الهيمنة الفكرية على الأمة الإسلامية.. الجزء الأول
إنّ الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر، هو إحدى سنن الله في هذا الكون، إذ اقتضت حكمة الله وجود هذا الصراع والتدافع بين الأفكار والمفاهيم، وهو من عوامل تمييز الحق من الباطل، والخير من الشر، والصواب من الخطأ، قال تعالى:
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة: 251] وقال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 21] ولذا كان هذا الصراع أمرًا طبيعيًا.
أصل الصراع مع الغرب والهيمنة الفكرية
وأصل الصراع مع الغرب صراع فكري وحضاري، فمنذ بداية الدعوة في مكة والصراع قائم بين الإسلام وغيره، وفشلت كل الأفكار بالوقوف أمام هذا السيل المتدفق من الأفكار الصحيحة والمفاهيم النقية الذي جرف كلَّ المفاهيم الخاطئة والأفكار الباطلة؛ لأنها لم تستطع الصمود أمام الفكر والحجة الدامغة، ومن ثم انطلق المسلمون في حمل الدعوة الإسلامية بعد بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بالفكر والجهاد، فكان الجهاد يكسر كل الحواجز التي تقف عائقًا أمام وصول الفكر الحق للناس.
وجد الكفار يومها أنهم لا يستطيعون الصمود أمام تلك القوة الفكرية الكاسحة للمسلمين؛ فقد كانت تقضُّ مضاجعهم وتفقدهم زعامتهم وأتباعهم، فقد بدأ الناس يُقبِلون على اعتناق الفكرة الإسلامية، فلجأوا إلى الحرب العسكرية، ولكنهم فشلوا أيضًا، فخسروا معاركهم مع المسلمين بدايةً بمعركة بدر ثم مؤتة ثم حطين، ومرورًا بالحملات الصليبية التي كانت تنكسر أمام جحافل المسلمين، وانتهاءً بالزحف العثماني الإسلامي الذي غزا الغرب في عقر داره، عندها أفاق الكفر على هذه الهزائم وقرر اللجوء إلى غزو المسلمين ولكن بطريقة أخرى فقرر العودة فكريًا، وبدأ بإعداد حملاته الاستشراقية التي كانت تهدف إلى الهيمنة على الأمة الإسلامية، وبدأت جيوش السوس تنخر في الشجرة الإسلامية.
بداية ظهور الغزو الفكري
ودعونا نذكر في هذا المقام صاحب فكرة الغزو الفكري للمسلمين “لويس التاسع” -ملك فرنسا-، وقد كشف ذلك وثيقة خطيرة تلقي الضوء على تحوّل الغرب من الغزو العسكري إلى الغزو الفكريّ لبسط الهيمنة على المسلمين، لقد تضمنت هذه الوثيقة وصية القدّيس “لويس” ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية الثامنة، التي انتهت بالفشل والهزيمة ووقوع “لويس” في أسر المسلمين في مصر في مدينة المنصورة، فقد كتب أنه أيقن أنْ:
لا سبيلَ إلى النصر والتغلب على المسلمين عن طريق القوة الحربية؛ لأن حملهم للإسلام فكرًا وعقيدة يدفعهم للمقاومة والجهاد، وبذل النفس في سبيل الله لحماية ديار الإسلام وصون الحرمات والأعراض، والمسلمون قادرون دومًا على الانطلاق من عقيدتهم ليصدوا الغزاة ويدحروهم، فلا بدّ من سبيلٍ آخر، وهو حرف الفكر الإسلاميّ وترويض المسلمين عن طريق الغزو الفكريّ.
وذلك بأن يقوم العلماء الأوربيون بدراسة الحضارة الإسلامية وترجمة الكتب الإسلامية، ومن ثم الانطلاق منها لخوض المعركة مع المسلمين، وهكذا تحولت المعركة من ميدان السلاح إلى معركة في ميدان الفكر؛ بهدف بسط الهيمنة على المسلمين، فقاموا بإعداد أشخاص من أبناء جلدتنا في الغرب ثم إرسالهم إلى بلدهم، وإلى جانب ذلك قاموا بتأليف الكتب التي تحارب الأفكار والمفاهيم الإسلامية، وتشكّك في المبادئ المنصوص عليها قطعيًا في الإسلام، وغيرها من الأساليب التي سوف نذكرها بالتفصيل.
طرق الهيمنة الفكرية على الأمة الإسلامية
سوف نذكر هنا أهمّ الطرق التي اتبعها الغرب في مسعاه للهيمنة على الأمة الإسلامية فكريًا، مبتدئين بالأقدم:
1- الاستشراق
عرّف المفكر “إدوارد سعيد” الاستشراق بأنه: “نمطٌ من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه”.[1] وقال أيضًا: “أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة صياغته وتشكيله وممارسة السلطة عليه”.[2]
أما الدكتور “أحمد عبد الحميد غراب” صاحب كتاب “رؤية إسلامية في الاستشراق” فقد عرفه بأنه: “دراسات “أكاديمية” يقوم بها غربيّون كافرون -من أهل الكتاب بوجه خاص- للإسلام والمسلمين، من شتّى الجوانب عقيدةً، وشريعةً، وثقافةً، وحضارةً، وتاريخًا، ونظمًا، وثرواتٍ وإمكاناتٍ… بهدف تشويه الإسلام ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعي العلمية والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي”.[3]
وعرفه الدكتور “محمد فتح الله الزيادي”: “هو دراسة الشرق عمومًا ودراسة الإسلام خصوصًا بقصد التشويه والتشكيك”. [4] وقال الدكتور “شكري نجار” عن الاستشراق: “إنّ الاستشراق هو أسلوب غربي لفهم الشرق والسيطرة عليه، ومحاولة إعادة توجيهه والتحكم فيه”. [5]
ومن هذا نعرف أنّ الاستشراق: “هو كل ما يصدر عن الغربيين والأمريكيين من إنتاج فكري وإعلامي وتقارير وبحوث حول قضايا الإسلام والمسلمين في العقيدة، وفي الشريعة، وفي الاجتماع، وفي السياسة والفكر، ويمكننا أن نلحق بالاستشراق ما يكتبه النصارى العرب وغيرهم من علمانيين ومضبوعين بالحضارة الغربية، ممن ينظر إلى الإسلام من خلال المنظار الغربي، ويلحق به أيضًا ما ينشره الباحثون المسلمون الذين تتلمذوا على أيدي المستشرقين وتأثروا بأفكارهم وعملوا على تسويقها للمسلمين”.
وبناءً على هذه الأهداف قاموا بإنشاء الجامعات والمدارس والمؤسسات الفكرية في ديار المسلمين، وببثِّ أفكارهم التي تجعل الغرب هو المنارة التي يجب الالتجاء إليها في خضم هذا الضياع، وقاموا بإرسال الطلاب المسلمين المميزين إلى الدول الغربية وتغذيتهم بأفكارهم التي تحض على الارتماء في أحضان الغرب وتقليده في مفاهيمه وأفكاره، وعملوا على هاتين الفكرتين كثيرًا، وهي إنشاء الجامعات والمؤسسات الغربية في بلاد المسلمين، إلى جانبه تربية بعض البارزين تربية غربية.
2- الجامعات الغربية في بلاد المسلمين
قام الغرب بإنشاء عدة مؤسسات وجامعات في البلاد الإسلامية التي خضعت لنفوذه؛ لخدمة طموحه في بسط السيطرة الفكرية على المسلمين، وكان هذا هو هدفها الحقيقيّ، لا نشر العلم كما يدّعي، وقد تم التركيز على الجامعات لأنها أم الطرق لتثقيف الناس ونشر الفكر، ومنها يتم تخريج العلماء، وعن طريقها يستطيعون التحكم في الثقافة التي يريد للأمة أن تتلقاها.
وكان من أبرز وأهم هذه الجامعات والمؤسسات:
- مصر: المعهد الشرقي بدير الدومينيكان، والمعهد الفرنسي، وندوة الكتاب، ودار السلام، والجامعة الأمريكية.
- لبنان: جامعة القديس يوسف -وهي جامعة بابوية كاثوليكية- وتعرف الآن بالجامعة اليسوعية، والجامعة الأمريكية في بيروت وكانت تسمى من قبل: الكلية السورية الإنجيلية، وهي بروتستنتية.
- سوريا: مدارس اللاييك، والفرير، ودار السلام، وغيرها.
3- تربية بعض البارزين تربية غربية وصناعة الرموز
عمل الغرب على اكتساب المميزين في المؤسسات والجامعات التي أنشأها، وإرسالهم إلى بلادهم لكي يحظوا بالتربية اللازمة، وتقديمهم للأمة على أنهم مفكرون وقادة ورموز للأمة، وبدأ يحارب الأمة بهم من أمثال: طه حسين، سلامه موسى، وحسين فوزي، وزكي نجيب محمود، ورفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وهذه بعض أقوالهم وأعمالهم لندرك خطر الأفكار التي عملوا على تسويقها للأمة.
رفاعة الطهطاوي
هو الذي قام بترجمة الدستور الفرنسي الذي كان معجبًا به كثيرًا، ووضع كتاب “الإبريز في تلخيص باريز” الذي كتبه في فرنسا وعرضه على أستاذه المسيو “جومار ألبار” قبل طباعته، وسطر في هذا الكتاب ما أدهشه وأعجبه في الغرب، وأسس مدرسة الترجمة التي سُميت فيما بعد مدرسة “الألسن” وعُيّن مديرًا لها وكان يُدرس فيها اللغة الفرنسية، وتأخذ الطابع الفرنسي حيث يُدرّس فيها القوانين الفرنسية مع تدريس بعض العلوم الشرعية حتى قال المستشرق “هامِلْتُون جب”:
“كانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوربي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشأها “محمد علي”، والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوربا، ويذكر أن منها مدرسة الألسن التي كان يشرف عليها العالم “الفذُ” رفاعة الطهطاوي، وهو تلميذ جومار ألبار”. ولا تنحصر أعمال الطهطاوي بما ذكرناه فقط، ولكننا نكتفي به.
طه حسين
وهو حامل اللواء في هذا المجال، فكثيرًا ما يقول: “إن هذه الحقيقة، أو تلك في تاريخ المسلمين، أو فكرهم، مما لا يرضى بها الاستشراق” حتى قال بعضهم: إنّ طه حسين ليس إلّا مستشرقًا من أصل عربيٍّ، وقد كانت أمانته للفكر الغربيّ ولمذاهب الاستشراق تفوق أمانة المستشرقين أنفسهم، فقد أنكر وجود سيدنا إبراهيم وإسماعيل في كتابه “في الشعر الجاهلي”، وعمل من خلال محاضراته وما ينشره في الصحف ومن خلال كتبه للتوصل إلى نقد القرآن بوصفه نصًا أدبيًا، ولم يكتفِ بذلك، بل عمل على بث الأفكار القومية مثل قوله:
إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين ولو وقف الدين الإسلامي حاجزًا بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه.
وقوله: “إن الدين لم ينـزل من السماء، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها”. وهذه نظرية شاعت حينها في الفكر الغربي. وقد أجاد هؤلاء الذين صنعهم الغرب الدور الذي صنعوا من أجله، كيف لا وقد كان أساتذتهم أكبر الحاقدين على الإسلام؛ فأستاذ طه حسين هو “ديڤيد صمويل مارگـُليوث” وهو مستشرقٌ إنجليزيٌ متعصّبٌ جدًّا ضد الإسلام، وهو من محرّري (دائرةِ المعارفِ الإسلاميةِ)، وقد كانَ عضوًا بالمجمّع اللغوي المصري، وعضوًا بالمجمع العلمي بدمشقَ، ومن كتبهِ “التطوراتُ المبتكرةُ في الإسلام”، وقد اتهمَ النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ بتهمٍ كثيرةٍ، منها قولهُ:
لقد عاشَ محمد هذه السنينَ الست بعد هجرتهِ للمدينةِ، على التلصصِ والسلبِ والنهبِ.
ومنه نقلَ طه حسين بحثهُ عن الشعر الجاهلي، وهو أيضًا صاحبُ كتابِ “الإسلامُ وأصولُ الحكم” الذي نُسبَ إلى “علي عبد الرازق”، وأثار هذا الكتاب ضجة كبير؛ فقد قال المؤلف أن نظام الخلافة لا يمت إلى الإسلام بصلة، وأن القرآن الكريم والسنة النبوية لم ينصا على ذلك.
ومن هنا ندرك كم كان أثر تلك الجامعات والمؤسسات والرموز التي صنعوها كبيرًا في الأمة، من خلال تشويه صورة الإسلام ورفع القدسية عن الإسلام ونصوصه، والترويج لاتباع الغرب في طراز عيشه على أنها طريقة مثالية ويجب الاقتداء بها.
الكاتب: أحمد هلال أبو إياس
المصادر
- إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة السابعة، 2005، ص 120.
- ينظر رؤية إسلامية للاستشراق، أحمد عبد الحميد غراب، ص7-8.
- الدكتور أحمد عبد الحميد غراب. رؤية إسلامية للاستشراق.ط2 (بيرمنجهام: المنتدى الإسلامي، 1411) ص.
- الدكتور محمد فتح الله الزيادي. مذكرته لمادة الاستشراق (ليبيا: كلية الدعوة الإسلامية بطرابلس 1986 م) ص.
- شكري النجار. لِم الاهتمام بالاستشراق (مجلة الفكر الغربي، العدد 31، 1983م) ص71.
نحن في سجن من اوهام . كل ماكان يمثل ممانعة . رموز و قدوة . شيوخ و اتقياء . كلهم ثبت في السنين الأاخيرة اننا كنا نعيش في سجن . سجن من وهم . يعني بالعامية نحن عايشين بفيلم من صناعة اميركية بكل تفاصيلها .