التعليم الشرعي عن بعد وأثره في تشكيل وعي شباب الأمة

زادت في السنوات الأخيرة أعداد المنتسبين لبرامج التعليم الشرعي عن بعد، وتحديدًا في فئة الشباب الذين تستهدفهم غالبية هذه البرامج، فما هي أسباب هذا الإقبال غير المسبوق وما هي منافعه ومضارُّه؟ وكيف تساهم هذه البرامج في تشكيل وعي شباب الأمة سلبًا وإيجابًا؟

التعليم عن بعد

التعليم الشرعي عن بعد وأثره في تشكيل وعي شباب الأمة
مدرسة كيرنز الجوية للتعليم عن بعد ببريسبان- أستراليا

يقصد بالتعليم عن بعد التعليم الذي يكون فيه المُعلم والمُتعلم في مكانين منفصلين وبعيدين عن بعضهما، سَبَقَ مفهوم التعليم عن بعد التعليم عن طريق الإنترنت -الذي هو أحد وسائله- لكن نظرًا لأن وسائل التعليم عن بعد غلب عليها اليوم استخدام الانترنت أصبح المعْنينان متطابقين في أذهان الناس. بدأ استخدام التعليم عن بعد في صورته الأولى أي التعليم عن طريق المراسلة عام 1873م، واتيحت الشهادات الأكاديمية للتعليم عن طريق المراسلة لأول مرة في نيويورك.

عام 1893م، كانت رسائل التعليم عن بعد الأولى تخصُّ التعليم الكنسي و توصل مواعظ وتباشير الكنيسة للأتباع. لجأ الطلاب قديمًا للتعليم عن بعد لصعوبة الوصول إلى أماكن الجامعات، في البداية عُوملت شهادة التعليم عن طريق المراسلة كشهادة أقل درجة من شهادة التعليم التقليدي، إلا أن التعليم عن بعد وجد إقبالًا واسعًا، وبعد ثورة الإنترنت افتُتحت معاهد وجامعات خاصة لنوع جديد من التعليم عن بعد عُرِف  بالتعليم الإلكتروني [1].

كورونا وأحوال المنطقة العربية

كما  ساهم بُعد المسافات قديمًا في استحداث التعليم عن بعد فإن هنالك أحوالًا حديثة جعلت الكثيرين يتجهون نحو التعليم الإلكتروني، في البدء استخدمت الجامعات والمدارس حول العالم  التعليم الإلكتروني كوسيلة لمواصلة دروسها خلال الجانحة، كما أن هنالك عدة مواقع ساهمت في تشجيع الجموع على البقاء في منازلهم بتوفيرها دورات و شهادات مجانية  مثل coursera و udemy وغيرها من المواقع والتطبيقات، هذا فيما يخص العالم أجمع، إلا أن هنالك أحداثًا أخرى جرت في المنطقة العربية ساهمت أيضًا في تصعيب عملية التعليم التقليدي، على سبيل المثال فإن الثورة التي اندلعت في السودان في ديسمبر 2018م كانت سببًا في إغلاق عدة جامعات والاتجاه للتعليم الإلكتروني لمواصلة مناهجها، هذا بالإضافة إلى الحروب المنتشرة في المنطقة العربية وعدم الاستقرار السياسي والوضع الاقتصادي السيء… ساهمت هذه العوامل في جعل التعليم  الإلكتروني الخيار الأمثل للطلاب، وبعد أن دخل التعليم النظامي حيز التعليم الإلكتروني فإن هنالك برامج أخرى أصبحت من اهتمامات الطلاب.                                              

العلم الشرعي بصيغة إلكترونية

التعليم الشرعي عن بعد وأثره في تشكيل وعي شباب الأم

تعلم العلوم الشرعية وإتقانها فرض كفاية على الأمة، أي إن فعله البعض سقط عن الباقين، لكن هنالك حدًا واجب التعلم على جميع المسلمين، وهو الحد الذي يسمح لهم بإقامة شعائر الدين والانصياع لتعاليم الشارع بعد تبصرُّهم بصلاحها لدينهم ودنياهم بالأدلة العقلية والشرعية.

 بالإضافة إلى أن المسلم مُكلف بمعرفة الأحكام الخاصة بمهنته، فالطبيب يجب عليه معرفة أحكام الطبابة، والمهندس والتاجر وجب عليهما تعلم ما يتضمنه مجالاهما من أحكام، لكن هناك إهمالًا واضحًا على مستوى العالم العربي في تعليم النشء أمور العقيدة والفقه وربطهما بالحياة الواقعية.

 فحتى الدارسون للشريعة يتم تدريسها لهم كمجال نظري «تراثي» أو كجزء من تاريخ غابر -إلا من رحم ربي طبعًا-، مع أن العلم الشرعي في جوهرة هو قيَم تُنقل قبل أن يكون نصوصًا تحفظ، ووُضعت في الأصل للتطبيق لا للمطالعة فقط؛ يتضح هذا من طبيعة تطور العلم الشرعي وعلومه  بشقيها -الآلة والغاية- التي تطورت ونمت لتلبية احتياجات الواقع والناس. وفي المحصلة تسهيل تطبيق الشريعة وتدريسها.

طبيعة تعلم العلم الشرعي اقتضت قديمًا السفر وملاقاة الشيوخ والأخذ عنهم، وما تطلبه الأمر من مجهود مالي وبدني قلَّل تلقائيًا من عدد الطلاب.

في استطلاع  للرأي قامت به Arab youth survey في عام 2022 قال 56% من المصوتين إن قوانين بلدانهم يجب أن تستمد من الشريعة الإسلامية[2]. شمل هذا الاستطلاع 50 من الشباب دون سن الثلاثين،  تشير النتائج السابقة _ بالإضافة لانتشار الوعي الإسلامي وقضايا الأمة  الإسلامية بين شباب ثورات الربيع _  لكون الشريعة الإسلامية لا تزال حاضرة في رؤى شباب المسلمين ومفهومهم عن الدولة.

تتناسب مخرجات هذا الاستطلاع مع الأعداد التي تدخل لهذه البرامج الإلكترونية، فقد وصل عدد إحدى دفعات البناء المنهجي -وهو برنامج شرعي تعليمي إلكتروني- إلى 100 ألف مشترك أغلبيتهم من الشباب.

المحاسن والمساؤي

في البدء، هذه المساوئ والمحاسن قد تنطبق على بعض البرامج ولا تنطبق على البعض الآخر، إلا أني حاولت جهدي لتقديم نظرة شمولية قدر المستطاع دون استصحاب برنامج معين في الذهن.

محاسن التعليم الشرعي عن بعد

  1. سهولة الوصول إليه.
  2. أغلب برامج التعليم الشرعي مجانية.
  3. لا تحتاج إلى التفرغ زمنا طويلا.
  4. فرصة لقاء المهتمين وتكوين مجتمعات تعلم نافعة.
  5. لا يتعارض مع جدول عمل أو دراسة المنتسبين.
  6. وفرة وتنوع البرامج وتدرجها.
  7.  إمكانية مراقبة بعض برامج الصغار من قبل الوالدين والاطلاع عليها.
  8. لا تحتاج أغلب برامج التعليم إلى أكثر من اتصال بالإنترنت.

مساوئه

  1. البعد عن روح التعلم المعهودة قديمًا في مجالس العلم.
  2. وضع بعض برامج التعليم الشرعي نفسها في خانة البرامج اللاصفية وتشبهها ببرامج تطوير الذات.
  3. يميل بعض المنتسبين صغار السن إلى أخذ البرامج بجدية مبالغ فيها وتصورها على أنها ستجعلهم أهلًا للفتوى، هذه الظاهرة قديمة قدمَ العلم وطلبه، إلا أني ذكرتها هنا بالأخص لأن مساحات المشاركة الإلكترونية مفتوحة وبالتالي زاد تأثير هؤلاء المتعالمين.
  4. إعطاء فرصة لأيٍّ كان لتقديم برنامج وتدريس الطلاب، حتى وإن لم يكن ثقة.
  5. نظرًا لأن بيئة هذه البرامج هي الفضاءات الإلكترونية فإنها تتأثر تبعًا لذلك بمساوئ هذه الفضاءات من قبيل:
  • التأثر بالترندات الشائعة غير النافعة، وأحيانًا تحويل المسائل الشرعية ذاتها لتريند.
  • استخدام لغة مواقع التواصل الاجتماعي في طلب العلم وتوصيله وهو أمر يصعب الفصل فيه إلا أن بعض قضايا العلوم الشرعية لارتباطها بالوحي لا يجوز فيها التساهل والتظرف.
  • معاملة الشيوخ و كأنهم مؤثرون اجتماعيون أو يوتيوبرز.

6.صعوبة تعليم الأدب الشرعي مع العلم الشرعي لبعد المسافات من جهة وكثرة المنتسبين من جهة أخرى، وهما أمران لا ينفصلان لطالب العلم.

أغلبية هذه المساوئ هي من قبيل الاستخدام السيء للبرامج والمنصات الشرعية، وهو أمر مفهوم ومعقول نظرًا لحداثة الفكرة، إلا أنه مع تطور وسائل التعليم وكثرة المصلحين وخلوص النيات ستنحصر هذه المساوئ مع الزمن وللأبد.

من الأشياء الملاحظة أن هذه البرامج ما زالت تفتقد لجانب الرسمية في شهاداتها، خصوصًا مع غياب الجهات التي تمتلك حق التوثيق الرسمي ومنح الرخص في التدريس أو حتى تسلم الوظائف الشرعية من قبيل الفتوى أو الإصلاح العام، يمكن أن يتحسن هذا الجانب مع الزمن والوصول لإمكانيات تنظيمية أفضل.

ماذا بعد التعليم الشرعي؟

هنا أكتب بضع توقعات على خلفية المشاهَد من هذه البرامج وإمكانيات تحولها من منصاتها الإلكترونية لتقود التغيير على أرض الواقع، المعلوم أن أي تغيير حصل في التاريخ  قاده جماعة من أصحاب الهم المشترك والفكر الموحد، مرجعهم فكر مشترك آمنوا به، فمن الصعب تصور الثورة الفرنسية من غير كتابات جان جاك روسو أو تصور قيام الدولة الإسلامية من غير الوحي وتعاليمه، و المتوقع والمرجو من هذه البرامج هو توحيد الأمة على كلمة واحدة ورفع راية موحدة و مما يمكن أن تفعله هذه البرامج:

  1. تقديم بديل لطريقة التعليم العلمانية السائدة الخالية من التركيز على القيم، فعيب نظام التعليم الحديث المعلمَن أنه يوهم الطالب أن الدين هو مادة من ضمن مواد المقرر ويمكن عزلها عن بقية المواد، إلا أن طريقة التفكير التي يملكها طالب العلم الشرعي تجعل العلم الدنيوي في نظره وسيلة للتطبيق الديني وممارسته.
  2. منهجية التفكير الشرعي تقي من الكثير من الأمراض النفسية المصاحبة للتعلم الخالي من الوحي والهدف الأخروي.
  3. العلم الشرعي ليس مقصورًا على نيل الشهادات أو المناصب بل هو أسلوب حياة كاملة، يهدف لخلق إنسان عكس التعليم العلماني الذي يهدف لخلق موظف.
  4. جمع المسلمين على كلمة واحدة تجعل قيام أمة موحدة أمرًا ممكنًا، خصوصًا مع دراسة وتبصُّر الطلبة بمواد كتبت وصيغت في زمن عزة الإسلام وسلطانه.
  5. إخراج  جيل مسلم يجعل الدنيوي تبعًا للديني  وليس العكس.

في المحصلة فإن الآمال عالية أن تجعل هذه البرامج النشء على تواصل مع مجتمع الإسلام الأرحب و تعدِّهم لتحقيق الاستخلاف في الأرض.

المصادر

[1] تاريخ التعليم الإلكتروني.

[2] Findings – ASDA’A BCW Arab Youth Survey Middle East

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى