واجب الوقت: بناء رجال صدقوا وما بدلوا
الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار وكدح مستمر حتى الممات {ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ} [الملك: 2]، ابتلاء للفرد وللأمة {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 39، 40]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111]، {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71]، {وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا} [الجاثية: 28]، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] ، {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وتوجيهات الإسلام لإعداد المجتمع المسلم لمواجهة تحدياته والقيام بشهوده الحضاري لا تحصى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 104]، ((ولكنكم تستعجلون)) [صحيح البخاري: 3612]، ((إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا)) [البخاري: 3182]، ((أَدُّوا الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)) [مسند أحمد: 3714]، ((تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا)) [سنن الدارمي من كلام عمر رضي الله عنه: 256]. هذه كلها توجيهات قرآنية ونبوية وصحابية للمسلمين لكي يعدوا عدتهم لبناء مجتمعهم المسلم، ولا ينتظروا الأحداث تسبقهم أو تدهمهم ولا استعداد لهم ولا عدة لوقت التغيير الحاسم.
فسنن الله قاضية بأن يسبق النظرُ العملَ، ويتقدم الإعداد على الفعل والإقدام، وقبل أن نطالب مخلوقًا بمهمة نهيئ له الأسباب المعينة على القيام بها أولًا، هكذا علمنا ربنا تعالى جده، فقبل أن ينزل آدم إلى الأرض خليفة؛ وذريته من بعده إلى يوم الدين، هيأ له كل الأسباب: الأرض والسماء والجبال والطعام والشراب وكل شيء قدره له ولذريته من بعده وسخر له ما في الأرض جميعًا منه، وأعطاه الهدى والكتاب والميزان ليقوم بالقسط، وأمره ونهاه وعرّفه مهمته وغايته: العبادة والعمران على هدى وتقوى من الله في تعاون وإحسان بإحسان مع بني جنسه وجميع خلقه، وحذّره من نفسه ومن هواه ومن الشيطان، وأعطاه الكتاب وهداه.
بين المجتمع النبوي والطوفان المقدسي
وهكذا كان الأمر مع الرسالة الخاتمة، ثلاثة وعشرون عامًا من الإعداد والتهيئة للأمة الجديدة، تقرأ كتاب ربها باسم ربها وتجاهد بأنفسها وأموالها والمخلصين من رجالها ونسائها حتى تكونت الأمة الإسلامية بالإنسان وللإنسان الجديد فاكتملت التجربة ونجحت ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وفي التاريخ قديمه وحديثه وفي عصرنا الراهن لم تقم أمة بتحقيق مجد إلا بعد قراءة وتجديد للفكر والواقع وعمل شاق وجهاد متصل وتوبة دائمة، لا يمكن لعمل ارتجالي أن ينجح أبدًا، وإن نجح فنجاح مؤقت سرعان ما يعقبه فشل ذريع كما في واقعنا.
إن غياب كل ما سبق جعل حركات التغيير في أمتنا العربية المسلمة وفي مصر خصوصًا -وفي القلب منها الحركة الإسلامية- تعاني من عدم فهم معنى واجب الوقت، فنقدم ما حقه التأخير ونؤخر ما حقه التقديم في الموضوعات كما في الأشخاص، ونهمل التخصص، ونستهين بالخبرة وكيفية اكتسابها وصناعتها، ولا نحقق التراكم والتواصل المطلوب بين الأجيال فنفقد دائمًا الفرصة عندما تسنح لنا، فالأيام دول وكلما دالت لنا الأيام بفضل الله نضيّع الفرصة لأننا لم نكن على مستواها الحقيقي ولم نكن أهلًا لها.
وأمتنا المسلمة اليوم أبعد ما تكون عن مقتضيات هذه الأسس ومقومات البعث الجديد على الرغم من أن البقعة المباركة في فلسطين تعطينا الأمل؛ أي الأمل في بعث جديد إن أحسننا استقبال ما تقوم به، وجعلناه منطلقًا جديدًا لتجديد إسلامنا وإيماننا وصولًا للإحسان الذي هو مرتبة الإتقان والتي من دونها لا تعود خير أمة أخرجت للناس.
وإذا لم تحفزنا غزوة طوفان الأقصى وما جرى بعدها مما تراه أعيننا، وتنزف له دمًا أعيننا وقلوبنا، وتُهيّج عاطفتنا لما يجري لإخواننا، ولِما ظهر من تكالب كلاب الأرض علينا من المستعمرين القدامى والجدد وما ظهر من خيانات وما ظهر من كوارث طالت شرائح كبيرة من الأمة من المترفين، وما يعانيه شباب الأمة من ضياع، وما ظهر من انكشاف مقاومة الأمة لدرجة مفزعة حتى أننا غير قادرين على مقاطعة منتجات أعدائنا، بل الكارثة التي ظهرت جلية أن ما نأكله ونشربه ينتجه لنا أعداؤنا بأيدينا ويبيعونه لنا وكفى بها كارثة، إذا لم يحفزنا ذلك كله وما يحاك للأمة من مخططات علنية لإعادة تفكيكها بأيدي بعض أبنائها، من أن نعيد النظر في مجمل معارفنا وعلومنا ونظرتنا لأعدائنا من ناحية، وكافة نواحي حياتنا من ناحية أخرى، فالاندثار والموت والذل هو مصيرنا المحتوم الذي لن ننجو منه أبدًا، {سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا} [الفتح: 23].
الظروف الحالية: فرصة الرجال
لقد سقطت جميع الأقنعة عن الوجوه، سقطت جميع الدعاوى والادعاءات الكاذبة بالوطنية والقومية والإسلام، حتى النخوة الطبيعية للدفاع الذاتي التي طُبعت في فطرة أي مخلوق، لقد سقطت كل قيمنا الزائفة، وأدعيتنا الزائفة، وحياتنا الزائفة، ليس بعد خذلان غزة من ذنب، وليس بعد ما فعله مجاهدو غزة من مستعتب: إما الجهاد، وإما النفاق والشرك، لا حلول وسط، ولا منطقة وسط نقف فيها، إذا لم نتوقف عن تفاهاتنا التي لا تنتهي سننقرض يومًا قريبًا، أو نتحول لخدم أذلة لقتلة الأنبياء ولصوص الأرض والعرض والدين؛ فالعدو صار في قلب الأمة ووصل إلى الرأس.
تحتاج هذه الأمة أن تجدد كل أسس حياتها إن أرادت أن يكون لها وجود في ما تبقى من هذا القرن، لا ضمانة على الإطلاق لبقائنا في ظل حالة التفسخ الشامل التي نحن عليها، وفي ظل تهتك شبكة علاقاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحييد كل قوتنا العسكرية تجاه العدو.
واليوم ونحن على أعتاب عقد جديد من التغييرات الرهيبة الخطيرة علينا أن نتعلم من ماضينا وحاضرنا؛ لعلنا ننقذ ما تبقى من مستقبلنا ومستقبل الأجيال الجديدة القادمة. فمجتمعاتنا العربية؛ وفي القلب منها مصر، تواجه تحديًا وجوديًا حقيقيًا، وعلى كل مخلص لهذه الأمة مؤمن بالله وحده وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا خاتمًا أن يشمر ساعد الجد، وينظر المطلوب منه للقيام به وعليه بالتي هي أحسن وأجود وأتقن فالأمر جلل والمصاب أليم والهدف الدين.
ولن يكون ذلك إلا بمعرفة الواقع الذي نعيش فيه، وهو أمر ليس بالصعب ومؤشراته موجودة، وإحصاءاته متوفرة، وبياناته جاهزة تحتاج من يستخدمها لصالح مشروعه، ثم معرفة الهدف الذي نسعى إليه وهو معروف أيضًا لا إشكال فيه: تحقيق بعث الأمة الكامل سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وثقافيًا واجتماعيًا، وتحقيق شهودها الحضاري وتحققها بالخيرية الكاملة التامة، ومن ثم فما ينقصنا ولم نسع له السعي الحقيقي بدأب وإصرار طوال قرنين مَضَيَا هو معرفة وإعداد الوسائل والآليات والاستراتيجيات والسياسات والمشروعات والنخب والمؤسسات والقاعدة العريضة من المؤمنين الذين يُبَلوِرون ذلك كله ويستخدمونه لتحقيق غايات أمتنا.
حاجة الأمة.. رجال مصلحون
لذلك تحتاج هذه الأمة من يذكرها؛ وفي القلب منها من انتدبوا أنفسهم للدفاع عنها وصنع مستقبلها، بأنّ ما أصابها ويصيبها وسيظل يصيبها ما لم ترجع وتعتبر وتعبر أزمتها وأخطاءها، هو من عند أنفسنا. ولا يكفي التشهير بالأخطاء وإظهارها كما هي بالفعل في نفسها، مهما كان هذا مفيدًا، وإنما الأهم أيضًا والأكثر إفادة هو تفسيرها، أي البحث عن كيف، ولماذا نشأت؟؛ لأن كل موجود بأية كيفية كان له حتمًا سبب لوجوده. نحتاج معرفة الواقع الذي نعيش فيه، ونحتاج أن نعرف ونحدد الهدف الذي نسعى إليه، ونحتاج أن نعرف ونعد الوسائل الموصلة من الواقع إلى الهدف.
ومن هنا تحتاج نخب هذه الأمة الحادبة على مصالحها؛ والتي تكاد تذهب نفسها حسرات على حالها المزري، إلى وقفات جذرية مع طريقة تعاملها مع الأخطار المحدقة بهذه الأمة، ومع جهودها التي تبذلها من أجل بعث جديد لهذه الأمة طال انتظاره دون ثمرة دانية تدل عليه. وتحتاج الطائفة والفئة التي انتدبت نفسها للتفقه في الدين ورسم سياسة الدنيا بالدين من يصرخ فيها لتعيد صياغة أسس عملها واستراتيجياتها في كل مجال من مجالات الحياة؛ لتواكب الإسلام وتتقدم نحوه، ولتحيا في عالمها مدركة كافة جوانبه لتعرف كيف تعيد صياغة عالمها، ومقابلة التحديات الوجودية التي تجابهها في الداخل والخارج.
ليس أقل من إيمان جديد، هجرة جديد، تاريخ جديد، كهف القرآن والرسول نأوي إليهما، ليس أقل من ذلك؛ لقد ظهر علينا العدو وأحاط بنا من الداخل والخارج فإما حياة وإما ممات، ويحتاج ذلك كله إلى عصر بعث جديد وبعثة جديدة لهذه الأمة، نحتاج في كل بيت وفي كل مؤسسة إلى رجال على خطى محمد وإبراهيم وهاجر وإسماعيل وموسى وعيسى وخديجة وعائشة وفاطمة ومريم، عليهم جميعا صلوات الله وسلامه وبركاته، ونحتاج إلى ملايين على مثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، نحتاج رجالًا ليسوا بأنبياء لكنهم يحملون صفاتهم ويقتدون بهداهم ويتأسَّون بأفعالهم ويتخلّقون بأخلاقهم، لن يُنقذ هذه الأمة مما هي فيه إلا رجال من هذه النوعية، رجال بحجم مأساة هذه الأمة، وحجم تخلفها عن إسلامها وفقدانها لوعيها وبوصلتها، لا مجال لأصحاب الأنفاس المتقطعة ولا الذين يسقطون في أول الطريق أو منتصفه. لقد تعفن الجسد القديم وتفسخ الإنسان القديم ولم تعد تصلح الترقيعات والطلاء الخارجي على جسد منهار متعفن.
وبعيدًا عن التغني بما تحقق من خطوات وهو كثير وليس بالقليل، وما تراكم من خبرات وهي وفيرة، لكن تظل الحقيقة العارية أن ما فشلنا فيه كان هو الأكبر، وما أخفقنا في تحقيقه وهو المهم هو الغالب. هذه أمة تحتاج إلى كل شيء: بناء علومها من جديد، بناء نخب الأمة من جديد، بناء إنسان الأمة وقاعدتها من جديد، بناء الاستراتيجيات والمؤسسات المطلوبة للأمة من جديد.
فالانفجار قضية وقت، وإن لم نتجهز ببدائل حقيقية قابلة للتطبيق في كافة مجالات الحياة؛ لتكون قابلة للتطبيق في اليوم التالي ومعروضة على الجماهير العامة للأمة لتتلقاها بالقبول، ولها رجال صدقوا قادرون على تنفيذ ذلك بأقصى كفاية ممكنة وبأقصى جودة يمكن الوصول إليها سنعود القهقرى للوراء قرونًا كما حدث بعد 25 يناير.
إن إعداد الرجال الصادقين هو أولى مهام أي راغب في البعث الجديد وقادر عليه اليوم. ولا يعرف قدر هذه المهمة الجليلة إلا العالمون، فنحن لن نُبعث من جديد إلا إذا أعددنا رجالًا لكل المهمات. ولو قارنّا فترة الثلاثة عشر عامًا في مكة وما يقاربها في المدينة والرجال الذين صنعهم الله سبحانه برعاية وتربية رسوله صلى الله عليه وسلم، والذين حملوا عبء الدعوة والحكومة والسفارة والاقتصاد والقضاء فيما بعد، لفهمنا جيدًا خطورة وأهمية وحاكمية ما ندعو إليه وضرورة أن نصبر عليه ونوقف الأوقاف عليه، فحكمة عمر كانت سابقة للإسلام لذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعزّ الإسلام به لكن عمر بعد الإسلام ظل ملاصقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدنا أبو بكر وعثمان وعلي لو تتبعنا مهام كل منهم وتربيته بيد الرسول صلى الله عليه وسلم لفهمنا ما ندعو إليه، وهكذا كان كل هؤلاء الآلاف من الرجال والنساء في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، كلٌ له دوره وعمله بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم له، وهكذا تصنع الأمم.
تحتاج هذه الأمة إلى إعداد صنف جديد من الرجال، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تحتاج هذه الأمة رجالًا يواجهونها بحقيقة ما يهدد وجودها ويعمل على اجتثاث أسس إيمانها ومعتقدها لا مجرد أركان إسلامها الشكلية. رجال يعرفون دينهم، ويفهمون واقعهم، ويدركون غاياتهم، ومطلعون على الخطر المحدق بأمتهم، رجال كثر في كل مجال: في السياسة، والاقتصاد، والعسكرية، والفن والأدب والترفيه، في الدعوة، في الفقه، وفي الدعاية والإعلان والإعلام، في التربية والحروب النفسية، تحتاج هذه الأمة إلى رجال يملأون الفراغات الهائلة في مؤسسات الأمة في كل ما سبق.
في عز ثورة يناير اقترحت برنامجا شبيهًا بما أشرت إليه أعلاه، أُعيد تجديد طرحه للتنفيذ هنا، قلت: نجمع 1000 شاب وفتاة نختارهم وفق معايير معينة في المحافظة يتم عمل اختبارات معينة لهم شفهية وعملية؛ لنحدد مهاراتهم وتخصصاتهم وميولهم، ثم نُقسمهم مجموعات حسب ذلك، ونوجّه كل مجموعة منهم إلى المجال الأكثر فائدة لهم وللمجتمع: فهذه مجموعة للعمل الأهلي وداخلها تخصصات، وتلك مجموعة للعمل الحزبي التنظيمي وداخلها تخصصات، وتلك مجموعة للعمل السياسي وداخلها تخصصات، وهذه مجموعة للعمل الاقتصادي وداخلها تخصصات، وتلك مجموعة للعمل القانوني وداخلها تخصصات، وهذه مجموعة للعمل الإعلامي وداخلها تخصصات، وهذه مجموعة للعمل الدعوي وداخلها تخصصات، وهؤلاء رجال أمة يتخصصون في كل مجال، لكن ذهب اقتراحي وكثير غيره أدراج الرياح.
إعداد الرجال لاحتلال فلسطين!!
وأضرب مثالًا حيًّا من التاريخ القريب يخص عدونا الصهيوني، قد ينفعنا فيما يتعلق بإعداد الرجال الذين يحملون مشروع البعث الجديد وأتمنى أن نقرأه بعين البصيرة ونتفكر فيه لعلنا نخرج برؤية تنفعنا فيما هو قادم، ونوجه جهود القادرين منا لعمل نافع لهذه الأمة:
المثال متعلق بنجاح الصهاينة في بناء دولتهم من خلال رؤية طويلة المدى؛ وفي مقدمتهم رجل الدعوة والسياسة (بن غوريون) قائد بناء الكيان الحقيقي وتارك بصمته عليه حتى اليوم. كان (بن غوريون) يرى -وهو محق- أن السعي لتحقيق أهداف الصهيونية في الاستيلاء على فلسطين وتكوين وطن يهودي فيها لن تكون له قيمة ما لم يُسنده أمرُ واقعٍ يصنعه الصهيونيون بالفعل في فلسطين وفي الشتات الصهيوني وفي الدول العظمى المؤيدة لهم وفيما بينهم، عبر خلق نخب قادرة من خلال تلك القنوات جميعها على إدارة الدولة عندما يحين أوان ظهورها، فكان جل جهده هو ومن معه: صنع نخب، تقيم المستعمرات زراعية، وتعمل على تهريب الأسلحة، وتأسيس القوة المقاتلة، والاستيلاء على أراضي العرب. فقد كان يرى أن أسلوب إيجاد الأمر الواقع الذي تترتب عليه النتائج السياسية الذي هو أفضل ما يخدم به قضيته لن يقدر على القيام به إلا عصبة من الرجال المؤمنين بالمشروع والمستعدين لدفع ثمن ذلك كاملا، وكان هؤلاء الشباب الذين رباهم (بن غوريون) أصحاب الفضل الحقيقي في قيام دولة الكيان في الدرجة الأولى.
إن الذي جعل إعلان قيام دولة الكيان ممكنا هو الجهد الشاق بعد عقود من العمل المضني ليل نهار في مختلف القارات وفي كل الظروف والذي لم يتزحزح عن خطته ورؤيته لحظة واحدة، فقد أوجدت الوكالة اليهودية في فلسطين كل مقومات الدولة من الجيش إلى الوزارات إلى المواقع الجغرافية الحصينة، وكانت مصنعًا للرجال والنساء الذين قادوا الكيان وورّثوا خبراتهم لخلفهم من المجرمين حتى الآن.
ومما يذكر في هذا الصدد وله دلالته العميقة: أنه عندما جاءت لجنة تقسيم فلسطين عام 1936م لتستمع لآراء العرب واليهود في مشروع التقسيم، كان من ضمن من استمعت إليهم اللجنة في جلساتها العامة نحو أربعين شاهدًا من اليهود، الذين لم يتركوا ناحية من نواحي الحياة الصهيونية وأهدافها وتنظيماتها في فلسطين لم يشرحها هؤلاء الشهود لأعضاء اللجنة بمهارة أذهلت أعضاء اللجنة، وكان هؤلاء الأربعون هم الذين تبوأوا المناصب البارزة في كافة مناحي الحياة في الكيان بعد الإعلان عن تأسيسه كما يذكر صاحب كتاب مفارق الطرق إلى إسرائيل.
ترى كم استغرق إعداد هؤلاء الأربعين شاهدًا من الرجال والنساء اليهود من وقت ومال وجهد وخبرات وتدريب وتعلم وصبر من هؤلاء على جهود التعلم واكتساب الخبرات حتى استطاعوا خلال عقد من الزمان أو أقل أو أكثر قليلًا أن يتحدثوا أمام لجنة من دهاة الإنجليز تآمروا على قسمة فلسطين، فأوضحوا لهم ببراعة وإتقان بالحقائق والمستندات المستندة للواقع كل جوانب الحياة الصهيونية في فلسطين، وجدارة هذه العصابات بأن تكون لها دولة، هذا من الأمثلة التي يجب أن ندرسها ونتعلم منها، فليس مثل العدو حافزًا للتعلم واكتساب الخبرة والعبرة.
إذا..
على الحركة الإسلامية أن تحدد أولوياتها، وفي مقدمتها إعداد وتجهيز كوادر للعمل جاهزة لتدير مؤسسات الأمة انتظارًا للحظة التغيير القادمة قريبًا. سيكون ذلك عملًا رياديًا وشاقًا لو بدأنا فيه لكن ستكون له نتائجه التي يهون بجانبها أي جهد وتسهل كل مشقة حين تشرق شمس الأمة من جديد.
لتكن الحرب على غزة؛ التي هي حرب العالمين على دين وأمة رب العالمين، المحفز لنا للخروج من العالم الميت الذي نعيش فيه ونغرق في تفاهاته، ولتصبح وسيلة للثورة عليه وتغييره وتحفيز التغييرات التي تغلي بداخله وتحريكها نحو فعل البعث الجديد بتربية جيل جديد يٌخرج أفضل ما في الأمة من إمكانات ويستغل مرادها على أحسن صورة؛ لتُبعث من جديد شاهدة ورحمة للمسلمين والعالمين.