هل جنت الحركات الإسلامية على أبنائها؟

لم يعد هناك شك أن الأحداث الموجعة التي مرّت بها أمتنا خلال العقد الأخير قد أثّرت على الصغار والشباب الذين شاهدوها أو عاشوها بأنفسهم والتهبوا بنيرانها حتى انقلب منهم من انقلب واضطربت حركة من اضطرب وفقد تمييزه بين الحق وخلافه منهم عدد لا بأس به.

وكان أكثرهم تأثرًا وتغيرًا أبناء الحركات الإسلامية الذين نشئوا في ظلّها وتأثّروا بفكرها ومسيرتها وكانوا يرونها الأقدر على إحداث التغيير وإخراج أمتهم من أزمتها، ثم تبين لهم بعد حين أنها بشكل أو بآخر كانت جزءًا من أزمتها، حتى رأينا من خرج منها لا يكفر بها وحدها، بل بعقيدته التي كانت هي عنوانًا له. ورأينا كذلك من أحدثت تغييرًا كاملًا بمظهرها يُناقض ما كانت عليها لسنوات عمرها السابقة وكأنها تُلقي وراءها بما كان رمزًا وسمةً مميزة لنسائها وتتخلص من كل ما كان ذا أثرٍ سابقٍ لها.

فهل كانت الحركات الإسلامية ذات جناية على أبناءها حقًا؟

لاريب أن هناك ممن تربى في تلك الحركات فتزكت نفسه وعرف غايته، ولم تَزِدْهُ الحوادث والسنون إلا يقينًا بربه ودينه، لكن حديثنا هنا عن ظاهرة ظهرت آثارها جليّة خلال سنوات التغيير الماضية والتي شملت نفوسًا وقلوبًا وعقولًا كنا نظنّها ذخر الأمة ونور بصرها فإذا هي تنقلب ضدها أو على الأقل تنعزل شعوريًا عنها وعن كل ما يقترب منها. فإذا نظرنا إلى واقع الحركات الإسلامية وما نتج عنه، نجد أن جزءًا من أزمتها يتمثل في العناوين التالية:

أنها لم تبني أبنائها لأنفسهم وإنما للناس: ربما كانت المناهج والأدبيات تدعو إلى التوازن وبناء النفس جنبًا إلى جنب مع البذل للآخرين، لكن الواقع كان غير ذلك. فلقد نشأت أجيال تقدّم للآخرين ذوب نفسها وهى بعد لم تمتلئ روحًا ونفسًا من الزاد الإيماني ولم تمتلك تلك الطاقة النفسية العالية التي تحفظ لها إناءها سليمًا معافىً مهما تعرض للخدوش والإصابات. وإن النفس مهما علت لتحتاج بين الحين والآخر أن تتوقف وترى إن كان قد نفذ معينها من المجاهدة والصبر وإن كانت على طريق يضمن لها السلامة ويحقق لها الغاية، أم ضلّت بها السبل وتفرقت. ولم يكن هذا متوفرًا في غالب الأحيان في أفراد تلك الحركات فقد كان إيقاعها متسارعًا متوجهًا للتأثير والإصلاح  أكثر من التزكية والصلاح. 

عزوفها عن الاعتراف بالخطأ: لم يتعلم أبناء الحركة أنه لا بأس أن نخطأ، مما جعل أبنائها ينظرون على الأخطاء على أنها سقوط دام لا قيام بعده، كما قد تشكل في وعى كثير منهم أن حركاتهم لديها من الوعي بالتاريخ وبخصوم الفكرة ومن قدسية المبادئ ما يجعلهم أقل عرضة للأخطاء الكبيرة وللسقطات المزلزلة، فلما انتهى الأمر إلى مفرق طريق مغرق بالدماء والآلام رأينا من يسرع الهرب من اتجاه ظنه ربانيًا خالصًا لاتجاه مضاد تظهر فيه نوازع النفس البشرية ونقائصها، بل تطلق العنان لها وتسرف في الانحدار تعويضًا عن خيبة الآمال التي حملوها سنى صباهم ونشأتهم، وعن الصدمات الموجعة التي لم يستعدوا لها. 

الاندماج والانفصال: كيف كانت تتعامل الحركة الإسلامية مع مجتمعاتها؟ اضطرت الحركات أن تقيم بينها وبين الآخرين سورًا يحميها من شعور الاغتراب والاختلاف المميز، فنشأت أجيالٌ لا تقوم بينها وبين مجتمعها صلاتٌ حقيقيةٌ، بل يكاد يكون كل ما يربطها به علاقات المنفعة والضرورة. لم يكن ذلك هو السائد مع الجميع لكنه كان ملحوظًا في كثيرين أحسّوا بالبعد الفكري، فأتبعوه ببعد وجداني أثّر على فهمهم لجموع النّاس وحسن تواصلهم معهم. ولعل الأولى كان أن يتم التعاون بين الأفراد المنتمين إلى تلك الحركة ذلك التعاون الذي يكون بين فريق عمل أو صحبة خير تتواصى على الحق والصبر ثم يتفاعلون مع المجتمع بلا تمييز ولا فصل يسبب إرباكًا وقلقًا.

حمّلتهم أحلامًا لا تتناسب مع طاقاتهم وواقعهم: عندما ترى قصص الصغار وأحلام الناشئين الذين نشئوا في ظل تلك الحركات تجد أنها من السمو والرفعة وعلو الهمة ما تسعد به الأمة وتشد به على أيدي المربّين والمصلحين. لكن تلك الأحلام الغالية الثّمن كانت تسري في مجتمع لا يملكون فيه قنطيرًا من التغيير، بل إن أي حركة خارج الإطار المرسوم كانت تقابل بالإقصاء التام وتصل إلى التهديد بإنهاء الوجود، فهل كانت تلك الأماني العذبة بتحرير القدس ورفع شأن المسلمين والنهوض بها في كافة المجالات تصلح وحدها ومع الجميع؟ ربما لو كانت الأحلام واقعية تغرس فيهم القيم التي يحتاجونها لتحقيق تلك الأحلام مع فهم سنن الله في كونه كسنة التدافع والتدرج وتغيير ما بالنفس أولًا لنفعهم ذلك حين ثارت الزوابع وغامت الرؤية. ولا يعني ذلك أن ينصرف الشباب عن هموم الأمة أو أن تتدنى همته وأحلامه، إنما نقصد هنا الأحلام التي لم ترافقها خطة ولم يصحبها إعداد فصارت شعارات تُحفظ وأناشيد تُلقى وحماسة ترتفع ثم تخبو حين تصحو على واقع أليم. 

هل يمكن إصلاح الخلل الذي أصاب الأبناء أو تجاوز الأزمة التي وقعوا بها؟

مثلما تكتشف الأم التي كبر أبنائها وشبّوا عن الطوق أنهم تأثروا سلبًا بطريقة تربيتها الخاطئة والتي مارستها إما دون قصد أو عمد وإما لأنها لم تعرف غير ذلك، ربما تشفق على نفسها من الاعتراف بما وقع منها من أذى وبما أدّت إليه طريقتها من ندوب وقروح قد يكون من العسير علاجها، أو قد تحتاج إلى إدراك ووعي بما كانت خلال رحلتها معهم وهو ما قد يصعب عليها رصده وتحديده فلا يكون منها إلا لوم الأبناء أو التأسّف لحالهم. 

لذلك يكون من الأجدى أن يلتفت الأبناء إلى أنفسهم فيعالجون ما أصابهم في النفس والفكر والسلوك، ويبحثون بأنفسهم عن موضع الخلل في ذواتهم ليستردوها ويستردوا معها طمأنينة النفس وقيامها بمهمتها، أو يلتفت المحبّون الكرام ممن يدركون سرّ الخواء ويأسفون له ويرون بعين الخبير المختص أثر الجراح وموضع الألم، فيقبلون بالتعليم والتوجيه واحتواء القلوب.

وهنا لفتات قد تفيد

يحتاج الشباب إلى تقبّل ما وقع في السنوات الأخيرة من آلام سحقت القلوب والنفوس، سواء من التيار الذي انتسب إليه يومًا أو منه هو أو من مجتمعاتهم التي وأدت كل بادرة للإصلاح، وإلى التعامل معه كمرحلة من مراحل التاريخ التي مرت على أمتنا أمثالها. وأن يدركوا أنه مهما كانت أخطاء مدارسهم الفكرية أو تياراتهم فعليهم وحدهم مسؤولية استنقاذ أنفسهم، فلن يخسر أحد سواهم إذا تَرَكُوا أنفسهم للحوادث تقلبهم كيف تشاء.

العودة للقرآن ففيه أمثال تلك الحوادث وفيه الدروس والعبر، ولو بذل أصحاب الدعوات أعمارهم ليضعوا مناهج لإصلاح النفوس ووضعها على طريق الفلاح والفوز والسعادة لما أحدثوا ذلك الأثر الذي تصنعه آيات القرآن لو أحسن فهمها وتدبرها. فليكن لهم وللجميع غوصٌ في الآيات ومعايشةٌ للحوادث وقراءةٌ في السنن، فسيجدون فيها لاريب الإجابات للأسئلة المعضلة والردود على الشبهات المهلكة، والراحة للنفوس المتعبة.

من المهم لشبابنا فهم حاجتنا أولًا لتعبيد طريق الأحلام والأمنيات الكبيرة، وأهمية دراسة الواقع وفهم ما ينطوي عليه من معوّقات قد تقتل الهمم وتذهب باليقين، فالوعي بما سيلقى الإنسان في طريقه يسهّل مهمته حين يأتي أوان خوضها. كما سيكون مفيدًا فهم أن الأحلام الصغيرة تصنع الأحلام الكبيرة بل تكاد لا تقوم بدونها، فلا بأس أن نمضى بجزء صغير من الأهداف ولا بأس أن يأخذ كل منّا حصته من الأحلام الكبيرة التي كانت -ولو صغرت وتضاءلت- ويسلك بها الدرب الأصلح له فسيصل يومًا وتكون لبنة أو نصفها في بناء لابد سيرتفع يومًا.

يحتاج أصحاب الهمم والدّعاة الصّادقين والمهتمّين لأمر أمتهم أن يدركوا الأثر النفسي الذي تركته الحوادث المتتالية والذي يتطلب صبرًا وجهدًا وهمًّا يخلف عملًا دائبًا في الاستماع والتوجيه وإزالة آثار الحفر التي خلّفتها الجراح المتطاولة، فلا يحّملوا الشباب فوق طاقتهم ولا يطلبوا منهم ما عجزوا هم عنه، وأن يكونوا أكثر فهمًا لفعل الأيام والحوادث التي لا يمحى أثرها بين يوم وليلة، بل تعوزها السنون وتبدّل الأحوال.

المراجعة واستخلاص الدروس وفهم العبر من كل ما وقع أساس في فهم السنن وضروري في إحداث التغيير، وبدونه لا تتقدم الأفراد ولا المجتمعات خطوة بل تبقى تراوح مكانها أو تتراجع ويخمد ذكرها. والمراجعة وقراءة الأحداث قراءة واعية لا تعنى الجلد بسياط التأديب وليست كذلك تعنى إيجاد الأعذار أو توضيح المسلّمات، بل الغاية أن تظهر مواضع الخلل وأماكن الثغرات وأسباب الوقوع المتكرر في ذات الحفر. ولعل من بقى من تلك الحركات وأبناءها والمهتمون لأمرها، بل وجميع من يهتم بأمر الأمة أن يحرص على استرجاع الأحداث بعبرها ودروسها ليقي نفسه أولًا ومن يأتي من بعده السير في تلك المنحنيات المتعرّجة والسّبل المتشعّبة.

قد يكون ما حدث مؤلمًا، وقد يكون تغيّر الشباب وتأثّرهم سلبًا موجعًا لكنه يكفى أنه كان سببًا في النظر والبحث وإنارة الضوء ليدرك كلٌّ أخطاءه وقصوره، ولنعلم أنه لا يصمد في العواصف الهوجاء إلا السفن التي تعهدت أساسها بالإصلاح والرعاية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الحركات الاسلامية في الشيشان وافغانستان والعراق وسوريا وسيناء وليبيا ونيجيريا ومالي جميعها محارق مفخخة لشباب الصحوة المتسرعين والمتهورين المخدوعين بالخطب الرنانة تحت تاثير الوعود الربانية التي ليست محل شك وانما الهدف من تلك المحارق هو وأد الصحوة الاسلامية قبل ان تشكل صحوة حقيقة يكون في امكانها بسط شريعة الاسلام على الكافة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى