جناية المثقف

دارت معاني المثقف في المعاجم اللغوية العربية بين عدة معانٍ كالشخص الموسوم باستنارة الذهن، وتهذيب الذوق، وتنمية ملكة الحكم والنقد، وغيرها من المرادفات المبسوطة في بطون الكتب* لكن يمكن إجمال المعنى الدقيق، الأقرب لوجدان التداول المعاصر لمعنى المثقف بأنه هو المعنى الرائج في المقارنة بين لفظتي  intellectual، وculture: وأظهر الإحالات اللغوية للفصل بين الوضع العربي لكليهما هو  كون الأولى «أقرب في دلالتها للمفكر إذ أصلها الأوربي يرجِع إلى كلمة intellect وهي الفكر، بينما الثانية تعني الرعاية والعناية وتستخدم مجازًا للدلالة على الشروط التي يوفرها المجتمع للنمو النفسي والعقلي لأفراده»¹ وبذي المعاني يتضح أن الأقرب لمعنى المثقف اصطلاحاً يكون بطرد المعاني اللغوية حوله وهو: الشخص الذي يمتلك فكراً؛ يؤهله لتقديم ما من شأنه استنهاض همم المجتمع، والتقدم به تجاه الأفضل، وانتشاله من القوقعة حول أسباب التخلف الحضاري، وتذليل المتاريس النهضوية كالجهل، والقبلية، والسموم النفسية، والثانية كحب المصلحة الشخصية على حساب العامة، وأمراض الضمير كالأنانية، والكسل المعرفي وغيرها.

إن مسؤولية المثقف تتشكل بحسب واقعه، وشروطه الحضارية، وهو ما يعبِّر عنه العلماء «بالحوجة المعرفية»، فالمثقف الإنساني في باكورة فجر التاريخ البشري لجأ لاستكشاف المأكل، والمشرب، وسبل الزراعة والرعي، ثم تطورت إلى أن آلت الأمور إلى تطلعاته إلى تكوين الأنظمة الحاكمة لحياته الإجتماعية كالتزاوج، وأنظمة العشائر، والتكوينات القبلية، إلى منتهى التفكير السياسي لمرحلة الديموقراطية التقليدية، وهكذا استمرت المحكات الحياتية تحتم على المثقف الممسِك بأدوات العلم والمعرفة القيام بدوره وريادته.

جناية المثقف

والمجتمع الإسلامي ليس بدع من هذه السيرة الإنسانية فمثقف العصر النبوي لما كانت حوبته في الميدان الحربي استنهض عقله وابتكر التكتيك الحربي مستفيداً من تجربة الفرس كما في حادثة خندق سلمان، وتعلَّم الصحب الكرام لغات ولهجات غير العرب حتى صار ثمن التحرر من الأسر أن تتكرم بتعليم نفَر من المسلمين كيت وكيت من حِرَفٍ، ولغات، ومعارف.

في فواتح القرن السابع عشر ظهرت تقسيمات اجتماعية بأوروبا اتكاء على الدور المرجو من الفرد، والعمل الذي يجب عليه أداؤه تجاه المجتمع؛ فكانت الأعمال البدنية والمهام التي تحتاج لجهدٍ جسدي ويدوي كالحرف والزراعة والاتجار موكَلة لشريحة تسمى بالعمال، وإعمال الفكر والذهن وظيفة من أسموهم بالمثقفين².

هكذا كانت الخارطة البشرية المتواضعة في الغرب قسماتها المعيارية تتمايز وفق أداتي التفكير والإنجاز!

آلت التراتيبية الوظيفية السالفة بتحديد المسؤولية الواقعة ضمن دائرة تأثير المثقف وهو ما أسماه الكاتب الدكتور علي شريعتي «مسؤولية المثقف» وكذا الدكتور محمد الأحمري، وخلاصة أطروحتيهما هي تأكيد إسناد الدور الثوري والريادة القيادية ورافعة المجتمع للموسوم بالمثقف، إذعاناً له بتولي رأس حربة الانتقال من منصة العمل المنبتّ عن التنظير الفكري؛ إلى الجهد المبني على المعرفة جمعاً بين ضرورة تلازم العمل بالعلم.

وفدت مسؤولية المثقف الغربي إلى الفضاء العربي بحالتها القائمة بمهد قيامها الغربي، جارَّة اشتباكات الدين الكنسي المحشو بالخرافة وتصاريف الصَّلَف البابوي المقدمة كحقائق مجردة، مقدسة عن الرفض والتعقيب، منزهة عن المراجعة والتصحيح، مع الثورة الثقافية وما نتجت عنها بتصدير جملة من البدائل السياسية كسلطة الشعب في مقابل الثيوقراطية، وحرية التفكير الناقد عوض عن جهالة تضييق محاكم التفتيش النصرانية، والاجتماعية كالتقسيم العادل لفرص البقاء والعيش والكرامة الإنسانية بدلا عن ادعاء النقاء العرقي وطهر سلالات بشرية عن غيرها… فخلقت هذه التوفيدات إشكالاً وجوديا بعالمنا الإسلامي وأول مظاهر تلك الأمور رفض الدين أسوة بالمثقف الغربي، وجرَت موجة نقد الموروث الشرعي تتضح يوم تلو الآخر وسط المثقفين بحججٍ راجت سابق كمزاعم تعدد التأويلات، وضرورة القراءات المفتوحة، وجدوى إطلاق الحقيقة، وسلامة النظر العقليين.

إجمال إشكالات المثقف الإسلامي في عالمنا المعاصر

يمكن إجمال إشكالات المثقف الإسلامي في عالمنا المعاصر في ثلاثة:

  1. الحالة الدعائية وتضخيم دوره المحوري في المجتمع؛ فعدد الدراسات الأكاديمية التي تُعلي شأن المثقف، وضرورة تقديمه وتصديره للناس، لا تجد لها حصراً، مع إهمال حدود وظيفته، وأدواره.
  2. التقليد الكامل للمثقف الغربي، ولبس عباءته التحررية، والتملص من كل عبء أيدولوجي قد تحلل منه، مع عدم الاكتراث للخصوصية الحضارية، والنظر في السياقات الخاصة للمجتمع وتكوين صورة مناسبة.
  3. التحلل الكامل والانفكاك عن المحمول القيمي والديني، والحضاري، والفكري، وتناسي البوصلة الشرعية، والاجتماعية الراسمة لتحرك المثقف الواقع ضمن دائرة التأثير الإنساني، واعتبار رأس المال الثقافي مهراً للتمرد والانسحاب عن الواقع.

لكن تظل الحقيقة الماثلة الواقعة ضمن الضرورات النقدية، والمراجعات المستمرة؛ هي إعادة التفكير في المثقف ودوره، ومسؤوليته، وكيفة تشكل المفهوم والاصطلاح ابتداء ومدى ضرورة تبنيه.

استشراف مستقبل المثقف المعاصر في ظل استحكام النموذج المعرفي الغربي، وضآلة التمسك بالمعين الثقافي للمسلِم المتمثِل في النظر للكتاب والسنة وما فيهما من توجيهات راسمة لطرائق التكيف مع المتغيرات العصرية، بأصالة لا تدع المسلم ذائباً في الحوادث بغير هدًى ولا رشاد وفق البناء المعرفي الصحيح الذي يضع حدا للكليات ويتسع للنوازل وتفريعاتها، ومرونة لا تضيق بالمرء ذرعا من مسايرة العصر لا العصرنة، يشي هذا الواقع المؤلم بمستقبل غير مطمئن للمثقف المسلم، ما لم يأخذ الأمر حجمه الحقيقي في هرم الأولويات الحضارية، لكن وسط كل هذا اليأس، والضحالة الواقعية للموقف المسلم، وضعف الإنتاج حيال هذه القضية يمكنني تقديم بوصلة أزعم أنها تسهم في قلب طاولة الاضطراب الثقافي، وبها نخرج من أزمتنا الثقافية

بوصلة الخروج من أزمتنا الثقافية

  1. تمتين الدور الأكاديمي وهو الطريق الأصيل في تبيين بوصلة المثقف، بتعريفه على نفسه، ودوره، ومسؤوليته، وخروقاته التي نتجت إثر تنصله عن خندقه، وميدانه.
  2. تقديم نموذج المثقف الحقيقي في التاريخ الإسلامي، وتصديره للمجتمع في كافة حقول العلم، وتسهيل الإجابة عن سؤالات الماضي الثقافي للمسلم في شتى ميادين المعرفة العلمية، والعملية، النظرية، والتطبيقية؛ فالمحرِك الاقتدائي من أنجح روافع التاريخ الإنساني ويدل على ذلك أن الوفاء لاستكشافات معينة يكون بتأريخها باسم مكتشفها فالمنهج الخفي وراء هذا الصنيع هو المثاقفة بالقدوة.
  3. تعرية النماذج المعاصرة التي قدّمها الإعلام الهدّام كمثقفين يّحتذى بهم، فالبناء بالقدوات لا بد من أن تماشى معه عملية فحص نقدي للنماذج الخادعة.

المصادر

*لسان العرب، لابن منظور، دار صادر – بيروت، 1388 هـ/ 1968م، مادة (ثقف).

1-المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية – القاهرة، 1979م، مادة (ثقف).نقلآ عن شبكة الآلوكة

2-مسؤولية المثقف، علي شريعتي، دار الأمير، صفحة 56

عبد العزيز كرار العكد

كلية الطب والجراحة، جامعة كردفان مهتم بقضايا الفكر الإسلامي مختص بفهرسة كتب السير الذاتية باحث… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى