تجفيف منابع النفقة: كيف ساهمت الشعوب في حصار حركات الجهاد والمقاومة؟

أمّة ما لها من عثمان بن عفان وما لها من عبد الرحمن بن عوف، كيف سيكون حالها إلا بين تخلي فصائلها عن بعض المجاهدين من أصحاب الخبرة في ميادين الجهاد ورضاء بعضهم بشروط الممولين والمانحين؟ واستضعاف وتنكيل بأهلها في بورما وفلسطين وسوريا والعراق واليمن ومصر وأفغانستان… وقعود بعض مَن يُعرف بالصلاح عن الجهاد؟!

تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ

كَم مِن فائض عيناه بالدمع، يقتل قلبه كمدًا حال أمته بيد أنّ ما باليد حيلة، فما بين لاهٍ في دنياه لا يشغله غير الكسب وكنز الأموال، وآخر متيمم الخبيث من أمواله منفقًا لها، ظانًّا أنّه أدى الفرض، ومتعفف لا يملك هو ما يسد حاجته؛ يجِلُّ الخطْبُ وتتعطل الفرائض، ويتساءل المستضعفون من الرجال والنساء والولدان عن تأخر نصرتهم، وتخلي أمتهم عنهم، فما لهم من بواكي ولا أنصار!

﴿ وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ ﴾

روى أبو داود عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ).[1] وعن زيد بن خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا»

لِمَ تقدَّم المال على النفس في كل المواضع في القرآن سوى موضع؟

استخلفنا الله في الأموال فلم نؤدِّ حق النعم، فانحصرت منابع الإنفاق، ما أدّى إلى توقف بعض أصحاب المبادرات وتوقف بعض المجاهدين، واقتصار نصرة المستضعفين على: بعض الوجبات الغذائية، وقليل من الأدوية، وبعض من الخيام لإيواء اللاجئين، ولكن ماذا عمَّا يضمن لهم ردّ العدوان واسترداد الحقوق والدفاع عن دينهم وأنفسهم وأموالهم؟

يقول شيخنا: وإني أعلم أن الكثير من تجار المسلمين لا يمنعهم البخل في أموالهم من الإنفاق في سبيل الله، ولكن يمنعهم من ذلك خشيتهم من أمريكا ووكلائها في المنطقة، وإني أقول لهم هذا ليس بعذر وإنما أنتم في دار ابتلاء واختبار وتذكروا قول الله تعالى: (أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[2]

ولذا وعند ذكر الجهاد كان تقديم المال على النفس آكد، فمن بين عشرة مواضع كان الجهاد بالمال فيها قرين الجهاد بالنفس، تقدَّم الجهاد بالمال في تسعة مواضع، يقول الآلوسي رحمه الله في حكمة هذا التقديم: “لعل تقديم الأموال على الأنفس لِمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعًا، وأتم دفعًا للحاجة؛ حيث لا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال، وقيل: ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع؛ فالجهاد بـ (المال) لنحو التأهب للحرب، ثم الجهاد بالنفس”[3]

ولمَّا كان الجهاد بالمال أكثر وقوعًا ونفعًا للأمة تقدّم على المجاهدة بالنفس، ولكن الأمر لم يُترك عند هذا الحد؛ ليقول القاعدون إذن نأمن بأنفسنا ونجاهد بأموالنا ويكون أفضل من الجهاد بالنفس؛ فيتخدّر المسلمون ويتوهّمون الصلاح وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ جاء موضع الفصل عند شراء الله الأنفس والأموال، فقدّم النفس على المال.

وفي سِرِّ هذا التقديم يقول ابن القيم-رحمه الله-: وأما قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} [سورة التوبة، الآية: 111]، فكان تقديم الأنفس هو الأَوْلَى؛ لأنها هي المشتراة في الحقيقة، وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استلمها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنَّته، فكانت هي المقصودة بعقد الشراء. والأموال تَبَع لها فإذا مَلَكها مشتريها ملك مالها؛ فإن العبد وما يملكه لسيده، ليس له فيه شيء؛ فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها”[4]

البُعد الاستراتيجي للمال

وإن كانت سنة الدين أنّ المال ليس غاية في ذاته، يُصرف من أجله كل الوقت والجهد، ولكنه يبقى عنصرًا فاعلًا مغيّرًا ومؤثرًا في الصراع، وهو ما يدخل تحت باب الإعداد، وموطِأً يغيظ الكفار؛ وهو ما يدرك الاحتلال بعده الاستراتيجي في واقع معركته معنا؛ لذا كانت حربهم مُخططة ومدروسة، ترتكز على تجفيف المنابع المالية والطبيعية، فعمدوا إلى استنزاف النفط والغاز الطبيعي والذهب وحتى العنصر البشري… وكل ما من شأنه تشكيل مقاومة فاعلة تسترد حقوق المسلمين، ويكون لها كلمة عليا في الصراع.

وفي هذا الصدد يقول الشيخ عبد الله بن محمد الرشود -رحمه الله-: (ولذا يحرص أعداء الدين على تجفيف منابع النفقة في سبيل الله وتشويه صورة المجاهدين في عيون المحسنين، ليتفادوا نشاط المعركة بتجفيف وقودها وهي التبرعات، فلذا ينبغي للمحسنين ألا يخشوا إلا الله فهو المعطي المانع، {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. ولا شكّ أنّ النفقة في مراحل الابتلاء والتضييق أبلغ أثرًا وأعظم أجرًا من النفقة بعد الفتح والنصر، {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.[5]

الحفاظ على مصادر التمويل وكذلك الجهاد دونها

جزء من الاتفاقيات التي وقعها ترامب أثناء “صفقة القرن” مع السعودية

إن وجود قوة للمسلمين يصرف عنهم شرَّ الاستضعاف وما يلقاه المسلمون من تنكيل واحتلال، ولما كانت القوة بدون مال أمرًا متعذرًا، كان إيجاد مال وفير يرفع عنّا شرّ العوز والحاجة، ويُعيننا على نوائب الدهر وتداعي الأعداء ونصرة المستضعفين، شرطًا من شروط الإعداد. فأمّة تفتقر إلى المال ليس بمقدورها دفع عدو، ولا اتخاذ قرار، ويأذن حالها بمزيد خضوع لأعدائها ومحتليها!

والمُحزن أنّ كثيرًا من فقهاء الجهاد والعاملون يرون في الجهاد دون المال خدشًا في العقيدة، مما يعكس ضيقًا في رؤية كامل المعركة، وعدم استيعاب لكامل الخطوات التي يتخذها المحتلون لأرضنا وأتبعاهم من الحكام، وبخاصة بعدما حدث في حرب أكتوبر 1973 عندما قُطعت الإمدادات النفطية والوقود عن الدول الغربية، حينها أدرك الغرب فقط قوة الثروات الطبيعة كمصدر للتمويل وعنصر فاعل في تغيير موازين القوى.

يقول الشيخ أبو مصعب السوري، موضحًا إبراز أهمية البعد الاقتصادي: “إن بيت مال المسلمين وثرواتهم وعلى رأسها النفط قد نُهب، وستنهب هذه الحملة ما تبقى منه، وأن على المسلم أن يجاهد دون قوته وقوت عياله المسلوب، وإعطاء هذا النوع من الجهاد الاقتصادي بعده الشرعي الذي غاب عن طرح الجهاديين الفكري وما يزال غائبًا. لأن بعض فقهاء الجهاد من الشباب الناشئين يعتبر ذلك خدشا في العقيدة السمحة!”[6]

الوجه الآخر لغزوة تبوك

ففي غزوة تبوك وعندما كان المسلمون في أشدّ الحاجة لتوفير الأموال، حينما كان النبي-صلى الله عليه وسلم-يجهز جيش العسرة، ورغم تسابق المسلمين في الإنفاق والجود بأموالهم وتسابق النساء في إخراج حُليِّهن للمساهمة في تجهيز الجيش، ومع هذا لا تكفي النفقة لتجهيز كامل الجيش، فيعود مَن لا يجد الرسول لهم ما يحملهم عليه… رغم كل هذا خرج المسلمون لملاقاة الروم ومحصولهم الاستراتيجي ومصدر دخل كثير منهم لباقي العام، ما يزال في النخل لم ينضج بعد،[7] فلا يستطيعون جمعه، وإن تُرك هلك، إلا أنّ إجابة داعي الجهاد وإعلاء كلمة الله والاستجابة لرسوله كانت هي الحاضرة.

لذا؛ وبرغم الأهمية التي ذكرنا للمال، إلا أنّه ليس الضامن لتحقيق النصر ورفع الذل والضعف عن المسلمين، ولا هو ما يركن إليه المسلم في طريقه لنصرة المستضعفين، فلقد وضع له الدين ما يُحكِم لجام سطوته وسيطرته على النفوس والعقول، فكما أمر بالجهاد دونه، ووعد المقتول دون ماله بجزاء الشهداء ومنزلتهم، أمر كذلك بإنفاقه واستوعد الذين يكنزونه ولا ينفقونه في سبيل الله، استوعدهم عذابًا أليمًا.


المصادر

[1] صحيح أبي داود (2186).

[2] دعوة إلى الجهاد لوقف العدوان على غزة

[3] الآلوسي: 7/ 141.

[4] بدائع الفوائد: ص 86

[5] (حوار الشيخ عبد الله بن محمد الرشود -رحمه الله-مع مجلة “صوت الجهاد” -1424 هـ)

[6] دعوة المقاومة الإسلامية العالمية

[7] عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه -قال: (غزونا مع النبي -صلى الله عليه وسلم -غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة لها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لأصحابه: ” اخرصوا “) (فخرصناها، ” وخرصها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عشرة أوسق (وقال للمرأة: أحصي ما يخرج منها) (حتى نرجع إليك إن شاء الله “)) يقال: خرص النخلة والكرمة، يخرصها خرصا: إذا حزر وقدر ما عليها من الرطب تمرا.

أيّ أنّه بعد مسير المسلمين من المدينة إلى وادي القرى كان ما يزال التمر في قنوانه لم يُخرص-لم يُجنى-بعد.

مي محمد

طالبة علم، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. جزاك الله خير استاذة مي
    اتمنى ان تكتبي جزء تاني من المقال هذا عن دور المسلمين وما يجب عليهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى