تبعات الانفصال العربي عن الخلافة العثمانية_الجزء الثاني

كيف أضرت هويات التجزئة بأصحابها؟
(مصر وشمال إفريقيا)

●مصر

وكانت الرغبة في بسط الحماية الفرنسية على مصر هي السر في تشجيع الفرنسيين ولاة مصر على التحرر من السلطة العثمانية[18]، كما دعمت بريطانيا الميول الاستقلالية لورثة محمد علي ابتداء من عباس باشا الذي ساندته ضد تطبيق القوانين العثمانية في مصر[19]بعد أن استفادت من المركزية العثمانية نفسها في تحطيم تجربة جده النهضوية التي استفادت منها بدورها مع بقية أوروبا في “زعزعة أركان الدولة العثمانية وفي رفع مستوى تدخلها المباشر في شئون السلطان العثماني”[20] ومن العجيب أن عباس باشا “كان يحتقر جهاراً الثقافة الغربية ويمقت الأوروبيين، إلا أن هذا لم يعفه عن الخضوع إلى التعليمات الواردة من إنكلترا”[21]، التي مهدت الطريق بكل ذلك لاحتلال مصر عسكرياً مستفيدة بصورة خاصة من النزعة الاستقلالية عند الخديو إسماعيل فيما بعد عباس بالإضافة إلى نزعته التغريبية التي نفرته من العثمانيين وقربته من أوروبا وجعلته يقوم بـ”إصلاحات” تغريبية أوقعته في فخ الاستعباد المالي الأوروبي قبل الاحتلال.

الفخ الذي سهل الاحتلال
وكان استقلال مصر عن دولة الخلافة والذي احتفى به الخديو بتأييد من أوروبا هو الذي جعلها تواجه الأطماع الأوروبية وحيدة ومن ثم تقع في فخ الاحتلال وهو مصير تجنبته الدولة العثمانية بسبب وزنها الدولي حتى بعد إفلاسها المالي ووقوعها تحت نفس الظرف الاقتصادي الذي وقعت فيه مصر، وبعد وقوع الاحتلال حوّل مصر إلى زراعة المحصول الواحد (القطن) لتلبية الحاجات الصناعية البريطانية بدل زراعة القوت التي كانت تكفي المصريين ذاتياً، وكان هذا الإجراء البريطاني تمهيداً “لجملة المشكلات التي كانت مصر ستبتلى بها في القرن العشرين”[22]وفقاً للمؤرخ الاقتصادي إريك وولف.

ولما تأزمت العلاقات العثمانية البريطانية بسبب رغبة الاحتلال في ضم سيناء إلى مصر والرغبة العثمانية المناقضة وقف شعب مصر خلف تيار الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل باشا إلى جانب الموقف العثماني[23]، وفضل أن تخرج سيناء من الحدود المصرية وهي حرة على أن تدخل في دائرة الاحتلال البريطاني مع مصر المبتلاة بالإنجليز.
وهو موقف منسجم مع الهوية الإسلامية الجامعة التي كان المصريون يفكرون بها ولا يفرقون بين أقطار الإسلام ويرغبون في النأي عن هيمنة الاحتلال ويفضلون الأخ المسلم على المحتل الأجنبي، وهذا ما دعا أنصار الوطنية المعاصرة لاستنكاره بحجة الانتصار للهوية المصرية، ولو كانت خدعة بريطانية للهيمنة على سيناء.

فتصوير المشكلة بأنها تناقض بين مصالح عثمانية ومصرية واستبعاد البعد الاحتلالي البريطاني منها، كما حلا للتغريب رؤية المشهد[24]، قصور واضح في فهم الواقع يؤدي إلى الاصطفاف البائس مع المحتل وتخيل وجود جبهة مصرية-بريطانية موحدة، وتصوير المحتل بصورة المدافع عمن يحتل هو أرضهم ويسبب المشكلة الرئيسة لهم[25]، كما يؤدي إلى:

1_ القبول بتسليم البلاد إلى المحتلين وتصور الخطر آتياً من الأشقاء
 وهذا ما حدث عندما قام الألماني بول فريدمان بمحاولة استيطان يهودي في شمال غرب الجزيرة العربية وهي منطقة كانت تحت السيادة المصرية (1891-1892) فلجأ عربان المنطقة إلى الحكومة المصرية لتساعدهم على التخلص من هؤلاء الغرباء المزعجين ولكنهم رجعوا دون أن يستمع إليهم أحد من رجال الحكومة فلجئوا إلى الدولة العثمانية حيث أصدر والي الحجاز أمره لأحد الضباط بمعالجة الوضع واحتلال قلعة المويلح في تلك المنطقة، ويعلق الدكتور صبري أحمد العدل على المشهد بقوله:
“ولكن الغريب في الأمر أن ممثلي الإدارة المصرية في سيناء، لم يثرهم تواجد فريدمان، وإنما اختراق والي الحجاز الأراضي المصرية حيث أرسل سعد أفندي رفعت، قومندان القلاع الحجازية برسالة إلى سردارية الجيش المصري يوضح بها الكيفية التي حضر بها محافظ الوجه بقصد الاستيلاء على قلعتي المويلح وضبا التابعتين للحكومة المصرية، ومحاولته منع هذا الاستيلاء، ومنع انتهاك السيادة المصرية”، ثم تخلت بريطانيا عن دعم مشروع فريدمان “لتجنب الاصطدام مع الدولة العثمانية”[26]، وبهذا يتضح عوار المنطق المتستر بالمصالح الوطنية الضيقة ولو كانت بالاتفاق مع المحتلين ضد مصالح الأمة الكلية التي هي الوحيدة الكفيلة بحراسة الجميع.
2_ نظرة غير تاريخية تسقط الحاضر الوطني التغريبي على الماضي
حين كان الشعور إسلامياً ومن ثم كان المسلم يفضل أن يكون وطنه تحت سلطة خليفة المسلمين على أن يكون تحت احتلال الأجنبي، وإن موقف الدولة العثمانية من مشاريع الاستيطان اليهودي في سيناء يؤكد أن همها لم يكن اقتطاع الأراضي المصرية بل استبعاد أخطار التدخلات الأجنبية، ولهذا احتمت الحكومة المصرية بالموقف العثماني عندما رفضت مشروع هرتزل للاستيطان اليهودي[27].
ولما قامت الحرب الكبرى الأولى سنة 1914 قامت بريطانيا بإعلان الحماية على مصر رسمياً وقطعت علاقاتها الاسمية حتى ذلك الوقت بالدولة العثمانية وسخرت جميع الإمكانات المصرية وأنهكتها مادياً ومعنوياً في سبيل الحرب[28]التي لم يكن لمصر فيها ناقة ولا جمل، ومن ذلك أنها خلعت الخديو عباس حلمي الذي شاكس المحتلين ونصبت عمه حسين كامل سلطاناً على مصر ليناوئ ويقارع بهذا اللقب منصب السلطنة العثمانية التي كانت في حرب مع الحلفاء، وقد عبر المصريون عن رفضهم لوضع السلطان الألعوبة، الذي يستمد سلطته من الإنجليز بعدما كان الخديو يستمدها من الخليفة[29]، بمحاولة اغتياله مرتين بالإضافة إلى محاولة اغتيال رئيس وزرائه وأحد وزرائه أيضاً [30]، كما أطلقوا على كثير من مواليد سنوات الحرب أسماء الزعماء الأتراك أنور وجمال وطلعت (وكان من هؤلاء المواليد رئيسا مصر فيما بعد وشقيق أحدهما)، ومن الطريف أن منصب السلطان المصري هذا الذي أعلنه الإنجليز منحوه صلاحيات أقل من صلاحيات منصب الخديو[31]، رغم التفخيم اللفظي، وهي سمة لازمت دول الاستقلال والتجزئة التي أصبحت ألقاب حكامها ألقاب مملكة في غير موضعها كالقط يحكي انتفاخاً صولة الأسد، كما يقول الشاعر ابن عمار الأندلسي، وقد رفض ابن السلطان حسين أن يخلف والده بعد وفاته[32].

وخلاصة الأمر أن ترفيع مصر إلى مقام السلطنة كان غطاء لاحتلالها وتسخيرها لحاجات بريطانيا الحربية، ولهذا وجدنا شعب مصر للمرة الثانية لا تبهره الإجراءات البريطانية ولا تؤدي إلى انخداعه بالمكانة الوهمية التي أسبغها الاحتلال عليها باسم الوطنية، وذلك لكونها مضادة لهويته الإسلامية الجامعة التي تتضمن مصالحه الحقيقية في الوحدة والاستقلال عن الاستعمار، وفضل الوقوف إلى جانب الخلافة العثمانية على تأييد سلطنة مصرية خاضعة للاحتلال، ولما انتهت الحاجة منها ألغيت هذه السلطنة في نفس العام الذي ألغيت فيه السلطنة العثمانية (1922) لتقوم بدلاً منها المملكة المصرية غطاء لشكل جديد من الهيمنة البريطانية تحت عنوان مزيف هو الاستقلال المتحفظ عليه والذي جعل مصر مرة أخرى في الحرب الكبرى الثانية تسخّر كل طاقاتها لأجل المجهود الحربي البريطاني[33]، وبهذا كانت المصالح الاستعمارية وراء تكوين الكيان المصري المستقل عن محيطه الإسلامي، وقد أضر هذا الإجراء بأهل مصر ذاتها من عدة جوانب ووضع مواردها في خدمة الأجانب، ومن صور هذا الاستغلال المادي أنه بمجرد أن اندلعت الحرب (الكبرى الأولى) وقع الجزء الأكبر من عبء دعم مصر للبريطانيين على الطبقة العاملة،
صودرت المحاصيل لدعم المجهود الحربي،
وجُند الفلاحون في فرق عمل تزود الجبهة الغربية بالدعم اللوجستي،
وأدى التضخم ونقص البضائع إلى انخفاض مستوى معيشة جميع فئات الشعب، وصار كثير من المصريين في حالة عوز”[34]، ويجب أن نتذكر أن هذه الحرب كانت حرب بريطانيا التي أعلنت أنها تتحمل أعباءها على عاتقها ولا تسعى لالتماس معونة مصر[35]، ولم تكن لمصر بها أي مصلحة بل لقد أُجبر المصريون على قتال إخوتهم المسلمين، كما سيق أبناء المستعمرات البعيدة لسفك دمائهم في سبيل الأمجاد الاستعمارية.

●تونس

وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تدعم التغريب المركزي في الدولة العثمانية، شجعت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا الباي التونسي مادياً لدفعه بعيداً عن المركز العثماني[36]، ودافعت فرنسا عن فكرة استقلال تونس عن الدولة ممهدة الطريق لاحتلالها العسكري بعد إصلاحات تغريبية قام بها الباي بتشجيع أوروبي مهد الطريق للاستعباد المالي الذي استدعى الاحتلال الفرنسي[37]، وسنجد الدفاع عن النزعات الاستقلالية عن الجسم الأكبر نموذجاً متكرراً في السياسة الاستعمارية يخفي وراءه رغبة جامحة في السيطرة على الأقاليم التي تستقل عن هذا الكيان الواسع.
اتخذ حسين باي الثاني علماً مميزاً عن العلم العثماني (1827) ليؤكد استقلاله عن الدولة العثمانية فكانت النتيجة أن استفرد الفرنسيون بتونس واحتلوها وأضافوا علم فرنسا إلى علمها طيلة مدة الاحتلال (1881-1956)، وكان كل ما وقع على تونس من أضرار الحماية الفرنسية نتيجة هذا الميل الاستقلالي.

●مفارقة التبعية والاستقلال في ولايات شمال إفريقيا العثمانية

في ظل (التبعية الرسمية) للخلافة العثمانية
تمتعت ولايات شمال إفريقيا (باستقلال فعلي) وقوة إلى درجة فرض أمرها على الغرب الذي كان يدفع لها الأتاوة صاغراً، وكان يوسط السلطان العثماني لتهدئة ولاياته التي لا تلتزم أحياناً بتعليماته.
أما في ظل (الاستقلال الرسمي)
الذي أنتج كثيراً من الفخامة اللفظية والهويات المعتزة في غير موضعها فقد فرض الغرب على جميع دول التجزئة (التبعية الفعلية) له في جميع شئون الحياة.
النتيجة: أن التبعية الرسمية لدولة الوحدة الكبرى أفضل من الاستقلال الرسمي والهويات المتكاثرة كالفطر لدول التجزئة المجهرية.

●الهوامش
[18] -تيودور رتشتين، تاريخ المسألة المصرية 1875-1910، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1950، ترجمة:عبد الحميد العبادي ومحمد بدران، ص6.
[19] -الدكتور محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914)، مكتبة الأنجلة المصرية، القاهرة، 1993، ص225.
[20] -نائلة الوعري، دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين 1840-1914، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان ورام الله، 2007، ص34.
[21] -لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار الفارابي، بيروت، 2007، ص171.
[22] -إريك وولف، أوروبا ومن لا تاريخ لهم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2004، ترجمة: فاضل جتكر، ص 406.
[23] -رءوف عباس، صفحات من تاريخ الوطن، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2011، تحرير: عبادة كحيلة، ص 215.
[24] -ألفت احمد الخشاب، تاريخ تطور حدود مصر الشرقية وتأثيره على الأمن القومي المصري 1892-1988، دار الشروق، القاهرة، 2008، ص169-170.
[25] -د. صبري أحمد العدل، سيناء في التاريخ الحديث (1869-1917)، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2004، ص164.
[26] -نفس المرجع، ص180-182.
[27] -نفس المرجع، ص192.
[28] -لوتسكي، ص407-410.
[29] -يوجين روجان، العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2011، ترجمة: محمد إبراهيم الجندي، ص 210.
[30] -لوتسكي، ص 411.
[31] -دكتور عبد اللطيف بن محمد الحميد، البحر الأحمر والجزيرة العربية في الصراع العثماني البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، مكتبة العبيكان، الرياض، 1994، ص152.
[32] -أحمد شفيق باشا، حوليات مصر السياسية-التمهيد (1)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012، ص 148.
-رءوف عباس، ص 105.
[33] -رءوف عباس، ص 232 و 246.
[34] -يوجين روجان، ص 210.
[35] -لوتسكي، ص 407.
[36] -سعد محيو، مأزق الحداثة العربية من احتلال مصر إلى احتلال العراق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص77.
-هاري ماجدوف، الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى اليوم، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981، ص65.
[37] -لوتسكي،ص203-204.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى