أسانيد ثلاثيات السلسلة الذهبية
عِلم الإسناد علمٌ لم تعرفه البشرية من قبل إلا على أيدي أصحاب الحديث، الذين وضعوا له أسسًا وقواعد في دقة عالية بهرت العقول السابقة واللاحقة، واعترف بسبقه كل من اهتم بالدراسات الإسلامية بصفة عامة وعلم الحديث الشريف خاصة؛ حتى عُد هذا العلم من خصائص التثبت في علوم الشريعة، وأصبح من أهم ما تميز به النقل للشريعة الإسلامية.
والإسناد أو السند: هو سلسة الرجال الموصلة للمتن (أي القول أو الخبر)، وسُمِّي سندًا، لاعتماد الحفاظ عليه في الحكم على المتن بالصحة أو الضعف.
ولأهمية علم الإسناد قام المحدثون والمشتغلون بعلم الحديث، رحمهم الله، بجهود كبيرة مضنية وجبّارة، في سبيل وضع الضوابط والقيود لنقلة ورواة الأحاديث ورجال الأسانيد؛ ليميّزوا ما يؤخذ من أخبار الرجال وما لا يؤخذ، فوضعوا العديد من المصنفات والمؤلفات التي تعتني بما عُرف في علم الإسناد بعلوم الجرح والتعديل وطبقات الرواة وتمييزهم، وفي الوفيات، وغير ذلك من معرفة الرجال ودقة حفظهم وصدق نقلهم وسلامة عدالتهم.. إلخ
الإسناد من خصائص العلوم الإسلامية
يعتبر حفظ وتدوين الحديث النبوي الشريف بالسند المتصل خصيصة فريدة اختص الله بها الأمة الإسلامية دون غيرها من الأمم، فنحن نرى الأمم التي بعث الله فيها الأنبياء والرسل عليهم السلام كلها على مدى التاريخ فقيرة لا تملك مصدرًا من مصادر الحديث المسند عن أنبيائها ورسلها حيث انقطعت الصلة بينها وبين أنبيائها نقلاً وتاريخيًا، وفقدت الحلقة التاريخية الموصلة إليهم بسبب افتقارها لعلم السند، الذي تفردت به الأمة الإسلامية في نقلها عن نبيها صلى الله عليه وسلم؛ فهي الأمة الوحيدة التي امتلكت قوة الذاكرة، ودقة الصدق والمصداقية، وأمانة تحمل الرواية عن نبيها، صلى الله عليه وسلم، وقد أشار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذلك الصدق والمصداقية، وإلى أن هذا الإسناد باق في أمته يرويه خلف عن سلف.
بقوله: «تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ» [رواه مسلم].
أهمية علم الإسناد
اهتم العلماء المسلمون بالإسناد وبينوا أهميته من خلال عباراتهم ونصوصهم العلمية الواضحة، فقد قال محمد بن سيرين: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» رواه مسلم، وقال سفيان الثوري: «الإسناد هو سلاح المؤمن. فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟» المجروحون لابن حبان، وقال عبد الله بن المبارك: «الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء» رواه مسلم.
ولهذا فعندما كان يُسأل أهل البدع عمن أخذوا الحديث، كانوا يسكتون لئلا يفتضحوا؛ فعلم الإسناد فاضح لهم ولمقالاتهم التي لا أصل ولا أساس يدعم صدقها.
وقد ذكر أئمة الحديث أن رتب الصحيح تتفاوت تفاوت الأوصاف المقتضية للتصحيح؛ وأن في المرتبة العليا ما أطلق عليه بعض رجال علم الحديث أنه أصح الأسانيد هو “الأسانيد الثلاثية”؛ كسند الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وسند إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وسند مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو قول البخاري (السلسلة الذهبية) لأن هذه الأسانيد قصيرة السند، وقريبة الاتصال بالمصدر وبالينبوع النبوي الشريف.
كما اشتهر رجالها بقوة الحفظ والضبط وكمال الصدق والصيانة والأمانة، وذهب الإمام أبي منصور التميمي إلى أن أجل الرواة عن الإمام مالك بن أنس هو الشافعي فأجل الرواة على ذلك ما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك، ويسمى هذا السند سلسلة الذهب أيضًا.
وعلى هذا النهج من السلاسل الذهبية سلسلة مسند الربيع بن حبيب وثلاثياته: أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس.
ومن مزايا هذه الثلاثيات أو السلاسل الذهبية؛ سهولة حفظها، وحفظ الأحاديث الثلاثية أيسر على المستظهر من حفظ سلاسل طويلة كثيرة الحلقات والرجال.
ولأنه يسهل على حافظ الثلاثيات معرفة رجالها لقلتهم، والتثبت من أوصافهم بالحفظ والصدق والأمانة أكثر مما يعرفه رجال سلسلة عديدة الحلقات قد يوجد بينهم من لا يطمئن القلب بصدقه وديانته، مما يضعف الحديث ويجعله غير مقبول.
مزايا الثلاثيات الذهبية
لمزايا هذه “الثلاثيات ذهبية الأسناد” اهتم كثير من علماء الحديث بتأليف ثلاثيات السند منها:
- ثلاثيات: الإمام أحمد بن حنبل جمعها وشرحها الإمام السفاريني وعددها بلغ خمسة وستين ومائة حديث طبعت في جزئين في دمشق سنة 1830 ميلادي.
- ثلاثيات: الإمام البخاري، وهي اثنان وعشرون حديثًا صحيحًا غالبها عن مكي بن إبراهيم عمن حدثه من التابعين وهم من الطبقة الأولى من شيوخه مثل محمد بن عبد الله الأنصاري وأبي عاصم النبيل، وأبي نعيم وخلاد بن يحيى عن ابن عباس.
- ثلاثيات الدارمي في مسنده المعروف وهي خمسة عشر حديثًا.
- ثلاثيات: الربيع بن حبيب الأزدي وأحاديثها في مسنده، ورجال سلسلتها أبو عبيدة التميمي وجابر بن زيد الأزدي عن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنه.
قال محمد ابن سيرين (ت110هـ): “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم”. مقدمة صحيح مسلم 14/1.
وخير الأخذ هو الأخذ المسند المسلسل من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصحابي إلى التابعي فهذه السلسلة الثلاثية الذهبية المسندة العالية ولا تعلوا عليها سلسلة، وعلم الإسناد علم من إبداعات العلماء المسلمين ولم يسبقهم إليه أحد، وهو العلم الحافظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العلم الراد عليهم عبر مسيرة هذا الدين منذ نشأته المبكرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ملاحظة:
استفادت المقالة من:
- صحيح مسلم
- سنن أبي داوود
- مسند الحاكم
- المجروحون لابن حبان
- الإباضية بين الفرق/ علي يحي معمر