كيف خطط الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية؟ – الجزء الأول
إن تقسيم الامبراطورية العثمانية وتجزئتها بين الدول كانت قضية أوروبية، وما لا شك فيه أنها كانت العامل الرئيس في نشوب الحرب العالمية الأولى، كما أنها كانت من أعقد المشكلات التي طرحت على رقعة شطرنج السياسة الأوروبية. “المؤرخ العربي زين نور الدين زين”
ويقول الدكتور محمد عمارة: “فهم (أي المستعمرون) يؤيدون المشروع العربي لمحمد علي، فإذا أوشك أن ينجح، وقفوا ضده، مع الإسلام العثماني، ثم هم يناصرون العروبة بالمشرق، ضد إسلام آل عثمان، وفي ذات الوقت يقتسمون الوطن العربي، ويخرجون من الحرب العالمية الأولى بتصفية الخلافة الإسلامية ومشروع الدولة العربية جميعاً، وفي مواجهة الفكر الإسلامي زرعوا العلمانية والتغريب، ولمحاربة المد القومي الناصري سعوا لإقامة الأحلاف تحت أعلام الإسلام”
1-البداية: تخريب ما هو قائم والحؤول دون عودة الروح إليه
لقد ظهرت فكرة مواجهة الدولة العثمانية منذ نشوئها حتى أن وزيراً رومانياً أصدر في سنة 1914 كتاباً بعنوان مئة مشروع لتقسيم تركيا (الدولة العثمانية) عد فيه عشرات المشاريع التي قدمت للباباوات وساسة أوروبا للهجوم على الشرق وتقسيمه بين دول أوروبا والاستيلاء على بيت المقدس منذ نهاية حروب الفرنجة بفتح عكا سنة 1291، وهو ما يشير إلى طبيعة المخططات الغربية المستمرة والتي فرضتها ظروف العداء الموضوعية التي عبرت عنها حروب الفرنجة.
وهذا أمر لا يتعلق بمؤامرات سرية تدبر في الليالي المظلمة بل بتعارض موضوعي فرض نفسه على الأجيال المتعاقبة من الساسة والمسئولين والشعوب أيضاً، وبصعود نجم الدولة العثمانية كان الهدف الغربي هو القضاء على قوتها، وقد استفادت الدول الكبرى كثيراً من الضعف الذي طرأ على الدولة العثمانية التي تخللت جيوشها الظافرة أوروبا فيما سبق ووصلت أسوار فيينا عاصمة إمبراطورية الهابسبورغ، وأرادت لها بريطانيا وفرنسا أن تكون في مرحلة ضعفها حاجزاً في وجه الأطماع الروسية بالإضافة إلى استخدامها سوقًا لترويج البضائع الغربية المصنعة بعد اكتمال الثورة الصناعية.
وقد استمرت سياسة الحفاظ على الأملاك العثمانية واتخذت طابعاً رسمياً في حرب القرم (1853-1856) ومعاهدة باريس التي تلتها (1856)، ولكنها مع ذلك لم تمنع عملية تشجيع الثورات الانفصالية ضد العثمانيين، وفي ذلك يوجز المؤرخ دونالد كواترت القول إن الدول الكبرى لم تكن ترى مصلحة لها في تفكك الدولة العثمانية ومن ثم تعاظم النفوذ الروسي في منطقة البلقان، وإن الكثير من قادة أوروبا
كانوا يخشون أن يؤدي انهيار الدولة العثمانية إلى تهديد السلام الإقليمي وزرع الفوضى التي لا تحمد عقباها، لذلك اتفقوا فيما بينهم على الحرص على وحدة كيان الدولة العثمانية، ويمكن القول بأن موقف هذه الدول الأوروبية كان يتلخص في إجماع هذه الدول على أن مصلحتهم المشتركة تقضي بترك بنية الدولة تتصدع شريطة ألا يؤدي هذا التصدع إلى الانهيار التام إن صح التعبير، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فما من شك أن دعم الدول الأوروبية للحركات الانفصالية والثورات الداخلية قد أسهم في تعجيل انهيار الدولة العثمانية وهو الحدث الذي كان يخشاه الأوروبيون ويسعون لتجنب وقوعه.
ثم غيرت بريطانيا سياستها بعد الحرب الروسية العثمانية (1877-1878) في مؤتمر برلين الذي تلاها (1878) لتتجه نحو اقتطاع أجزاء من الدولة العثمانية وتقسيمها على مهل بين الحلفاء فاحتلت هي جزيرة قبرص (1878) ومصر (1882) واحتلت فرنسا تونس (1881) واحتلت النمسا البوسنة والهرسك (1878) واستقل جزء من بلغاريا.
ويحلل بعض المؤرخين سبب هذا التغير في السياسة البريطانية بالقول إن بريطانيا فقدت الأمل في شفاء “الرجل المريض” بعد هزيمته أمام الروس في حرب 1877 التي جعلت الساسة الإنجليز يعتقدون أن معارك هذه الحرب أثبتت بجلاء أن المحاولات العديدة التي بُذلت طوال القرن التاسع عشر لتمكين الدولة العثمانية من البقاء دولة قوية متماسكة الأجزاء، إنما هي سياسة عقيمة وأنها مضيعة للوقت والجهد والأموال والأرواح، وأن بقاءها دولة متداعية يؤلف خطراً جسيماً على المصالح البريطانية ويفسح المجال للنفوذ الروسي؛ ولذلك قررت بريطانيا تطوير سياستها واتباع سياسة جديدة تقسم بموجبها الممتلكات العثمانية وتستأثر لنفسها بالمناطق الواقعة على طريق الهند وتصلح لضمان الوصول إليها.
وسنرى أن قوة الدولة العثمانية لم تكن أولوية حقيقية لدول أوروبا وأن هذه الدول فضلت مصالحها المادية على بقاء الدولة وأنها شجعت الحركات الانفصالية التي استنزفتها ومن ثم لا يمكن أن تكون النتيجة النهائية لهذا الدعم إلا مزيدًا من الضعف ولم يكن لأوروبا حق في التعجب من استمرار التراجع العثماني بعد كل جهودها في استنزافها اقتصاديًا وعسكريًا الأمر الذي يجعل العجب من الاستمرار العثماني وليس من هزيمة الدولة وتراجعها، وكيف يمكن القول إن أوروبا كانت تعمل لتقوية الدولة العثمانية وتتجنب انهيارها وفي نفس الوقت تشجع الحركات الانفصالية وتستنزف الاقتصاد العثماني كما سيأتي؟
2-بقاء الدولة العثمانية مع ضعفها لم يكن الأولوية الأولى للغرب
وكانت دول أوروبا وبخاصة بريطانيا تفضل مصالحها التجارية على مصلحتها في استغلال بقاء الدولة العثمانية ولو بصورة هزيلة، وقد تجسد هذا التعارض الموضوعي في المصالح في وقوف الغرب الأوروبي ضد كل مشاريع الإحياء التي نفذتها أو حاولت تنفيذها دولة الخلافة مثل: فكرة الجامعة الإسلامية، ومشروع سكة الحجاز أو سكة حديد بغداد، أو مشاريع الإصلاح الاقتصادي والقضائي التي مست الامتيازات الأوروبية في الدولة العثمانية.
حتى أن السلطان عبد الحميد الثاني تمنى في سنة 1902 أن تحظى دولته بفترة هدوء لمدة عشر سنوات فقط تتوقف فيها مؤامرات الدول الكبرى عليها ليتمكن من السير في الطريق الذي سارت فيه اليابان البعيدة عن “الوحوش الأوروبية الكاسرة” التي صرف العثمانيون الملايين على إخماد مؤامراتها بدل “أن تصرف على مشاريع حيوية نستفيد منها“.
ولم يكن تصدي الغرب لهذه المشاريع من باب الشر المحض الذي يبغي إلحاق الأذى بالآخرين بلا سبب، بقدر ما كان تعبيرًا عن التناقض الموضوعي بين مصالح كيانات الغرب ونهضة كيان يجمع بلاد الشرق تحت لواء واحد، وبدا هذا التعارض أيضًا في سياسة التصدي العنيف لأية محاولة نهضوية في البلاد العثمانية كما حدث مع نهضة محمد علي باشا في مصر والتي لاحظ كثير من المؤرخين وقوف أوروبا في وجه طموحاتها بعنف.
وفي ذلك يقول كواترت:
إن الدول الأوروبية لم تكن لتسمح بظهور دولة مصرية قوية وما يترتب على ذلك من اختلال ميزان القوى الذي كانت الدول الأوروبية تود المحافظة عليه
ويقول بيتر مانسفيلد: إن محمد علي كان بوسعه تحدي السلطان وانتظار سقوطه لكن بريطانيا فضلت أن تبقي على الإمبراطورية مترابطة على أن تكون مجزأة يسهل ابتلاعها من قبل المتمردين والمنافسين، ولذلك لم تكن متحمسة لإحلال قوة إسلامية توسعية متحركة محل الامبراطورية العثمانية، وكان هذا بالضبط ما يقلق قادة الدول الأوروبية، وقد صممت بريطانيا آنذاك على إحباط طموحات محمد علي بإفشال كل المساعي السلمية ورفض قاطع للعرض الذي تقدم به للاتفاق مع السلطان رغم أنها كانت من شجع الوالي نفسه على الثورة على العثمانيين، ويشير مؤرخ ثالث إلى أن بريطانيا أحبطت جهود محمد علي لكونها لا تريد تكوين إمبراطورية إسلامية جديدة لاسيما واحدة تحاول إيجاد قاعدتها الصناعية الخاصة.
وقد ظهر التعارض بين القوى الغربية وقوة الشرق العثماني في الزحف التدريجي واحتلال البلاد العثمانية الواحدة تلو الأخرى في سياسة اتخذت من فكرة الاستقلال قناعاً لفصل الولايات عن الدولة تمهيداً لوقوعها في براثن الهيمنة الغربية كما حدث للجزائر وتونس ومصر وبلدان الخليج، ثم مع القومية العربية كلها بإثارتها بفكرة الاستقلال العربي والخلافة العربية تمهيداً لاحتلال شرق المتوسط بعد إعلان الثورة العربية ونهاية الحرب الكبرى الأولى.
3-مناوأة منصب السلطنة العثمانية ومحاولة نزع الخلافة الإسلامية منها ضمن جهود بريطانيا للقضاء على الخلافة
يلاحظ زعيم الوطنيين المصريين وداعية الجامعة الإسلامية مصطفى كامل باشا أن جهود أعداء الدولة العثمانية لتأسيس خلافة عربية تأتي في إطار محاولتهم القضاء على هذه الدولة التي تخشى أوروبا من قوتها ونفوذها وأعداء الإسلام يودون أن يزول اسمها من الوجود حتى تموت قوة الإسلام وتقبر سلطته السياسية وتقوم بدلاً من الدولة العثمانية خلافة تكون ألعوبة في يد إحدى الدول الكبرى.
ورأوا أن فصل الخلافة الإسلامية من السلطنة العثمانية يضعف الأتراك ويقتل نفوذهم بين المسلمين ويجعلهم أمة إسلامية عادية، وقد تلقف الإنجليز مشروع الخلافة العربية لأنهم أدركوا أن احتلالهم الأبدي لمصر سببًا للعداوة بينهم وبين الدولة العثمانية لأن السلطان العثماني لا يقبل مطلقًا الاتفاق معهم على بقائهم في مصر، وأن خير وسيلة تضمن لبريطانيا البقاء في مصر ووضع يدها على وادي النيل هو هدم السلطنة العثمانية ونقل الخلافة الإسلامية إلى أيدي رجل يكون تحت وصاية الإنجليز وآلة في أيديهم، ولهذا أخرج ساسة بريطانيا مشروع الخلافة العربية .
وقد أثبتت الأيام صحة تحليل الباشا، فقد استمرت بريطانيا في تبني مشروع الخلافة العربية إلى أن حفزت إعلان الثورة العربية ضد العثمانيين سنة 1916 تحت شعار عودة الخلافة للعرب، بل إنها عمدت بعد اندلاع الحرب الكبرى سنة 1914 إلى إنهاء السيادة العثمانية على مصر وخلع الخديوي عباس حلمي الثاني من منصبه بحجة ارتباطه بالعثمانيين، ونصبت عمه حسين كامل سلطانًا على مصر لمناوأة منصب السلطنة العثمانية.
بعد التفصيل في كيفية إسقاط الغرب للخلافة، يُحبذ الكتابة أيضا عن “كيف يمنع ويحارب الغرب إعادة الخلافة”، لأن هذا هو لب الصراع اليوم الذي يغفل عنه الكثيرون، فيجب الوعي على أدوات الغرب لمنع إقامة خِلَافَة على منهاج النبوة