، عاشت المغرب الخ ولا أحد یسأل أیضًا: ما هي مصر مثلًا؟!
إذا كان مطلوبًا من الشعب أن یموت لتحیا مصر؟ فمصر إذن لیست الشعب؟ فهل هي الأرض؟ إذا كنتم تقصدون الأرض فهل الأرض هي التي تمتلك الناس أم الناس هم الذین یمتلكونها؟ ثم حتى الأرض تنسبونها للدولة فتقولون “أراضي الدولة” تلك الأراضي التي تباع برخص التراب لرجال الأعمال الفاسدین والمستثمرین الأجانب؟ فهي لیست الأرض إذن، فما المتبقي؟ المتبقي هم!! ببساطة: الدولة هي السلطة ومراكز القوة! وأنت مطلوب منك أن تجوع وتتقبل الإهانة وتموت من أجل بقاء نظامهم، من أجل أن تحقق مصالحهم في استمرار حكمهم وسلطتهم، هذه الفكرة الصنمیة للدولة تتم تحت اسم الوطنیة والقومیة، فالوطنیة التي یریدون زرعها في الشعوب لیست إلا خضوعًا لسلطتهم بشعارات زائفة.
أما في الإسلام فالناس هم محل الاهتمام، والمجتمع كان هو المركز الذي تدور السلطة حوله، ولذلك كان الحاكم عند المسلمین الأوائل یسمى “أمیر المؤمنین” ولیس أمیر الدولة ولا یُقال حتى أمیر الخلافة، بل أمیر الناس أنفسهم، وكان یتلقى بیعات الناس، فالبیعة هي عقد بینه وبین كل فرد في رعیته، والخزانة هي “خزانة المسلمین” أو “بیت مال المسلمین” ولیس بیت مال الدولة! والمصالح هي “مصالح المسلمین”، والأراضي هي “أراضي المسلمین“، كل شيء مرتبط بالبشر وینسب للبشر، الجمادات سُخرت للأحیاء ولیس العكس!
المجتمع بكل أفراده هم محل الاهتمام، هم القوة، هم المركز، والحاكم یموت من أجلهم لا العكس! ولذلك قال النبي -صلى الله علیه وسلم-: “إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّة یُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِه وَیُتَّقَى بِه”.
جنة: أي ستر ووقایة وإن الإسلام حینما شرع للمسلم الموت دفاعًا عن المال والأرض لیس لأن الجمادات أكثر قدسیة من المسلم، وإنما لأن حرمة أرض المسلم وماله وعرضه هي جزء من حرمته تابعة لها، فالجمادات مهما كان لها من حرمة فسیظل المسلم أعظم حرمة منها، حتى لو كانت الكعبة نفسها، ولذلك ورد عن ابن عمر أنه نظر یومًا إلى البیت –أو إلى الكعبة– فقال: “ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك”.
بل جاء في الحدیث عن النبي -صلى الله علیه وسلم-: “لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق”، فكیف تكون الجمادات إذن أعظم حرمة وقدسیة من الناس! هذه الصنمیة للدولة لیست موجودة فقط في بلادنا بل هي أصلًا مستوردة من الغرب كما بینا دخیلة علینا.
وهنا یظهر الفارق بین سیادة الشعب الوهمیة في الدول الدیمقراطیة الیوم، وبین مركزیة المجتمع الذي یسوده الحق في النظام السیاسي في الإسلام.