إندونيسيا هدية ترامب القادمة للكيان الصهيوني

عندما يصرح مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط بأنه سيتم ترحيل أهل غزة إلى إندونيسيا لحين إعادة إعمارها، فمن الواجب على كل عربي ومسلم الانتباه للتصريح ومحاولة الإجابة على السؤال: لماذا إندونيسيا على وجه التحديد دون غيرها التي خصها هذا المبعوث بالذكر؟ وما هي طبيعة العلاقات الإندونيسية مع الكيان التي تجعلها في طليعة الدول التي يفكرون في نقل أهل غزة أو جزء منهم إليها؟ وما دور الولايات المتحدة في وصولها إلى هذه الدرجة من التطبيع الذي تظهره تلك التصريحات؟

تاريخيًا تقلبت العلاقات الإندونيسية مع الكيان الصهيوني عبر ما يزيد قليلًا عن ثلاثة أرباع القرن ما بين العداوة الظاهرة في عهد سوكارنو إلى العلاقات السرية الضيقة في عهد سوهارتو وتطورها مع عبد الرحمن وحيد ومن جاءوا بعده إلى تطبيع جزئي، حتى وصولها اليوم إلى حافة التطبيع السافر مع الرئيس الحالي وزير الدفاع السابق، وينتظر أن يوقّع على اتفاق التطبيع الذي سترعاه الولايات المتحدة قريبًا. 

فكيف حدث ذلك التحول من العداوة إلى التطبيع؟ وما هو دور إدارات الولايات المتحدة الأمريكية المختلفة على مدى أكثر من خمسين عامًا فيه؟ وكيف ستكون إندونيسيا على قائمة الدول التي ستُطبع علاقاتها مع الكيان الصهيوني خلال الأشهر القليلة القادمة بدفع من إدارة الرئيس الأمريكي الحالي ترامب؟ هذا ما يحاول هذا المقال بيانه.

نبذة عن العلاقات الإندونيسية الأمريكية

العلاقات الأمريكية الإندونيسية
مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي ترامب في ولايته الأولى مع عضو المجلس الاستشاري للرئيس الإندونيسي يحيى ستاقوف

تتبع العلاقات الأمريكية الإندونيسية الدافئة منذ وصول سوهارتو إلى الحكم حتى الرئيس برابوو سوبيانتو وزير الدفاع السابق الذي تسلم مهام الحكم بعد انتخابات أكتوبر الماضي تُبين أسباب الصفقة السياسية بين القيادات السياسية في إندونيسيا وبين الأمريكان، والتي جرى العمل عليها لأكثر من خمسين عامًا مضت، والتي أخذت في التبلور بقوة في عهد أوباما لتصل إلى ذروتها في فترة رئاسة ترامب الأولى وأكملتها إدارة بايدن حتى كادت تتم؛ مثلها مثل الجائزة الكبرى المتمثلة في التطبيع السعودي الصهيوني، لولا غزوة طوفان الأقصى التي أوقفت ذلك كله.

فمع تفويض سوكارنو عام 1967م سوهارتو في حكم البلاد ثم انتخابه رئيسًا سنة 1968م تحسنت العلاقات بشكل كبير بين البلدين، ثم ازدادت تلك العلاقات متانة في حكم خلفائه على مدى السنوات الخمس والعشرين منذ نهاية حكم سوهارتو سنة 1998م حتى أصبحت إندونيسيا اليوم شريك رئيسي للولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا، ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ بشكل عام. وهذه الشراكة هي المفتاح الرئيسي لفهم عملية التطبيع المتسارعة بين إندونيسيا والكيان التي شارفت على الوصول لمحطتها النهائية.

الشراكة طريق التطبيع

عمدت الإدارات الأمريكية المتوالية منذ جونسون مرورًا بنيكسون وفورد وكارتر وريجان وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن على تنمية وتعميق تلك الشراكة مع ربطها بالكيان الصهيوني كلما سنحت الفرصة؛ مثلما حدث في عهد كارتر عندما تسلمت إندونيسيا صفقة أسلحة عبر الكيان، حيث تجددت وتعمقت العلاقات العسكرية بينهما، وازدادت العلاقات الاقتصادية قوة، حتى وصلت العلاقات الاستراتيجية بين البلدين مرحلتها الحاسمة مع وصول أوباما للحكم عندما تم رفع درجة العلاقات إلى  “شراكة شاملة” عام 2010م، وما إن قربت ولايته على الانتهاء حتى تم ترقيتها إلى “شراكة استراتيجية” في عام 2015م. (نفس عام الشراكة الاستراتيجية مع دول الخليج).

ومع وصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية عام 2016م، أخذت العلاقات تتطور بشكل أكثر قوة استنادًا لاتفاق الشراكة الاستراتيجية السابق؛ واستعجالًا لحصد ثمار تلك الشراكة عبر جعلها مفتاحًا لتطبيع أكبر دولة مسلمة من حيث عدد السكان مع الكيان الصهيوني.

فقد استهدفت إدارة ترامب في فترته الأولى عبر استثمار التاريخ الكبير من الإشارات الإيجابية المتقطعة من الحكومات الإندونيسية المختلفة؛ على تفاوت في درجتها تجاه الكيان، في جعل التطبيع واقعًا مرئيًا بعد أن ظل عقودًا في الظل، ضمن صفقة كبيرة وعد بها ترامب قادة الكيان تضم إلى جوار إندونيسيا دول الخليج والمغرب والسودان. وكاد الأمر يتم لترامب بعد توقيع اتفاقات “إبراهيم” مع الدول السابق الإشارة، ولتكون إندونيسيا هي الدولة الخامسة الموقعة على اتفاقات التطبيع للكيان الصهيوني، وليحصل الكيان على الجائزة الأثمن بتوقيع أكبر دولة إسلامية اتفاقًا للتطبيع معه، والذي يعني تشجيع دول مسلمة أخرى على أن تحذوَ حذوها؛ مثل ماليزيا وبروناي، كما يعد تمهيدًا للاتفاق الكبير الموعود مع السعودية. ووعد ترامب ساعتها بدفع مليار دولار على الأقل مقابل اتفاق التطبيع لكن الوقت لم يسعفه لتحقيق ذلك بعد هزيمته في الانتخابات أمام بايدن. 

أكملت إدارة بايدن مشوار تأهيل إندونيسيا للتطبيع مع الكيان طوال الأربع سنوات الماضية منذ 2020م حتى نهاية ولايته منذ أيام، من خلال سياسة “الجزرة” التي نجحت في ذلك تمامًا. وكادت تحقق ما لم يسعف الوقت ترامب في تحقيقه: توقيع اتفاق التطبيع بين إندونيسيا والكيان، حيث أشارت تقارير عديدة أن البلدين كانا يخططان للإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية برعاية أمريكية في أكتوبر 2023م، لكن غزوة طوفان الأقصى  في 7 أكتوبر أجلت التوقيع؛ وإن لم توقف التطبيع. 

ومع ذلك استمرت الإدارة الأمريكية في نهجها المحفز للحكومة الإندونيسية للاستمرار في التطبيع من خلال إعلان الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين بعد غزوة الطوفان بشهر وتحديدًا في 13 نوفمبر 2023م عندما التقى الرئيسان رئيس أمريكا ورئيس إندونيسيا في البيت الأبيض، للإشارة إلى أن الولايات المتحدة من بين أهم شركاء إندونيسيا الدولِيين، وهو أمر يعني الكثير لأمن ومكانة إندونيسيا في محيطها الإقليمي كما يفرض عليها تبعات في التوافق مع الاستراتيجية الأمريكية في باقي مناطق نفوذها وخاصة في قارتنا العربية. 

وفي هذا اللقاء تم توقيع قائمة من الاتفاقيات لتعميق العلاقات الاقتصادية بين البلدين، تهدف إلى دفع التنمية الاقتصادية في إندونيسيا وجذب الاستثمار الأجنبي إليها. وفي هذا اللقاء ذاته أعلن الرئيس الإندونيسي السابق، جوكوي، إنه يأمل أن تساهم تلك الشراكة “في السلام والازدهار الإقليمي والعالمي”، وهي لفتة واضحة للدور الذي تُؤهل له إندونيسيا في المرحلة القادمة في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. 

بعد سنوات السر.. التطبيع يخرج إلى العلن

تطبيع إندونيسيا مع إسرائيل
الرئيس الإسرائيلي ريفلين خلال لقائه وفدًا إندونيسيًا في تل أبيب

وكان من أهم المداخل التي استخدمتها أمريكا لتأهيل إندونيسيا للتطبيع؛ أيضًا، ربطها بين حصول إندونيسيا على عضوية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في مقابل التطبيع؛ فالدعم الأمريكي؛ كما هو معروف، حاسم في انتزاعها موافقة الدول الأعضاء في المنظمة، وسيجعلها تجتاز معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية المطلوبة قبل الانضمام بسهولة. وهو ما يتضح من تصريحات أمين عام المنظمة المشددة على جعل التطبيع مع الكيان جزءًا من متطلبات قبول إندونيسيا  في المنظمة. 

وقد حرصت الإدارة الأمريكية على تأكيد أهمية خطوة التطبيع تلك في استمرار الشراكة مع إندونيسيا في العام التالي عندما ذهب رئيس إندونيسيا المنتخب حديثًا في أكتوبر 2024م لزيارة أمريكا في نوفمبر الماضي 2024م والتقى بالرئيس المنتهية ولايته جو بايدن. حيث تم خلال تلك الزيارة ترتيب لقاء بشكل منفصل بين رئيس إندونيسيا برابوو سوبيانتو(وزير الدفاع السابق والذي قاد جهودًا سرية سابقة لتطبيع العلاقات مع الكيان) ورئيس الكيان إسحاق هرتسوغ، وخرج البيان المشترك بينهما ليلقي الضوء على أهمية مراعاة “المخاوف الأمنية الإسرائيلية” والتي تعكس انفتاح “جاكرتا” على التطبيع مع الدولة اليهودية وتغير الموقف الإندونيسي من الكيان الصهيوني بشكل معلن بعد طول خفاء. 

وبذلك تمكنت إدارة بايدن من خلال تلك الشراكة من كسب موقف إندونيسي جديد ومعلن تجاه إسرائيل وفلسطين، بما في ذلك دعم حل الدولتين باعتبار أن صوت إندونيسيا في هذا الشأن سيكون ذا أهمية كبيرة في تسويق التطبيع في العالمين العربي والإسلامي؛ فالتطبيع مع إندونيسيا -أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة في العالم- يمثل مكسبًا استراتيجيًا قد يُسهم في كسر جزئي للعزلة المتزايدة للكيان التي يواجهها بسبب أفعاله الإجرامية الإبادية في غزة. كما سيعزز من مكانة الكيان في منطقة جنوب شرق  آسيا و المحيطَين الهندي والهادي، وهي المنطقة التي يعطيها الاستراتيجيون الصهاينة أولوية متزايدة لما يتوقع لها من دور عالمي حاكم في العقود القريبة القادمة. 

بعد تنصيب ترامب رئيسًا في 20 يناير الماضي، فإن التوقيت صار مناسبًا جدًا لتوقيع اتفاق التطبيع والاعتراف بالكيان من جانب إندونيسيا، خاصة بعد أن أبلت حكومة إندونيسيا بلاء حسنًا في إدارة سياستها الخارجية أثناء الحرب على غزة: من المستشفى الميداني، لإسقاط المواد الغذائية؛ وذلك تمهيدًا لتحسين صورتها لدى الشعب الإندونيسي؛ الرافض في غالبيته للكيان، والحد من الاستياء الشعبي عندما يحين موعد الإعلان عن التطبيع؛ خاصة مع توقع استئناف مفاوضات السلام والدعوة الكاذبة لحل الدولتين الذي سيتواكب مع توقيع اتفاق تطبيع واعتراف مماثل بين الكيان والسعودية برعاية أمريكية. 

أخيرًا

إندونيسيا تدعم القضية الفلسطينية

لطالما قاومت إندونيسيا، الدولة الإسلامية الأكثر سكانًا في العالم، التطبيع الرسمي والاعتراف الصريح بالكيان تحت إدارات الحكومات السابقة منذ الاستقلال حتى الرئيس الإندونيسي المنتهية ولايته جوكو ويدودو الذي لم يجرؤ على توقيع اتفاق التطبيع بعد غزوة الطوفان، بل دعم اتهام جنوب إفريقيا بالإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية في لاهاي.

لكن الآن بعد أن اِنتخب وزير الدفاع برابوو سوبيانتو رئيسًا لإندونيسيا في أكتوبر الماضي، وما أدلى به من تصريحات في واشنطن بعد شهر من انتخابه كما سبق أعلاه، وما أدلى به وزير الخارجية سوجيونو من تصريحات منذ أيام عن استعداد إندونيسيا للمساعدة في إعادة إعمار قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل. وتأكيده التزام إندونيسيا بالدفاع عن القضية الفلسطينية، بما في ذلك تعافيها واستقلالها، من خلال جميع الوسائل المتاحة. واستعدادها أيضًا لتوفير أفراد حفظ السلام إذا طلبت قرارات الأمم المتحدة ذلك. وهي التصريحات المتسقة مع تصريحات الرئيس في واشنطن من ناحية، وتصريحات ويتكوف عن نقل الغَزيين إلى إندونيسيا من ناحية ثانية، والتي تؤكد جميعها أن خطوة التطبيع قد اكتملت ولا تحتاج سوى إشارة ترامب لإبرامها. 

وفي ظل هذه الظروف، فإن الرئيس الإندونيسي الجديد برابوو سوبيانتو الداعم للتطبيع، والذي يدرك الفوائد المحتملة التي سيجنيها من الجانب الأمريكي والمترتبة على إقامة علاقات علنية مع الكيان، لابد وأن يغتنم هذه الفرصة؛ فالأجواء مهيّأة لإبرام صفقة جديدة تُسهم في إنعاش الأوضاع الاقتصادية للإندونيسيين، وترفع أسهمه في الداخل بين الشعب، كما قد تسهم في المزيد من استثمار أمريكي يُحجم السيطرة الصينية على إنتاج المعادن النادرة والتي تمتلكها إندونيسيا بأعداد كبيرة، ويُمكّنها من تنمية الاقتصاد. كذلك تسريع عمليات نقل الأسلحة للجيش الإندونيسي، مثل بيع مقاتلات “إف-15” المعتمدَة في عام 2022م ولم تنفذ كجزء من صفقة التطبيع مما يسهم في تقويته في منطقة مهددة أكثر من أي وقت مضى.

لذلك ففي اعتقادي إن إعلان التطبيع والاعتراف الرسمي الإندونيسي بالكيان قد أصبح في حيز التنفيذ وينتظر ترتيبات ترامب للتوقيع ربما قبل أن تمضي المائة يوم الأولى من ولايته.

عماد الدين عويس

باحث في الشؤون الدينية والسياسية، باحث دكتوراه في السياسية العامة، له مؤلفات عديدة من مقالات… المزيد »

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. السلام عليكم
    معلومات جديدة وغير متوقعة واخشى ان تكون هناك مفاجآت اخرى تقوم بها الحكومات بعيدا عن الشعوب العربية او الاسلامية،
    بالنسبة لاندونيسيا الان في مراحلها النهائية، فهل يمكن التنبيه قبل ذلك للدول التي يخشى ان تسحب لنفس المسار
    بارك الله فيكم
    مع ملاحظة وهي عرض المقالة على متخصص في اللغة العربية قبل النشر،

    1. إن شاء الله ووفق هناك مقالة قادمة قد تسهم في إلقاء الضوء على بعض الأمور المطلوبة لمتابعة علاقات الكيان بالدول الغسلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى