السيوطي الفقيه المحدث المجدد: مثل وقدوة، فهل من مشمر؟
السيوطي المصري القاهري المولد الأسيوطي لقبًا (849هـ – 1444م/911هـ – 1505م) الشيخ الإمام العلامة المتفنن المصنف شيخ الإسلام، جلال الدين بن الإمام كمال الدين بن محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد بن خليل بن الهمام. واحد من أهم فقهاء الإسلام وحفاظ الحديث والمبدعين في علوم العربية في تاريخنا الإسلامي.
وُهبَ السيوطي همة عالية ارتقت به بعيدًا في طلب العلم وارتفعت به عاليًا عن غالب أقرانه ممن سلك سبيل طلب العلم في زمانه، فلم تقنع همته بالتدريس أو ولاية خانقاه صوفية وإدارتها أو حتى تولي القضاء للمذهب الذي ينتسب إليه، لا، بل كانت تتوق لما هو أكبر، كان يريد أن يكون مثل ابن حجر في الحديث، والعلم البلقيني في علم أصول الفقه، أي يجمع طرفي العالم المجتهد، أملًا في إصلاح حال الفقه والفقهاء والحكم والمجتمع في زمانه.
وتخبرنا سيرته أنه عاش حياة مليئة بالنشاط والصراع ممتلئة بالتفاعل مع الشخصيات المؤثرة منذ نشأته الأولى مرورًا بتلقي العلم ثم الجلوس للتدريس والإفتاء والتصنيف وما دار خلالها من معارك فكرية وعملية حتى وفاته رحمه الله. وفيما يلي نبذة مختصرة عن تلك الحياة.
النشأة الكريمة والتعليم
مرحلة الإعداد هامة جدًا للفقيه لأنها تمثل لحظة تأسيسية بالغة الأهمية في تطور الأسس النظرية لفقهه، ولنظرته لواقعه وكيفيات تنزيل الحكم الشرعي عليه. فالمعارف النظرية والتوجهات العملية هي بنت السياق بل لا معنى لها من غير السياق الذي فيه تنشأ.
نشأ السيوطي في بيت كريم، وحمل منذ وعى الحياة تاريخًا مجيدًا لأسرة عُرفت بالعلم والكرم والنفوذ الديني لدى أهل زمانها ممثلة في والده الذي كان قريبًا من فقهاء وحكام زمانه، والذي خلفه صغيرًا؛ توفي والده وهو لم يتجاوز الثمانية أعوام، ليتولى كفالته شيخ العلماء في زمانه الكمال بن الهمام الذي تولى رعايته هو وبعض تلامذة والده وأعلام عصره من أصحاب أبيه من العلماء والخلفاء حتى جلس للتدريس.
أظهر السيوطي منذ الصغر ذكاء وسرعة في الحفظ للقرآن والمتون الفقهية واللغوية أهلته سريعًا لتلقي العلم. وتقلب في حلقات العلم الكثيرة لمئات الشيوخ والشيخات الذين تلقى عنهم العلم في الحديث واللغة والفقه وأصوله وغيرها من العلوم الشرعية والعقلية حتى صار مؤهلًا للإجازة العلمية.
وعلى الرغم من أن السيوطي قد تعلم على نفس النمط الذي درج عليه سائر أبناء زمانه، فحفظ القرآن، ثم منهاج النووي، وألفية ابن مالك، وعمدة الحديث، وبعضَ منهاج البيضاوي ثم جدَّ في الاشتغال بالعلم من ابتداء ربيع الأول سنة أربع وستين وثمانمائة، فقرأ في الفرائض على علامة زمانه الشارمساحي الشافعي1، وقرأ صحيح مسلم رواية، وسمع الشفاء، وقرأ ألفية بن مالك دراية بعد أن حفظها صغيرًا.
وقرأ الكافية لابن الحاجب على شمس الدين الحنفي، ولزم دروس الشيخ علم الدين البلقيني حتى مات. وقرأ على العلامة فخر الدين المقسي، والعلامة الشمني حتى مات، ولازم أستاذ الأستاذين محيي الدين الكافيجي أربعة عشر سنة، كما لزم دروس شيخ الإسلام مجتهد المذهب أبي زكريا المناوي قاضي القضاة، ولزم كذلك دروس العلامة سيف الدين الحنفي، وقرأ على صديق والده قاضي القضاة عز الدين الكناني الحنبلي. ثم حُبب إليه طلب الحديث بعدما تصدر للتدريس فابتدأ في السماع وتحصيل الإجازات 868هـ إلا أنه لم يكثر من السماع إكثاره من الاشتغال بالحديث دراية وتدريسًا وتأليفًا وأخذًا عن أئمتها المعتبرين؛ اغتنامًا لملازمتهم قبل حلول وفاتهم.2
لكنه لم يكتف بالمتون التي حفظها ولا بالمعارف التي تلقاها من أساتذته، فرحل في طلب العلم ومدارسة العلماء وأجاز له خلق من الحجاز وحلب.3 وبعض علماء دمياط والإسكندرية وأعمالهما.4 وكان يحرص على حضور مناقشات كبار العلماء ويتتبع مسائل الخلاف فيما بينهم بالرجوع إلى خزانات الكتب المتاحة له؛ ليقف على أصل الخلاف ويتتبعه قراءة وفهمًا.5 وحُبب إليه استحضار غرائب المنقولات ودقائق الفنون الخفية معزوة إلى قائلها من الكتب المشهورة والغريبة وسنه إذ ذاك عشرون سنة.
جمع السيوطي في تلقيه العلم بين الرواية والدراية، فتلقى العلم سماعًا عن كثيرين من أكابر علماء الفقه واللغة والحديث، في ذات الوقت تلقى العلم دراية أيضًا من خلال مجالسة ومناقشة هؤلاء الأكابر فيما يخوضون فيه من مسائل، وكان تنوع شيوخ السيوطي وتنوع مذاهبهم وقدراتهم العقلية هو ما جمع له فقه المذاهب كلها. كما أن قراءاته التي لا حصر لها ورحلاته ومحنه التي لازمته طيلة حياته محنة وراء أخرى كان لها الأثر الأكبر في نتاجه الفكري المتميز، فاجتمع له فقه النقل وفقه العقل معًا.
وكان كلما تعمق في العلم وواجه الواقع المتغير بعدما جلس للإفتاء وتدريس الحديث كان يجد حاجة ماسة لتجديد فكره ووصله بتراث الفقه السابق عليه بتنوع مدارسه حتى يواكب مستجدات زمانه. فأكب على كتب الخزانة المحمودية أعظم المكتبات وأغناها في زمانه وغيرها يتعمق في تراث أسلافه من الفقهاء والمحدثين واللغويين والمفسرين تعمقًا كبيرًا، يتتبع كل مسألة تواجهه تتبعًا دقيقًا حتى يقف على الأقوال فيها. ويقول في ذلك: «ومهرت في النحو بحيث طالعت فيه كتبًا جمة، وعلقت فيه تعليقات كثيرة. وأظن أن كتب العربية التي وقفت عليها لم يقف عليها غالب أهل العصر، ولا كثير ممن قبلهم… ثم انتقلت تلك الهمة إلى الفقه، ولله الحمد، فهما الآن أحسن معارفي. وتليهما المعاني والإنشاء واصطلاح الحديث»6، حتى رُزِقَ «التبحر في سبعة علوم تبحرًا لا يُدرك قراره: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبديع… بحيث أن الذي وصلت إليه في هذه العلوم سوى الفقه لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي فضلًا عمن دونهم».7
ولقد أغنته تلك الثروة الكبيرة من القراءات ووسعت من مداركه فصار ينظر إلى القضايا والمسائل الجزئية على أنها تعبير عن مستوى مصغر لفقه كلي يمتلكه تراث الأمة الفقهي يمكن من خلاله في كل عصر تطوير المقولات الفقهية لتناسب كل زمان.
وأخذت شخصية السيوطي الفقيه الذي نعرفه تتبلور عامًا بعد الآخر على نهج لا يشبه نهج أقرانه ومجايليه من الفقهاء والمفتين. فهو لم يتوقف لحظة عن طلب العلم كما توقف غالب أقرانه، فهو منذ زمان الطلب يتساءل ويتطلع لكتابة الكتب التي لم تكتب بعد في مختلف فنون العلم، لذلك فلم يترك كتابًا وقعت عيناه عليه إلا قرأه، ولم يسمع بنازلة أو مسألة علمية إلا تعمق في البحث عن أصولها وما كتب فيها، ويقول عن نفسه «وما وقع لي شيء قط وأعجلت النظر فيه، ولا سمعت أو رأيت شيئًا قط ونسيته». وكان يدرس ويملي الحديث ويكتب في نفس الوقت كما ذكر تلامذته. وكان يستطيع الكتابة في أي موضوع شاء مستحضرًا كل أدلته وأسانيده وأقوال أهل العلم فيه. وكان دائم النظر في كتبه يمسح بعضها ويقيم آخر، ويجدد غالبها كلما استضاء قلبه بعلم جديد في مسألة مما كان يصنف فيها.8
وإذا أضفنا إلى ذلك كله تفاصيل حياته وتجاربه، وعصره الذي تميز بالعديد من المزايا واعتراه الكثير من العيوب والجمود. فقد كان عصر السيوطي عصر اضطراب، فقد عاش جل حياته العملية في عهد الأشرف قايتباي الذي ظل سلطانًا لأكثر من ثلاثين عامًا، والبقية الباقية منها قبل وبعد قايتباي تداول الحكم أكثر من اثني عشر سلطانًا. وفي الحالين لم يسلم شهر في هذا العصر كما تخبر مصادر التاريخ المختلفة من فتن واضطرابات وظلم لا حدود له داخل القاهرة أو خارجها من الأقاليم أو باقي أطراف الدولة حيث ازدادت الانشقاقات بين أمراء المماليك، بالإضافة لظهور نجم الدولة العثمانية والتي دخلت في صراع طويل مع دولة المماليك حتى محتها من التاريخ بعد قليل من وفاة السيوطي. فاستثار ذلك كله كامل قدراته وأنتج لنا هذا الحافظ الفقيه ابن زمانه.
كما كانت القاهرة تموج بالقادمين من كافة أنحاء المملكة وتخبرنا كتب التاريخ بما فيها ما كتبه السيوطي أنه كان يتواصل مع غالب هؤلاء ويجلس إليهم، كما أن مجتمع القاهرة المملوكية في هذا الزمان كان مكتظًا بالأحداث الاجتماعية، ومن شأن دراسة هذه الأحداث أن توسع عقل الفقيه وتفتق ذهنه إلى استخراج المسائل وتوسع فيه ناحية الفرض والتصور ووضع ضوابط عامة لجنس الفروع المتباينة على ما نرى في كثير من فتاويه.
وهو ما انعكس على منهجه في الفتوى والتصنيف، فكان نهجه التثبت والنظر في مجموع الكلام الذي يقرأه أو الفتوى أو المسألة التي يُستفتى فيها أو القضية التي يتناولها: يتأمله حرفًا حرفًا حتى يتضح ثم يستوعب نقول العلماء في ذلك فيصل إلى القول الراجح فيها بعد موازنة دقيقة بين تلك الآراء، قبل أن يدلي برأيه أو يفتي في ما سُئل فيه.
منهج السيوطي
علاقة الفقه بالمنهج حتمية، فالمنهج هو الإطار الفكري الذي يربط بين الوقائع، والمفاهيم، والفروض. ليتمكن الفقيه من التأمل والنظر في الواقع وما يحويه من ظواهر وتفاصيل ويحاول من خلالها أن يفسر الظواهر المطردة، وأن يحدد العلاقة بين السبب والنتيجة ليصل إلى الحكم الصحيح الجزئي والكلي في الواقعات. لا فقه من دون معرفة ولا معرفة دون منهج، والمنهج يرسم الطريق للوصول إلى الغاية وهي هنا تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع الجارية؛ ليُسلم الناس لرب العالمين ويَحيوا حياة طيبة. فغاية المنهج هي ترتيب الفكر ليُمكّن لعقل الفقيه الاستجابة لتحدي مشاكل الواقع المعقدة بروح النص ومقاصده، وهو ينبثق ويتطور ويستوي من خلال مسار التعلم والخبرة. والمنهج يُهيّء للفقيه ملكة وقدرة الاستنباط واستخراج الأحكام الخفية من الأدلة البعيدة.9
نشأ السيوطي في حجر العلم منذ كان في مهده، ودأب فيه غلامًا وشابًا وكهلًا، وتصدى للإفتاء سبع عشرة سنة، وبقي في الإفتاء والتدريس إلى أن بلغ من العمر أربعين سنة،10 حتى ظهرت معالم منهجه الفقهي والذي تميّز بالالتزام بالأصلين الكتاب والسنة وحسن تنزيلهما على الواقع مع الاستفادة من باقي أدوات الاجتهاد، والنَهَل من التراث الفقهي السابق له. وكان ذلك المنهج هو مدخله للفتوى وللكتابة في أي موضوع من الموضوعات الكثيرة التي كتب فيها مع غلبة النَفَس الحديثي فيها.
وهو يتحدث عن منهجه هذا فيقول: «أغوص البحار على الجواهر، وأفحص عن نقول الأئمة الجماهر، وأتتبع ما خفي على الناس، وأزيل كل إبهام وإلباس، وأحشد النقول، وأحشر كل قول مقول، وأصدع بالحق وأصول… وأستقي من الأمهات والأصول… لا تقع مشكلة إلا تتبعت كلام العلماء فيها، واستقصيت أمرها حسبما أمكن حتى أعطيها حقها وأوفيها، لا أكتفي بنقل أو نقلين».11
وعندما لا ينشرح صدره لتقرير مسألة ما فنجده يَوَد لو وجد دليلًا أقوى مما ذهب إليه أو المجمع عليه كما في مسألة رؤية النساء لرب العزة في الجنة، فنجده نتيجة لمنهجه الصارم الذي سار عليه طيلة حياته منذ كملت آلات الاجتهاد عنده والمقام مقام توقف والإقدام فيه ليس بالهين والسكوت والأحب إليّ في هذه المسألة هو الوقف عن الجزم فيها بشيء، ونكل الأمر في ذلك إلى الله تعالى حتى يوجد حديث صريح في الإثبات يحتج بمثله.12
ومما رَسّخ هذا المنهج في نفسه معايشته للواقع المصري من خلال تقلده للعديد من الوظائف الدينية، ولا يخفى علينا ما تمنحه هذه الوظائف لصاحبها من قدرة على الاختلاط مع كافة فئات المجتمع. فقد ظل السيوطي لأكثر من عشرين سنة يُدرّس ويفتي الناس في النوازل التي تنزل بهم، وتولّى أثناء ذلك مسؤولية الإفتاء وتدريس اللغة والحديث والفقه والإشراف على مدارس وخانقاهات وترب وقفية متعددة، وخاض غمار خلافات فقهية وحديثية ولغوية وقضايا مجتمعية ودينية متعددة انتصر فيها للفقه السديد القائم على المعرفة المعمقة بالشرع الشريف وآراء كبار الفقهاء في المذاهب الأربعة.
السيوطي يتحدث عن نفسه
«إن الله سبحانه من فضله وكرمه جبلني حين كنت ابن سبع سنين على خصال منها: حب الخير والعمل الصالح، والإصغاء إلى الحث عليه وكراهية الشر والعمل السيء والنفور عمن دعا إليه. ومنها حسن الاعتقاد في الفقراء وأهل الصلاح والزهد والتعبد، وكل من ينسب إلى شيء من خصال الخير. ومنها كثرة التأني في الأمور وعدم المبادرة، فرب أمر أريد الإقدام على فعله فأمكث السنين أتروى فيه حتى يشرح الله صدري لفعله. ورب رجل يذكر لي بسوء، تبدو منه الخصلة أو الخصال، فلا أبادر إلى سوء الاعتقاد فيه، ولا يغيرني عليه ما كنت من حسن الظن به، حتى أجربه سنين، ويتواتر عندي ما ينفرني منه، فالأصل في كل مسلم عندي الدين والخير، حتى يثبت ما ينفي ذلك بالتجربة لا بالأخبار… ونشأت على حب الصالحين واعتقادهم. فما سمعت بصالح إلا وقصدت زيارته والتبرك به، فاجتمعت بجماعة كثيرة منهم…13 وكأن السبب في إقبالي آخرًا على طريقة التصوف وملازمة القوم نزوع العرق من جدي».14
مؤلفاته
تركّزت مصنفات السيوطي الغزيرة بمختلف أنواعها والقضايا التي تناولتها على مجموعة من الآراء الكلية متعلقة بالعودة لما كان عليه الصدر الأول من الاجتهاد ونبذ التقليد. وأن الاجتهاد متاح للآخرين كما أُتيح للأولين بل هو فرض عليهم كما عنوان كتابه قيامًا بواجب الدين وتحدثًا بنعمة الله. وأن على القضاة والمفتين أن يتعاملوا مع المصادر الأولى للتنزيل وتجاهل أي آراء مخالفة لها ولو كانوا آباءهم أو معلميهم وكبار شيوخ مذهبهم، لأن هذا هو السبيل إلى التحرر من الجمود ومعالجة المشاكل الكثيرة التي وصفها في مؤلفه (صفة صاحب الذوق السليم) والتي قلبت المجتمع وقِيَمه رأسًا على عقب فانتكس ونكث ونكص على عقبيه. فكل أمراض المجتمع في نظر السيوطي تنبع من الركون إلى التقليد، والخروج منها لا يكون إلا بالتجديد، وتلك وظيفة الفقهاء وعلماء الشريعة وهي بداية الإصلاح لباقي شؤون المجتمع.
وقد قسّم السيوطي مؤلفاته إلى أنواع، منها: «ما أدعي فيه التفرد، ومعناه أنه لم يؤلف له نظير في الدنيا فيما علمت. وليس ذلك لعجز المتقدمين عنه، معاذ الله، ولكن لم يتفق أنهم تصدوا لمثله. وأما أهل العصر فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله لما يحتاج إليه من سعة النظر وكثرة الاطلاع وملازمة التعب والجد. والذي هو بهذه الصفة من كتبي ثمانية عشر مؤلفًا: الإتقان في علوم القرآن، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ترجمان القرآن، أسرار التنزيل، الإكليل في استنباط التنزيل، تناسق الدرر في تناسب الآيات والسور، النكت البديعات على الموضوعات، جمع الجوامع في العربية، شرحه يسمى همع الهوامع، الأشباه والنظائر في العربية تُسمّى المصاعد العلية في القواعد العربية، السلسلة في النحو، النكت على الألفية والكافية والشافية والشذور والنزهة في مؤلف واحد، الفتح القريب على مغني اللبيب، شرح شواهد المغني، الاقتراح في أصول النحو وجدله، طبقات النحاة الكبرى تسمى بغية الوعاة، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، الجامع في الفرائض لم يتم».15 بخلاف باقي كتبه الأخرى التي كانت اختصارًا لكتب أو شرحًا للبعض الآخر أو كتبًا تعليمية احتاجها طلبته.16
علاقة ملتبسة بأهل عصره
غالب من اختلفوا مع السيوطي كانوا يأخذون عليه أنه يأخذ العلم الذي مضوا زمانًا يأخذونه من مشايخهم من الكتب.17 واعتبروا أن اقتحام السيوطي لمشكلات زمانه وإدلاله برأيه فيها وهو ما زال شابًا استعجالًا قبل الأوان وتصدرًا دون تأهل واعتماد، بل زادوا في الشطط فاعتبروا أن في عقله شيئًا أوجب هذا الحال (جنون)، وذلك دعواه البلوغ رتبة الاجتهاد، وهذا عين المحال.18
لذلك نجدهم منساقين باتجاه التقليد، وبدلًا من الاحتفاء بالاجتهاد صاروا أقرب إلى ترجيح وجهة نظر واحدة درجوا عليها. وذلك ضمن رؤية تضيق بالتنوع، وتميل إلى صب العلم في إطار مقولات محددة. وطغت “الجزئية” على عقولهم الفقهية، فكانت؛ مع مشاعرهم السلبية تجاهه والدفاع عن مصالحهم ومناصبهم، أقتل أدواء هذه العقول، والأخذ بفهمها إلى مسار التراجع والجمود.
فمن خلال متابعة الخلافات بين الإمام السيوطي والعلماء في عصره نلاحظ بسهولة جمود معظم مخالفي السيوطي على ما تعلموه وإيمانهم باستحالة التجديد، وعدم انفتاحهم على قضايا المجتمع درسًا وتأملًا وملاحظة، وانكباباهم على مصالحهم، فضاق أفقهم عن فهم كثير من المسائل، وهو ما يتضح في الفارق بين تكييف السيوطي لمسائل الخلاف ورؤيته له عن تكييفهم.
فأهل ذلك العصر كما يصفهم السيوطي: «شق عليهم جدًا، وكبر عليهم، واستعظموا أن يقول أحد بتحققه بالاجتهاد، وربما عدّوا هذا القول من الهَذَيان والخرافات. والسبب في ذلك أن أحدًا منهم لا يمكن أن يدعيه لنفسه ولا يدعيه له أحد من خاصته لخلوه يقينًا عن أكثر شروطه، إذ غاية الواحد منهم أن يتقن فنًا واحدًا، وهو الفقه مع أن علم الفقه نفسه ليس من شروط الاجتهاد كما هو مقرر في موضعه فإن ضم إلى ذلك غيره من العلوم: قدر يسير من العربية وأندر منه من الأصول تمت القضية، أو يعودون على قائل هذه المقالة بالتشنيع والتضعيف لقوله، وإنها مقالة واهية ساقطة لا يعول عليها ولا يعتمد عليها، وأحسنهم حالًا من يسلمها»، ويقول: «إن العصر لا يخلو من مجتهد، وإن كنا لا نعلمه ولعله في البلاد القاصية لا في هذه البلاد».19
وبالجملة فقد سادت حالة سكونية خاملة بين أهل الفقه ومتطلبات الاجتهاد وأدواته من ناحية، وبينهم وبين تفاصيل الواقع الذي يعيشونه من ناحية ثانية، ومن ثم نجدهم يتعاطون مع قضية الاجتهاد تعاطيهم مع قضايا الواقع على نحو شديد الجمود وعدم الاستيعاب؛ ولذلك سعى غالب أهل الفقه والفتوى إلى نفي وجود المجتهد أو إنكاره، وليس إلى متابعته وتشجيعه وتوجيهه، حتى انعكس ذلك على ديناميكية الواقع وحيويته وتجدده على ما حدث.
لماذا نعبر عن العلاقة بين السيوطي وأهل عصره من الفقهاء والشيوخ الصوفية والحكام بالالتباس؟
لأن هذه العلاقة تميزت بمجموعة من الخصائص جعلتها ملتبسة أشد الالتباس امتد حتى يومنا هذا في تعامل الغالب من الباحثين مع السيوطي. ولأن الالتباس في اللغة هو التعبير الأقرب لتكييف تلك العلاقة.
يقال في اللغة التبس عليه الأمرُ: أُشكل واختلط واشتبه، الْتُبِسَ به: خُولط في عقله، التبس بعمل كذا: خالطه، والتبس عليه الحقُّ بالباطل، والمشكلة ملتبسة على الطَّرفين، رفع الالتباس عن الموضوع زال فاتضح وظهر، التبس الظلام أي اخْتَلَط.
فبعض أهل عصر السيوطي التبس عليه أمره ثم زال هذا الالتباس بعد فترة لما اتضح له حقيقة أمره، وبعضهم أشكل عليه أمره واختلط فلم يكن معه أو عليه، والبعض الآخر اتهمه بالجنون والخيالات الوهمية الخاطئة، وغالبهم التبس عليهم ظلام العصر والنفس؛ فتسببوا في الالتباس الذي لازم البحث في حياة وتصانيف السيوطي حتى اليوم.
كما أن هذا الالتباس كان بسبب السيوطي نفسه في طبيعة شخصيته وطريقة عرضه لأفكاره وآرائه التي بلغت من وضوحها وتحديدها تقترب من اليقين في عقله، وجعلته يراها واضحة بذاتها لأهل عصره لمن ينظر فيها كما ينبغي في حين أن الأمر لم يكن كذلك. والالتباس أخيرا كان بسبب الخوف على المصالح لدى البعض، والذي أنتج تشويه أفكاره لدى العامة والحكام وجماعة الفقه فحدث الالتباس. وقد لعبت كل تلك الالتباسات دورا هاما في نشأة وتطور وتأجيج الخلاف الذي دام بين السيوطي وكثير من فقهاء ومشايخ عصره.
فالناظر في أول خلافاته مع عالم مكة الكبير وتلميذ والده قاضي الشافعية بها برهان الدين بن ظهيرة المخزومي.. والذي كان يضمر له كل احترام وتقدير… لكنه لما اجتمع به وجد هذا القاضي يراه بغير العين التي يراه بها السيوطي «ويسوقني مساق الطغام الجفاة. وربما قَدّم علي في المجلس من لا أرضى أباه خادمًا لنعلي، ولست ممن يرضى بالذل لأبناء الدنيا، ولا يرضى بذلك من كان مثلي».20 يجد الالتباس بين فهم السيوطي لتعامل هذا الفقيه معه وتعامل الفقيه معه كأحد أبنائه دون قصد إهانته كما ظن السيوطي سيجد آثار الشخصية السيوطية في نشأة الخلاف، ثم استمراره نتيجة لأخذ كل واحد منهما جانبًا وزاد من تفاقمه مشي الأعداء بينهم فدام هذا الخلاف عشرين سنة. وقد رفع الالتباس بمجرد تواصل شيخه معه وطلبه بعض مؤلفاته فعاد الود القديم وخَلّد السيوطي ذلك الخلاف في رسالته لهذا العالم الكبير في كتابه التحدث بنعمة الله.
ونجد أثر شخصيته وحساسيتها لغيرة الأقران كذلك في حدوث الالتباس فيما يحيكه عن واقعة جلوسه لتدريس الفقه بالجامع الشيخوني لما أعلم الناس أن شيخه علم الدين صالح البلقيني بن شيخ الإسلام المجتهد سراج الدين البلقيني سيحضر أول يوم له بالتدريس، «فلم يُصدّق أكثر الحسدة والأعداء».21
وجانب من الالتباس نتج بجانب الغيرة من الجهل بحقيقة ما يدعو إليه السيوطي من ناحية وعدم تصور هؤلاء المخالفين لإمكان تحققه في أحد من فقهاء العصر ناهيك عن تحققه في السيوطي الشاب من ناحية أخرى، فتطور الخلاف لاتهامه بالجنون الهذيان والخرافات كما فعل أحد أقرانه.
في حين نجد بعض جوانب الالتباس ناتجة عن الغيرة الشديدة والحسد والخوف على المصالح كما في خلافه مع ابن الكركي الذي شن عليه حربا لا هوادة فيه لأكثر من ربع قرن.
وتظهر جوانب الالتباس سريعة الزوال في هذا الشيخ الذي تَعجّب من جلوس شاب حديث السن لإملاء الحديث والكلام في رجاله، فلما اختبر علم السيوطي اعتذر منه وشهد له بالعلم والفضل.
خاتمة
لقد اشتبك السيوطي مع غالب قضايا عصره ولو وجد من الفقهاء من يدعمه لكان الأمر غير ما كان؛ فالسيوطي كان يحارب محاربة على كافة الجبهات لله دره وصبره على ما لاقى من محن؛ ليتجدد الدين ويُعلّم المتفقهين ويرد كيد الجاهلين ويذب عن معين الفقه المكين.22
وعلى كثرة كتبه وغزارة إنتاجه وأسلوبه الواضح والبسيط وتناوله لغالب قضايا مجتمعه بكافة فئاته من الأطفال الصغار للنساء للحكام والعبيد والعامة وبالطبع الفقه والفقهاء والمحدثين. إلا أن هذه الثروة الكبيرة والجهود المضنية على مدار ما يقارب من نصف قرن العطاء تَروي قصة فقيه كبير خذله معاصروه ولم يحمله تلامذته كما يجب.. وما زال دعاة التجديد في عصرنا يستطيعون من خلال قراءة متمعنة ومتمهلة لتراث السيوطي اكتشاف أنفسهم ومجتمعاتهم بطرق أكثر انسجامًا مع عصرهم، كما اكتشفها كثيرون من قبل مثل الإمام الشوكاني وغيره.
هامش
- السيوطي، جلال الدين. التحدث بنعمة الله، تحقيق إليزابيث ماري سارتين، تقديم عوض الغباري، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الذخائر رقم 106، ط1، 2003م ص236. ↩︎
- المصدر نفسه، ص247. ↩︎
- المصدر نفسه، ص43. ↩︎
- المصدر نفسه، ص83. ↩︎
- المصدر نفسه، ص164-165. ↩︎
- المصدر نفسه، ص138. ↩︎
- المصدر نفسه، ص203. ↩︎
- يقول في كتابه حسن المحاضرة: «وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى… ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله، لا بحولي ولا قوتي». انظر: السيوطي ، جلال الدين. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الذخائر رقم 258، ط1، 2019، الجزء الأول، ص3339. ↩︎
- السيوطي، جلال الدين. تيسير الاجتهاد، تحقيق فؤاد عبد المنعم، مكة المكرمة، المكتبة التجارية، دون رقم طبعة أو سنة طبع، ص 43. وانظر أيضا: السيوطي، جلال الدين. الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، تحقيق الشيخ خليل الميس، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1983م، ص71. ↩︎
- الشكعة، مصطفى. الإمام جلال الدين السيوطي مسيرته العلمية ومباحثه اللغوية، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، ط1، 1981م، ص65. ↩︎
- الدروبي، سمير. شرح مقامات جلال الدين السيوطي، تحقيق سمير الدروبي، بيروت، مكتبة الرسالة، ط1، 1989م،، ص1003-1006. ↩︎
- السيوطي، جلال الدين. إسبال الكساء على النساء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1985م، ص44. ↩︎
- الشاذلي، عبد القادر. بهجة العابدين بترجمة حافظ العصر جلال الدين، تحقيق عبد الإله نبهان، دمشق، مطبوعات مجمع اللغة العربية، 1998م، دون رقم طبعة، ص171-172. ↩︎
- السيوطي، جلال الدين، التحدث بنعمة الله، مصدر سابق، ص6-7. ↩︎
- السيوطي، جلال الدين، التحدث بنعمة الله، مصدر سابق، ص105-106. ↩︎
- المصدر نفسه، ص106-136. ↩︎
- يحكي تلميذه الشاذلي عن تلك الواقعة فيقول: «اتفق اجتماع الشيخ جلال الدين والشيخ برهان الدين الكركي -رحمة الله عليهما- بجامع السلطان قايتباي بالروضة لصلاة الجمعة، وكان كل منهما بجانب الآخر في الصف الأول خلف الإمام، وكنت أنا خلفهما، فتكلما في مسألة، وإذا بالشيخ برهان الدين احمر وجهه وهز رأسه وقال للشيخ جلال الدين وهو في شدة حنقه وغيظه: “نحن سبقناك للاشتغال بالعلم على المشايخ، وأنت تأخذ العلم بقوة الذكاء من الكتب”. فقال له الشيخ وهو في غاية الرياضة: “العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده”»، انظر: الشاذلي، عبد القادر، بهجة العابدين، مصدر سابق، ص164. ↩︎
- الأنيس، عبد الحكيم، ليس للسيوطي كتاب بعنوان “الديباجة”، موقع شبكة الألوكة، تاريخ الدخول (26/11/2024م)، على الرابط التالي: https://www.alukah.net/culture/0/69596/%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%88%D8%B7%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%B9%D9%86%D9%88%D8%A7%D9%86-%22-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AC%D8%A9-%22/ ↩︎
- السيوطي، جلال الدين، تيسير الاجتهاد، ص 22-23. ↩︎
- السيوطي، جلال الدين، التحدث بنعمة الله، مصدر سابق، ص81. ↩︎
- السيوطي، جلال الدين، التحدث بنعمة الله، مصدر سابق، ص 239-240. ↩︎
- من المقامات التي تتضح لنا فيها سيرته الذاتية “المقامة اللؤلؤية في الاعتذار عن ترك الفتيا والتدريس” و”مقامة الاستنصار بالواحد القهار”، حيث بين لنا في اللؤلؤية سبب تركه الإفتاء والتدريس بقوله: «قد مرجت الأمانات والعهود، وكثر القائلون بالزور والشهود، وجم الاختلاف، وقل الائتلاف، وكذب الصادق، وصدق الكاذب، المائق، وخون الأمين.. وتكلم الرجل التافه في أمر العامة، وتعلم المتعلم لغير العمل، وكان التفقه للدنيا، واستعلى الجهال على العلماء..ولي الدين غير أهله». ↩︎