هل النحو العربي صعب أم أنها شائعة مغرضة؟!

إنّ المُجتمعات التي تقلُّ فيها درجات الوعي العام، أقصد الوعي المُنطلق من العلم والفكر، المُلتزم بهما؛ تقودها الشائعات على رغمها إلى مهالكها. فتكون هي أداة قيادة المجتمع جسدًا وضميرًا جَمعيًّا. وهذا من السِّمات الفكريَّة للمجتمعات حال تأخُّرها الحضاريّ. و”الإشاعة” -كما يطلق عليها اللفظ العام- أو “الشائعة” لا تكتسب قوتَها من مُستند فكريٍّ مَبنيٍّ على منطق سليم، بل تكتسب قوتها الحقيقيَّة من أمرَيْن: درجة سَرَيانها وشيوعها بين الناس؛ التي تزيدها قوَّةً وعنفوانًا وسلطويَّةً. والأمر الثاني: قابليّة الأمر المُشاع للتصديق، أقصد خروجه عن دائرة الاستحالة العقليّة، ودخوله في حيّز التحقُّق.

وانطلاقًا من هذا أقول -بإقرار- إنَّ جُزءًا كبيرًا من الوعي العامّ العربيّ يعتقد -باختلاف درجات- أنَّ “النحو العربيّ” صعب، كما أنَّه يراه لا طائل من ورائه وغير ذي جدوى. ولنُقرِّر أمرًا منذ البدء يؤكد على أنَّ صعوبة النحو العربيّ قضيَّة زائفة، وشائعة لا غير، بل إنَّها أمر في غاية السُّخف والبلادة إذا رأيناه رؤية صادقة متأنِّية. لكنَّنا الآن سنبدأ بأصعدة ظهور هذه الشائعة، ونأتي بشيء من تاريخها، وشيء من التأليف فيها الذي حاول أن يزيد الأمر سُوءًا، ونبدي رأيًا في النهاية. نلحظ هذه الشائعة على عدّة أصعدة.

أصعدة ظهور هذه الشائعة

  1. الصعيد الأوّل: المستويات الدراسيّة؛ حيث يمثّل “النحو” -وهو أحد أهمّ فروع مادة “اللغة الوطنيّة” في البلاد العربيّة- صعوبةً في قطاعات واسعة من الطلاب.
  2. الصعيد الثاني: الوعي العامّ في العالَم العربيّ. ويشكّل معظمَه خريجو هذا الصعيد الأوّل من الطلاب الذين أصبحوا روَّاد المُجتمع.
  3. الصعيد الثالث: كثير من الكُتّاب في غالب المجالات التأليفيَّة.

وهنا أنبِّه على أمر قد يخفى على كثير من الناس هو أنَّ تعدُّد ظهور أصعدة هذه القضيَّة الزائفة ليس دليلاً على إثباتها إنَّما هو دليل على شيوع تلك القضيَّة، ونابع من جهالة المجتمع العامَّة التي نحن فيها. فليس إشكال العلوم أنَّ الناس لا تتبعها، وليس إشكال الأنبياء عندما تجاهلهم الناس؛ فهنا الناس هم المخطئون لا العلم ولا الدين.

بدأ ظهور هذه الشائعة في الوسط العربيّ

النحو العربي

التأليف في أيَّة قضيَّة من أهمّ وأصدق الأمور الدالّة على وجود أيَّة مشكلة. وفي هذا الصعيد نجد اهتمامًا من الأفراد والمجامع في مسألة شائعة صعوبة النحو العربيّ. وكي نعلم متى بدأت هذه القضيَّة في الشيوع نطالع الكتب المُتخصِّصة. وقد أصدر رئيس “مَجْمَع اللغة العربيَّة” بالقاهرة السالف؛ الأستاذ الجليل د/ شوقي ضيف كتابًا بعنوان “تجديد النحو” عام 1982م. يقول في أوَّله: “كانت الصيحات ترتفع منذ أكثر من أربعين عامًا مُطالِبةً بتيسير النحو، وتخليصه مما فيه من تعقيد وعُسر شديد”.

فإذا عملنا عمليَّة حسابيَّة نكتشف أنَّ بدء شيوع هذه القضيَّة هي فترة الأربعينيَّات أو نهاية الثلاثينيَّات من القرن العشرين. ولعلَّ هذه المرحلة التي أشار لها أستاذ الأدب العربيّ واحدة من أعنف المراحل في الهجوم على اللغة العربيَّة. فقد بدأتْ طلائعها مع طلائع التغريب التي غزت المجتمع في طبقته التي تُسمَّى عُليا.

فتسلَّط على المجتمع أناس -قلائل في الحقيقة، لكنَّ سبب شُهرتهم هو اختلافهم عن الخطّ العامّ- يأخذون التغريب والدعوة إلى كلّ ما هو غربيّ دينًا لهم بل ينافحون عنهم كما ينافح المسلم عن دينه. وصاحبت تلك الشائعة أيضًا صيحاتٌ أخرى تدعو إلى العاميَّة دعوة صريحة واضحة عالية الصوت، وتُكرِّه الناس في اللغة العربيَّة الفصحى عيانًا بيانًا. وهنا ندِّعي أنَّ هذه الأصوات هي الشرارة التي بدأت هذه الموجة. 

التأليف في هذه القضيَّة

سِيبَوَيْه عمرو بن عثمان وهو إمام النحاة، وأول من بسّط علم النحو.

بعدما اشتهرت هذه الشائعة على ألسنة “المُثقَّفين” قام “مجمع اللغة العربية” مع “وزارة المعارف المصريّة” عام 1945م بإصدار كتاب “تحرير النحو العربيّ”. وظهرت بعض الجهود تخطو خطوةً إلى الأمام في سبيل التحرُّر من النحو؛ فيصدر الأستاذ/ خليل كلفت كتابًا بعنوان “من أجل نحو عربيّ جديد”، وتشابهه وتسبقه وتلحق بها تجارب أخرى.

ثمّ نتقدّم خطوات لنرى اتساعًا للحديث في القضيَّة على يد أناس لا علاقة لهم أصلاً بها من قريب أو بعيد. ومنها تجربة الأستاذ “شريف الشوباشي” علمًا بأنه ليس من أهل التخصص، بل لا يعرف القراءة والكتابة الصحيحتَيْن من الأساس، ولا يعرف أصول النحو ولا فروعه. هذا ليس من قبيل تقبيح الرجل، فإنَّ قبحه أبيَنُ من أنْ يُبيّن، بل هذا فقط لإزالة الوهم من أنَّ صاحب الدعوة عالِم.

نرى هذا الرجل يُصدر كتابًا بعنوان “لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه”؛ زاعِمًا فيها كلّ زعم لا يستند إلا على الشائعات مثل زعمه أنَّ العيب في “اللغة العربيّة”، لا في المُتحدَّثين بها، وأنَّ اللغة العربيَّة لغة دينيَّة! وأنَّ الناس تُقدِّسها! وأنَّ من حق المسيحيِّين أنْ يتعلَّموا العربيَّة ولهم فيها مثل ما لنا -بالقطع الرجل لا يعرف أنَّ كثيرًا من أكابر العربيَّة على أديان غير الإسلام-.

وهنا يطيب لي أنْ أعرض مثالاً لنقد الكتاب -وقد صدرت الكثير من الكتب التي تردّ عليه؛ منها ردّ أستاذ الأدب المعروف د/ أحمد درويش في كتابه “إنقاذ اللغة إنقاذ الهُوِّيَّة” حيث أفرد صفحات للردّ عليه بدأها بسُخرية مريرة مُضحة من دعاوى الرجل. يقول صـ54: “القارئ سرعان ما يكتشف أنَّ المشكلة التي جسَّدها المؤلف وحبَّر صفحات كثيرة في الردّ عليها ليست موجودةً بنفس الدرجة التي صورها بها، أو ليست موجودةً أصلاً. وكثيرًا ما تردُّ صفحات الكتاب على نفسها في هذا الصدد فتنفي الصفحات الأخيرة ما حاولت إثباته الصفحاتُ الأولى”.

ولعلَّ القارئ الكريم يسأل: لماذا كلُّ هذا المجهود؟ ولماذا لا يترك الأمر لأهله ويُوضع في نصابه فنترك تطوير تدريس العلوم ومنها النحو للتربويِّين ونذكي من دعوتهم وحثِّهم؟ فستجد الإجابة في خصوصيَّة اللغة العربيَّة وكونها رمزًا على التراث العربيّ، ومِفتاحًا للنصّ القُرآنيّ والحديثيّ، ومَدخلاً أصيلاً -بل وحيدًا في قُدرته- إلى الإسلام.

عوامل إنماء وتغذية هذا الشيوع

هناك عوامل عدَّة تساعد على إنماء شيوع الاعتقاد بصعوبة “النحو العربيّ”. منها:

  1. تقلُّص رُقعة استخدام “النحو العربيّ” في الأُطُر الحياتيَّة، على حساب مستوى “العاميَّة“. وبالقطع يؤثر هذا شيئًا فشيئًا لأنَّه كُلّما كان الأمر في حيِّز رُؤيتك كُلّما كنتَ قادرًا على الحُكم عليه بصدق، فتكون الشائعات أقلَّ تأثيرًا فيه؛ كذلك كلّما انعزلتَ عن الشيء قلّت عندك الخبرة به، ولذلك تكون عُرضةً لتقبُّل المقولات عنه. وبالقطع هذا التقلُّص له دور في إنماء حالة العُزلة بين العرب وبين نحوهم العربيّ على كافّة المستويات.
  2. إقلاع الإعلام العربيّ عن الالتزام به في مجالاته العدّة إلا الإعلام الإخباريّ بشكل كليّ، مثل قنوات “الجزيرة” والقنوات الرسميَّة للدول… إلخ، أو الإعلام المُهتمّ بالوصول إلى الشعب العربيّ كافَّة بمختلف بُلدانه؛ مثل بعض المحتويات على الانترنت، منها محتوياتٌ على موقع “Youtube”.
  3. تناوُله بشكل ساخر في الأعمال التمثيليَّة. مِمَّا يُسقط هيبته في نفوس المستخدمين؛ خاصّة في ظلّ تراجع لمؤشرات الوعي العامّ في المجتمع العربيّ. وكذلك يساعد على إخراجه من حيّز العِلميَّة -أيْ اعتبار المجتمع العربيّ له عِلمًا-. وهذه الأخيرة هي أحد أهمّ الآثار الناتجة عن هذا التناول.

أسباب شيوع هذا الاعتقاد

وهنا سنقف على عمادَيْن كبيريْنِ في الترويج لفكرة صعوبة النحو العربيّ. فقد اعتمد القائلون بها على: 

أولاً: كثرة القواعد النحويَّة:

وليس أدلّ على ذلك من ادعاءات د/ إبراهيم أنيس، في كتابه “من أسرار اللغة” وفي هذا الكتاب ما لا يحصى من الادعاءات على النحو العربيّ والنظام النحويّ. حيث عقد فصلاً كاملاً عن “قصَّة الإعراب” صبَّ فيه جامَّ غضبه على الجهود النحويّة لكُلِّ النُّحاة تقريبًا. وقد لا يصدّق القارئ منه هذا الحديث إنْ عرف أنَّ الكاتب أحد علماء اللغة (العامّ) البارزين. لكنَّه للأسف أيَّد تلك الدعاوى وروَّج لها كما سنرى.

يقول عن النظام النحويّ الإعرابيّ صـ215: “هذا النظام المُعقَّد الذي أعيا السابقين واللاحقين من أبناء العربيّة”. والغريب أنَّه مُجيد لهذا الذي أعيا السابقين واللاحقين فلا تسأل كيف ذلك؟! .. بل يدّعي الباحث في الكتاب نفسه قائلاً عن النظام الإعرابيّ صـ116: “ليس من المعقول أنْ نزعم أنَّه كلَّه من نسج خيالهم، وأنَّهم اخترعوه اختراعًا، أو ارتجلوا قواعده ارتجالاً، دون أساس اعتمدوا عليه، ودون سماع بعض ظواهره على الأقلِّ من أفواه الفصحاء من العرب في صدر الإسلام. على أننا ندرك تمام الإدراك أنَّ النحاة قد ابتكروا بعض ظواهر الإعراب، وقاسوا بعض أصوله”. وقد أورد هذا القول ليدَّعي أنَّ علماء النحو أرادوا النحو على هذه الشاكلة وأنَّه في الأصل ليس كذلك. والآن سنهدم قوله بمنتهى اليُسر.

فالنُّحاة قد عرَّفوا “النحو” بأنفسهم بأنه: “علم يُستخرَج بالمقاييسِ المُستنبطة من استقراء كلام العرب، المُوصِلةِ إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها”. كما أورد “السيوطيّ” في كتابه “الاقتراح في علم أصول النحو”.

ومن هُنا لنا العِلم بأنَّ ما في النحو قاعدةٌ قُعّدتْ إلا بشواهد الاستعمال العربيّ للكلام. فما أتت القواعد النحويّة إلا لتقعيد كلام العرب ومن قولهم كانت القواعد وليس العكس، وكذلك ما عزَفَتْ العرب (أيْ الجماعة اللغويّة المُستخدمة للغة) عنه فتظلُّ قاعدته في سجلها محفوظة. أمّا عن القواعد الكثيرة التي تحدث عنها فلا بُدَّ من وجودها؛ لأنَّها نابعة من الاستخدام الفعليّ للغة، ولا بُدَّ من بقائها؛ حتى نستطيع أن نفسّر تراثنا الأدبيّ والفكريّ والدينيّ. وبتصوُّر بسيط فكيف سنقرأ التراث وما أتى فيه دون أنْ يكون له قواعد؟! وهل هذا شيء يُلام على النُّحاة فيه أمْ يُحمد لهم؟!

ثانيًا: صعوبة الفهم:

هذا هو السبب الثاني في اعتقادي لشيوع الصعوبة. ذلك أنَّ الجماعة اللغويّة الحاليّة (الشعوب العربيَّة) قد تشعر ببعض صعوبة في النحو، بالقطع أكثر ما يبرز هذا في الأطوار الدراسيّة. ولنا هنا أن نسأل: هل صعوبة الفهم من المادّة العلميَّة؟ أمْ من التدريس وعمليَّة الإفهام نفسها؟ .. وهنا تتضح الأمور بجلاء.

وأولاً نهدم مسألة الصعوبة كقضيَّة بمعرفة أنَّ الطلاب أنفسهم هُم هُم مَنْ يدرسون موادَّ مثل “الفيزياء”، أو “الكيمياء” -بل إنهم يعتبران هذين العلمَيْن من العلوم الصعبة، بل يفتخرون بنجاحهم فيهما رُغم صعوبتهما. إذن فمسألة الصعوبة مرَّةً اعتُبرتْ فخرًا ومرَّةً اعتُبرتْ حُجَّة لترك العلم بالكُليَّة!! .. فالأمر هُنا يتعلَّق بأنَّنا صبغنا الاحترام على موادَّ ونزعناه من موادَّ أخرى. فهذه هي القضيَّة وليس الصعوبة على إطلاقها.

ثانيًا مسألة الصعوبة مسألة زائفة لا قيمة لها. فالناس يلصقون الصعوبة بالنحو إذا تحدثوا عنه، والأصل إرجاع الصعوبة لعدم بذل الجهد من الطالب، و لعدم ارتقاء طُرُق تعليمه لمستوى العلم ولأهدافه. فكيف هذا؟ .. أيُّها السادة! إنَّ الإنسان ذو عقل، وعقله مُؤهَّل كي يفهم ويتعقّل، لكنَّ العيب الحقيقيّ هو أنْ تطلب من طالب أنْ يفهم مع أنَّك تُقدِّم له المادة بلا ارتباط بحياة، وبغير أنْ تُفهِمَه قيمةَ ما يتعلَّمه وما يفعله، كما أنَّ الذي يُقدِّمها غيرُ مُؤهَّل أصلاً لهذه المُهمّة. فكيف تنحو باللائمة بعد ذاك على العلم؟!

خطورة هذا الشيوع

لا شكّ أنَّ شيوع هذا الاعتقاد الزائف (أقول زائف لأنه ليس مرتبطًا بالنحو، إنّما بما نقدمه منه، وكيف نقدّمه للطلاب، وللمثقف، وللمجتمع) يساعد على غُربة المجتمع العربي عن النحو، وكذلك يُيْئس العربيّ من نظام لغته، للدرجة التي يرى النحو فيها غير مُجدٍ ولا طائل من ورائه؛ فيطرحه من دائرة العِلميَّة -أيْ من اعتباره علمًا يجب تحصيله والنظر إليه بهَيبة العلم-، ويقبل أنْ يُهانَ أمام عينه وسمعه. حيث لا يرى فيه إلا شيئًا باردًا غريبًا عنه، وهذا هو الخطر كلُّه.

رُؤيتي في مسألة صعوبة النحو العربيّ

النحو العربي

إنَّ المسألة عندي تأخذ أبعادًا أخرى. فأرى أنَّها ليست مسألة ووقت وأوان، وأنها ليست ابنة هذا الواقع المَعيش في عالمنا العربي، ولا حتى ابنة ثمانين عامًا كما تفضل د/ شوقي ضيف وقال. بل لا يُنظر إلى هذه المسألة هذا النظر من الأساس. هذه المسألة لا بُدَّ أنْ ينظر إليها بالبُعد العِلميّ لها. أقصد بما أنَّ “النحو العربيّ” هو أحد العلوم وفروع المعرفة. من هذه الجهة تتفاوت درجة الفهم فيه، في كلّ زمان ومكان، شأنه في ذلك شأن كلّ العلوم. هناك مَنْ يجيده، وهناك مَن يجهله.

لكنّ الخصوص في “النحو” أنَّه نظام “اللغة العربيَّة“، لغة العرب جميعًا. ولهذا يجب دومًا أن ننظر إليه من جانب تلك النظرة العِلميَّة، أنْ ننظر إليه جزءًا من هُوِّيَّتنا فلا بُدَّ من إنزاله على حيز الواقع إلى أقصى حدّ ممكن. لا بُدَّ أن يعيش ويتنفس بيننا، لا أنْ يظلَّ في دائرة الاختيار العلميّ الشخصيّ. إنَّ علمَيْ “النحو” و”المنطق” يجب أنْ يكونا الأساس والمُنطَلَقَ لتعليمنا ولثقافتنا. فهما المُحقّقان للهُوِّيَّة الإنسانيَّة والعربيَّة.

ودليل قولي إنَّ المسألة لا تتعلق بزمن دون زمن، بل تتعلق بعلاقة الناس عامّةً من العلوم، ونفور الكثيرين منها؛ هو أنَّنا نجد هذه القضيّة بكامل تفصيلها تُطالعنا قبل ألف عام كاملة! .. وها هو المفكّر اللغويّ والبلاغيّ الكبير “عبد القاهر الجُرجانيّ” (ت 474هـ) يعرض علينا بتهكُّم وسخرية شديدَيْن صفات تلك الطائفة التي تظهر في زمننا هذا والتي تملأ الدنيا ضجيجًا وهي لا تعرف أبسط الأمور، لتصنع وعيًا زائفًا وقضايا وهميَّة تجرُّ الناس فيها إلى الباطل وحسب.

وذلك في كتابه “دلائل الإعجاز” حيث يقول: “فكلُّ مَن عَرَفَ أوضاع لغة من اللغات؛ عربيَّةً كانت أو فارسيَّة، وعرَفَ المَغزَىْ من كُلِّ لفظة، ثمَّ ساعده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها؛ فهو بيِّنٌ في تلك اللغة، كامل الأداة، بالِغٌ من البيان المَبلَغَ الذي لا مَزيدَ عليه، مُنتهٍ إلى الغاية التي لا مذهب بعدها”. وكما ترون كأنَّه يصف الحال الآن، ويلحظ القارئ كمَّ التهكُّم الذي يسوقه الكاتب. فهي ليست مشكلة آنٍ من الآونة، بل هي مشكلة ذهن ووعي وثقافة وإدراك للمجتمع وللفرد في كلِّ مكان.

ويدهشُكَ أنْ تعرف ما كتبه بعدها ليُكمل صفات تلك الطائفة. يقول: “ولمَّا لمْ تعرف هذه الطائفة هذه الدقائق، وهذه الخواصَّ واللطائف، (يقصد علم اللغة والمنطق السليم) لمْ تتعرَّضْ لها ولمْ تطلبها. ثمَّ عنَّ لها بسُوء الاتفاق رأيٌ صار حجازًا بينها وبين العلم بها، وسدًّا دون أنْ تصِلَ إليها (ولنا أن نكتشف المفاجأة) وهو أنْ ساء اعتقادُها في الشِّعر الذي هو مَعدِنُها، وعليه المُعوَّل فيها، وفي علم الإعراب.. أمَّا النحو فقد ظنَّتْه ضَربًا من التكلُّف، وبابًا من التعسُّف، وشيئًا لا يَستنِدُ إلى أصل، ولا يعتمد فيه على عقل، وأنَّ ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب.. فهو فضلٌ لا يُجدي نفعًا، ولا تحصل منه فائدة”.

وبالقطع يأتي على ذهنك أنَّ نفس الكلام هو هو يُردَّد دومًا. إنَّه ليس كلامًا مُوجَّهًا إلى النحو لغةً، بل إلى النحو عِلمًا من هذا الذي لا يعرف القيمة؛ وواجبنا تجاه أنفسنا وديننا وأبنائنا ومجتمعنا أنْ نشيع هذه القيمة، وأن نوعِّيَ العرب بفائدته كي لا نبقى في عماء الجهالة.

عبد المنعم أديب

باحث في الفكر الإسلامي والفلسفة. صدرت له كتب أدبيَّة، ومئات المقالات في العالم العربي وخارجه.… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى