اليمين المتطرف.. واحتضار الديمقراطية في الغرب 

في العقدين الأخيرين، شهد الغرب تحولًا سياسيًا كبيرًا، تمثل في صعود (اليمين المتطرف)1 واتساع رقعة أحزابه ورموزه في أوروبا والأمريكتين، هذا التحول لم يكن مجرد ظاهرة انتخابية عابرة، بل عكس تغييرًا هيكليًا في المشهد السياسي العالمي، مدفوعًا بكراهية هجرة الأجانب، وخاصة المسلمين، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفقدان الثقة بالمؤسسات التقليدية في النظام الديمقراطي، ومع وصول شخصيات مثل “دونالد ترامب” في الولايات المتحدة، و”فيكتور أوربان” في المجر، و”جورجيا ميلوني” في إيطاليا إلى قمة السلطة، تتزايد المخاوف في الغرب خصوصًا من أن يؤدي هذا الصعود إلى تآكل الديمقراطية الليبرالية الغربية.

بالنسبة للغرب، فإن الديمقراطية تمثل أحد الأسس الجوهرية في منظومة القيم التي قامت عليها الحضارة الغربية، وهي بهذا الاعتبار ليست مجرد نظام سياسي بل تُجسد رؤية شاملة للعلاقات بين الأفراد والمجتمعات والحكومات، ينظر الغرب إلى الديمقراطية باعتبارها التعبير الأسمى عن قيم الحرية، المساواة، والتعددية التي قامت عليها الحضارة الغربية وليست مجرد وسيلة حكم، كما يرى أن هذه القيم ليست مجرد مبادئ نظرية، بل هي ما مكّن الغرب من تحقيق التقدم والازدهار، وإن تهديد الديمقراطية من قبل اليمين المتطرف يمثل تهديدًا وجوديًا للحضارة الغربية، لأنها ليست مجرد نظام سياسي، بل هي العمود الفقري الذي يقوم عليه النظام القيمي والثقافي والاجتماعي لهذه الحضارة.

أحد أبرز المخاوف الغربية هي أن يساهم اليمين المتطرف في تحويل الديمقراطيات الليبرالية إلى أنظمة سلطوية مقنعة، حيث يتم تقويض الحقوق والحريات تدريجيًا تحت شعارات القومية وحماية الهوية الوطنية، يعتمد اليمين المتطرف على استغلال المخاوف الشعبية من الهجرة، والتغيّر الثقافي، وعدم الاستقرار الاقتصادي، مما يجعله قادرًا على حشد الدعم الجماهيري لتبرير سياسات تتعارض مع القيم الديمقراطية.

صعود شخصيات يمينية متطرفة وشعبوية وسلطوية في الغرب مثل (ترامب) في الولايات المتحدة، و(نايجل فاراج) في بريطانيا، و(أوربان) في المجر، و(مليوني) في إيطاليا، و(لوبان) في فرنسا، و(نتنياهو) في الكيان المحتل، و(فيلدرز) في هولندا، و(بولسونارو) في البرازيل، و(مودي) في الهند، وغيرهم، يهدد بنقل عدوى الحكم الديكتاتوري إلى دول كانت تُرَوّج للعالم كمنارة للديمقراطية، مثل هذه الشخصيات غالبًا ما تستغل أدوات النظام الديمقراطي للوصول إلى السلطة، ثم تعمل على تقويض تلك الأدوات لضمان بقائها في الحكم، في ظل هذا التحوّل، قد تصبح الأنظمة الديمقراطية الغربية أقل صلابة أمام الأزمات، ما قد يفتح الباب أمام حكومات استبدادية مدعومة من التيارات الشعبوية.

يمثل صعود اليمين المتطرف تحديًا خطيرًا لما يسمى (القيم الغربية) التي ترتكز على التعددية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، وإن معاداة اليمين المتطرف للمهاجرين، والأقليات، والمجتمعات ذات الثقافات المختلفة، قد يؤدي إلى تعميق الانقسامات الداخلية، ما يضعف المجتمعات الغربية ويجعلها أكثر هشاشة أمام الأزمات، علاوة على ذلك، فإن السياسات الانعزالية والشعبوية التي يتبناها قادة اليمين المتطرف قد تقود إلى تراجع التعاون الدولي وتصاعد النزاعات الجيوسياسية.

لا تقتصر تداعيات صعود اليمين المتطرف في الغرب على الداخل فقط، بل تمتد إلى العلاقات الدولية. ومن الجهات التي قد تعاني من هذا الصعود أيضًا: الدول والمجتمعات التي يعاديها هذا التيار، بما في ذلك الأقليات العرقية والدينية داخل وخارج العالم الغربي، في ظل هذه المعاداة، قد تظهر حركات مضادة تمثل “يمينًا متطرفًا آخر” في الدول والمجتمعات المتضررة، مما يؤدي إلى صراعات أيديولوجية وسياسية قد تهدد السلم الدولي، أو بالأحرى تهدد سيطرة الغرب على العالم، أو تهدد مصالحه وحتى أراضيه، لذلك فإن صعود اليمين المتطرف بالنسبة للدول الغربية، ليس مجرد تحدٍ سياسي داخلي، بل هو أزمة عالمية تهدد النظام الديمقراطي الغربي والقيم الليبرالية.

في ظل هذه التحولات، نرى الكثير من التخوفات الغربية من تنامي قوة اليمين المتطرف وتأثيره وتهديده لأسس الحضارة الغربية المعاصرة، منها المقال الذي نتناوله ونُشر مؤخرًا في مجلة (بروسبيكت – Prospect) البريطانية بعنوان: (ديمقراطية في دوامة الهلاك – لكنها لم تمت بعد / Democracy is in a doom spiral – but it isn’t dead yet)

كاتب المقال هو “كاس مود” أستاذ الشؤون الدولية في عدد من الجامعات الغربية، وحاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ليدن، يُعرف بمؤلفاته التي تركز على اليمين المتطرف والشعبوية، من أبرزها كتاب (اليمين المتطرف اليوم) وصدر في 2019م، و(الشعبوية.. مقدمة قصيرة جدًّا) وصدر في 2017م.

ديمقراطية.. سريعة الذوبان

اليمين المتطرف.. واحتضار الديمقراطية في الغرب 

يتناول المقال واقع الديمقراطية الليبرالية المعاصرة في مواجهة صعود اليمين المتطرف على مستوى العالم، ويركز المقال على تحليل الأسباب الهيكلية والسياسية التي مكّنت من انتشار الشعبوية والسلطوية في مختلف الديمقراطيات، ويربط ذلك بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكبرى التي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة، يهدف المقال إلى لفت الانتباه إلى التحديات التي تواجه الديمقراطية الليبرالية، وكيفية التصدي لصعود اليمين المتطرف وضمان استدامة قيم الديمقراطية.

يبدأ المقال بالحديث عن التهاني التي تلقاها “دونالد ترامب” من قادة اليمين المتطرف بعد فوزه في الانتخابات، مما يعكس الترابط العالمي بين هذه القوى، ويشير الكاتب إلى أن عام 2024 كان عامًا حاسمًا لصعود اليمين المتطرف في العديد من الديمقراطيات، لكنه ليس تحولًا جديدًا، بل نتيجة لتحولات بدأت منذ بداية القرن الحادي والعشرين.

يشير المقال إلى أن (الديمقراطية الانتخابية)2 رغم استمرارها، تتعرض لتآكل مستمر، حيث إن صعود “جيل جديد من المستبدين” واستخدام التكنولوجيا لتقسيم الناخبين يهددان قيم الديمقراطية.

ويستعرض الكاتب النجاحات الانتخابية التي حققتها أحزاب اليمين المتطرف في مختلف الدول، مشيرًا إلى أن هذه الأحزاب أصبحت قوة سياسية أساسية، مع تحقيق انتصارات كبيرة في الاتحاد الأوروبي والهند والولايات المتحدة. ومع ذلك، يشير الكاتب إلى التناقض بين النجاحات الانتخابية والضعف المؤسسي لهذه الأحزاب في بعض الدول.

يحلل الكاتب الأسباب التي جعلت اليمين المتطرف المستفيد الأكبر من الأزمات العالمية مثل الأزمات الاقتصادية، وجائحة كوفيد-19، والحرب الروسية الأوكرانية، ويشير إلى أن هذه الأزمات كشفت عن إخفاقات (الليبرالية الجديدة)3 ما جعل اليمين المتطرف يستغل هذا الفراغ الأيديولوجي لتعزيز مواقفه.

ويلفت الكاتب الانتباه إلى دور وسائل الإعلام في الترويج لليمين المتطرف، حيث استفادت هذه القوى من التغطية الإعلامية المفرطة ومن الخوارزميات التي تعزز المحتوى المتطرف.

كما ينتقد الكاتب النخب السياسية التي تُطبّع مع اليمين المتطرف لأسباب استراتيجية قصيرة المدى، مما أدى إلى تعزيز شرعية هذه القوى، كما يشدد على ضرورة تحمل وسائل الإعلام والنخب السياسية مسؤولية تعزيز الديمقراطية الليبرالية وعدم الانجراف وراء الشعبوية.

ويرى الكاتب أن الديمقراطية الليبرالية تواجه تحديات غير مسبوقة، ما يتطلب استجابة سياسية مختلفة عن تلك التي واجهت الفاشية في القرن العشرين، أو اليمين المتطرف في الثمانينيات، ويدعو الكاتب إلى معركة إيجابية من أجل الديمقراطية الليبرالية تتجاوز مجرد التصدي لليمين المتطرف، مؤكدًا على أهمية بناء توافقات سياسية تحترم التعددية.

ويشير الكاتب إلى أن (الديمقراطية الانتخابية) لا تزال موجودة وتتوسع في العالم، لكن (الديمقراطية الليبرالية) تتعرض لتآكل خطير بسبب صعود اليمين المتطرف والسلطوية، مما يجعل من الضروري حماية قيم الديمقراطية الليبرالية لضمان بقاء النظام الديمقراطي شاملًا وعادلًا.

المقال يعبّر عن حالة من القلق الشديد بشأن صعود اليمين المتطرف وتأثيره السلبي على الديمقراطية الليبرالية، ولكنه في الوقت نفسه يحاول الحفاظ على نبرة متفائلة وحذرة توحي بأن الديمقراطية الليبرالية ربما لا تزال قادرة على الصمود.

قلق الكاتب يبدو في إيضاح أن اليمين المتطرف لم يعد تيارًا هامشيًا، بل أصبح قوة سياسية مؤثرة، سواء في الانتخابات أو في التأثير على الخطاب السياسي العام، ويشير إلى أن هذا الصعود يحدث على حساب القيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية، مثل حماية الأقليات، واستقلال القضاء، وحرية الإعلام، كما عبّر عن خوفه من أن تصبح هذه الظاهرة جزءًا من “التيار السائد”؛ ما قد يؤدي إلى تطبيع القيم الاستبدادية والشعبوية.

رغم هذا القلق الواضح في المقال، يرى الكاتب أن الديمقراطية الليبرالية لا تزال النظام المهيمن عالميًا، وأن صعود اليمين المتطرف يواجه تحديات بنيوية قد تحدّ من قدرته على التحول إلى قوة حاكمة مستقرة في معظم الدول.

ويرى أن الديمقراطية الليبرالية تتمتع بأدوات مؤسسية قوية، مثل القضاء المستقل والمجتمع المدني النشط، التي يمكن أن تحميها من الانهيار الكامل.

مثل هذه المقالات تكشف عمق الخلل في القيم والأسس الفكرية التي بُنيت عليها الحضارة الغربية، وأنها لا تعدو مجرد اجتهاد بشري قابل للخطأ والصواب، لكن الغرب رفع هذه القيم إلى منزلة المقدس غير القابل للمس، ثم هو اليوم يصرخ خائفًا من انهيار هذه القيم لأن “فصيل غربي” استخدم آلية عمل هذه القيم.. لهدمها!!

نص المقال

“«لدينا خطط كبيرة للمستقبل!» هكذا غرّد “فيكتور أوربان” رئيس وزراء المجر، بعد مكالمته الهاتفية الأولى مع “دونالد ترامب” بعد ساعات فقط من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.

وكان سياسيون آخرون من أقصى اليمين في غاية النشوة، من الأرجنتين وإسرائيل إلى المملكة المتحدة، وأشادت “جورجيا ميلوني” من إيطاليا بـ«التحالف الراسخ والقيم المشتركة والصداقة التاريخية» بين بلادها والولايات المتحدة.

اليمين المتطرف.. واحتضار الديمقراطية في الغرب 

والواقع أن زعماء من جميع الأطياف سارعوا إلى تهنئة “ترامب” والتأكيد على العلاقات الوثيقة بين بلادهم، فقال “ديك شوف” زعيم الائتلاف الهولندي الذي يهيمن عليه أقصى اليمين: «أتطلع إلى تعاوننا الوثيق بشأن المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وهولندا»، أما اليساري “كير ستارمر” رئيس الوزراء البريطاني4 فقال: «بصفتنا أقرب الحلفاء، فإننا نقف جنبًا إلى جنب في الدفاع عن قيمنا المشتركة المتمثلة في الحرية والديمقراطية والمبادرة».

لا شك أن عام 2024 كان عامًا عظيمًا لليمين المتطرف، وعامًا رهيبًا للحكام الحاليين، وعامًا سيئًا للديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، ومع ذلك، لن يكون تأثيره كبيرًا مثل “العام الرهيب” 2016، الذي خرجت فيه بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتصر فيه “ترامب” الأول بولايته الأولى.

والسبب بسيط بقدر ما هو محبط: كما زعمتُ في كتابي الصادر عام 2019 بعنوان (اليمين المتطرف اليوم)، بدأ اليمين المتطرف عملية الاندماج والتأقلم منذ فترة طويلة، لم يكن العام الماضي عام تحوّل سياسي، بل كان نتاجًا للتحوّل السياسي الذي بدأ في بداية القرن.

عام 2024 تم الترويج له باعتباره “عام الانتخابات” فقد أجرت 70 دولة يبلغ مجموع الناخبين فيها حوالي ملياري ناخب انتخابات؛ ومع ذلك، لم تكن كل هذه الانتخابات حرة ونزيهة، في العديد من الانتخابات الكبرى، مثل تلك التي جرت في الاتحاد الأوروبي والهند والولايات المتحدة، حقق اليمين المتطرف نتائج جيدة، وتساءلت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم بشكل قاتم عما إذا كانت الديمقراطية قادرة على البقاء.

قبل الانتخابات الأمريكية، وفي تقييم متفائل بشكل مدهش، خلصت مجلة الإيكونوميست البريطانية إلى أن «الديمقراطية أثبتت أنها مرنة بشكل معقول في حوالي 42 دولة كانت انتخاباتها حرة، مع إقبال قوي على التصويت، وتلاعب محدود بالانتخابات وبعض العنف، ودليل على ترويض الحكومات القائمة». 

ولكن من باب الإنصاف، فقد أَتبعت المجلة هذا التقييم، الذي استبقت به الانتخابات الأمريكية بشكل واضح، بالتحذير التالي: «ومع ذلك، هناك علامات على مخاطر جديدة، بما في ذلك صعود جيل جديد من المستبدين المبتكرين البارعين في مجال التكنولوجيا، وتفتت الناخبين، ومحاولة القادة المغادرين الحكم من وراء القبر السياسي».

هناك العديد من المفاهيم المختلفة للتمييز بين اليسار واليمين، لكنني أعرّف الأيديولوجيات اليمينية على أنها تلك التي تعتبر عدم المساواة الاجتماعية أمرًا جيدًا أو طبيعيًا وتعتقد أنه لا ينبغي للدول أن تحاول خلق مجتمعات أكثر مساواة.

وضمن هذه المجموعة العريضة، يدعم “اليمين السائد” كل من المؤسسات والقيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية، أما اليمين المتطرف فلا يدعمها، ففي صميمه توجد النزعة القومية، وهي شكل من أشكال القومية المعادية للأجانب، والسلطوية، وهي إيمان أساسي بالنظام والانضباط. 

في داخل اليمين، يرفض اليمين المتطرف الديمقراطية، فكرة أن الناس ينتخبون زعيمهم بالأغلبية ، بينما يعارض اليمين السائد فقط عناصر الديمقراطية الليبرالية، ولا سيما حقوق الأقليات والفصل بين السلطات، ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، أصبح جزء من هذه المجموعة متطرفًا، منهم على سبيل المثال، هناك من قام بتقويض النظام الديمقراطي (مثل أوربان) في المجر، أو من رفض نتائج الانتخابات (مثل ترامب)، وذلك دون الدفاع علانية عن نظام غير ديمقراطي، من الأفضل أن يشار إلى هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة الهجينة على أنها أقصى اليمين.

هدم بنية الديمقراطية.. بأدواتها

كتاب كيف تموت الديمقراطيات ومؤلفيه
كتاب: (كيف تموت الديمقراطيات)، ومؤلفيه: “دانيال زيبلات” و”ستيفن ليفيتسكي”

إذا ركزنا حصريًا على نتائج أحزاب اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية، فلن نرى فقط أن جميعها تقريبًا فازت في عام 2024، بل وأيضًا أن معظمها فاز بأغلبية كبيرة، لكن هناك فقط استثناءان رئيسيان، فقد خاض حزب “النهضة” البلغاري انتخابات برلمانية مرتين في عام 2024 وحصل على نتائج متطابقة تقريبًا.

والأمر الأكثر أهمية، والمثير للدهشة، هو أن حزب “بهاراتيا جاناتا” الحاكم في الهند، والذي كان من المتوقع على نطاق واسع أن يهزم المعارضين، في انتخابات تبدو حرة ولكنها غير عادلة، فقد نظمها بنفسه وهو في السلطة، لكنه تراجع.

إلى جانب ذلك، كانت هناك ثلاث زيادات صغيرة لليمين المتطرف (أقل من 2٪) وخمس زيادات كبيرة (أكثر من 10٪) من بينها ما حدث في فرنسا والمملكة المتحدة.

ويجب أن نضيف النتائج الجيدة في الانتخابات الرئاسية لـ”جوسي هالا آهو” زعيم حزب الفنلنديين، و”دونالد ترامب”، فضلاً عن النتائج الممتازة في الانتخابات الأوروبية، حيث فازت أحزاب اليمين المتطرف بنحو ربع الأصوات وما يقرب من 200 مقعد من أصل 720.

علاوة على ذلك، ينتمي اثنان من أكبر ثلاثة أحزاب في البرلمان الأوروبي الجديد إلى أقصى اليمين: حزب “التجمع الوطني” بزعامة “مارين لوبان” وهو الأكبر، وحزب “إخوان إيطاليا” بزعامة “ميلوني” وهو ثالث أكبر الأحزاب، ومع ذلك، في حين كان اليمين المتطرف هو العائلة الأيديولوجية الوحيدة التي فازت في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي تقريبًا، وفي بعض البلدان، كانت هناك اختلافات وطنية وإقليمية دقيقة.

تغيّر شكل اليمين المتطرف بشكل أساسي، على سبيل المثال، في إيطاليا، ظلت النتيجة الإجمالية كما هي إلى حد كبير، لكن حزب “الرابطة” بزعامة “ماتيو سالفيني” خسر معظم ناخبيه أمام حزب “إخوان إيطاليا” بزعامة “ميلوني”، وفي أغلب بلدان شمال أوروبا، كان أداء اليمين المتطرف ضعيفًا نسبيًا، ولا سيما حزب الفنلنديين (PS) والديمقراطيين السويديين (SD)، وهما الحزبان اللذان يشكلان جزءًا من الحكومة الائتلافية الوطنية أو يدعمانها.

إن الانتخابات الوطنية يكون تأثيرها دائمًا على المستوى المحلي لكل دولة، لكن بعض المحللين وضعوا النتائج الجيدة التي حققها اليمين المتطرف في سياق سياسي عالمي، فقد لاحظوا “اتجاها عالميا يطالب بالإطاحة بالحكام الحاليين”، وربطوا ذلك غالبا بالاستجابات (المتأخرة) لعواقب جائحة كوفيد-19، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، وقد لخص “جون بيرن مردوخ” كبير الصحفيين المتخصصين في البيانات في صحيفة “فاينانشال تايمز” ما حدث في العام الماضي على النحو التالي: «الاضطرابات الاقتصادية + الاضطرابات الاجتماعية = نتائج انتخابات 2024».

هذا التفسير المختصر غير المعتاد يعكس إلى حد كبير الحكمة الموروثة حول نجاح اليمين المتطرف في العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، أي أنه يصعد مع الأزمات والاضطرابات العالمية.

في حين أنه من المؤكد أن اليمين المتطرف يستفيد من “الأزمات” الاقتصادية والسياسية التي تخلق قلقًا اقتصاديًا وردود فعل ثقافية، إلا أنه نادرًا ما يُطرح السؤال حول سبب كون اليمين المتطرف هو المكوّن السياسي الوحيد الذي يستفيد منها.

من المؤكد أنه من المنطقي أن يكون اليمين المتطرف هو الذي يستفيد مما يسمى “أزمة اللاجئين” أو حتى هجوم 11 سبتمبر، وذلك بالنظر إلى رد الفعل المعادي للإسلام، ولكن من غير الواضح لماذا قد يستفيد من الأزمات الكبرى الأخرى في القرن الحادي والعشرين: الركود الاقتصادي، وجائحة كوفيد-19، والحرب الروسية الأوكرانية، لا يرتبط أي من هذه الأزمات بشكل مباشر بالسمة الأساسية لليمين المتطرف وهي: النزعة القومية المعادية للأجانب.

في الواقع، كان من الممكن أن تؤدي هذه الأزمات الثلاث جميعها بنفس القدر إلى زيادة الدعم لليسار (الوسطي والراديكالي)، نظرًا لأنها كشفت جميعًا عن إخفاقات الليبرالية الجديدة ومحدوديتها، ففي حالة الركود العظيم، كان هذا الفشل منهجيًا، بينما ألقت كل من جائحة كوفيد-19 والحرب بين روسيا وأوكرانيا الضوء على المشاكل المرتبطة بخصخصة الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والطاقة، وأكدت على أهمية تدخل الدولة والتخطيط، ومع ذلك، وباستثناءات قليلة، نادرًا ما تمكنت الأحزاب اليسارية والسياسيون اليساريون من تحقيق مكاسب في السنوات الأخيرة، وحتى في عام 2024، كان اثنان من أكثر “الانتصارات” اليسارية شهرةً أبعد ما يكون عن تحقيق المكاسب.

ففي المملكة المتحدة، فاز حزب العمال بأكبر زيادة في المقاعد منذ عام 1945، ولكن بنسبة 1.6% فقط من الأصوات مقارنة بعام 2019. وبالأرقام المطلقة، حصل “كير ستارمر” على أكثر من نصف مليون صوت أقل مما حصل عليه “جيريمي كوربين” في عام 2019، وهذا بعد أكثر من 14 عامًا من حكم المحافظين الكارثي، ومع وصول حزب المحافظين إلى مستويات منخفضة تاريخيًا من الدعم، وعلاوة على ذلك، من الناحية الانتخابية، كان الفائز الأكبر في الانتخابات البريطانية لعام 2024 هو “نايجل فاراج” اليميني، وليس “ستارمر” اليساري، ففي حين زاد حزب العمال من دعمه الانتخابي بنسبة 1.6% فقط، اكتسب حزب “فاراج” الجديد “الإصلاح” 12.3% أكثر من حزبه القديم “بريكست” في عام 2019.

وعلى نحو مماثل، بينما احتُفِيَ بالانتخابات البرلمانية الفرنسية باعتبارها انتصارًا لليسار المتطرف وهزيمة لليمين المتطرف، لم يصبح “التجمع الوطني” الحزب الأكبر فحسب، بل حصل أيضًا على أصوات أكثر من “الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية”، وهي قائمة انتخابية تضم نحو اثني عشر حزبًا مجتمعًا.

وكما هو الحال في المملكة المتحدة، كان النظام الانتخابي غير المتكافئ، وليس الناخبين، هو الذي منح اليسار الفرنسي “النصر”، وباختصار، حتى في البلدان القليلة التي فاز فيها اليسار سياسيًا، كان اليمين المتطرف هو الذي فاز انتخابيًا.

الهزات السياسية التي شهدها عام 2016 أدت إلى نشوء صناعة محلية من “الأدب السياسي المتشائم” وفي عام 2024، أصبحت الكتب التي تتحدث عن “موت الديمقراطية والليبرالية” من أكثر الكتب مبيعًا، في حين طغت العناوين الرئيسية حول “الأزمة العالمية للديمقراطية”، وبدا أن بعض الدراسات تدعم الذعر الأخلاقي، فعلى سبيل المثال، حسبت مؤسسة V-Dem Project المؤثرة أن نسبة سكان العالم الذين يعيشون في ظل الديمقراطية قد انخفضت إلى 29% في عام 2021. ومع ذلك، فقد تأثر هذا الانخفاض بشدة بتآكل الديمقراطية في عدد قليل من البلدان المكتظة بالسكان، وأبرزها الهند، وعليه، هل “الديمقراطية” حقًا في أزمة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ستنجو مما سيأتي بعد ذلك؟

كما هي الحال في كثير من الأحيان، فإن الإجابة تعتمد جزئيًا على كيفية تعريفنا للديمقراطية، ففي الديمقراطيات الانتخابية، يمكن للناس انتخاب ممثليهم في انتخابات حرة ونزيهة، لكنهم يفتقرون إلى الحماية الليبرالية مثل حقوق الأفراد والأقليات، والتي لا تضمنها إلا الديمقراطيات الليبرالية، وكما نرى، فإن عدد الديمقراطيات الانتخابية لا يزال في ازدياد، وإن كان أقل إثارة مما كان عليه في العقود السابقة، ومع ذلك، فإن عدد الديمقراطيات الليبرالية، الذي هو أقل كثيرًا بطبيعة الحال، آخذ في التناقص في هذا القرن، وبشكل عام، تواجه الشعوب في كل من الديمقراطيات والأنظمة الأوتوقراطية5 “الاستبداد”، وهذه هي القصة الحقيقية للقرن الحادي والعشرين، أن الديمقراطيات الليبرالية تتآكل، كما تم تحليلها بدقة في كتاب (كيف تموت الديمقراطيات) لـ”دانيال زيبلات” و”ستيفن ليفيتسكي” وهو أحد الكتب القليلة التي تتحدث عن “هلاك الديمقراطية” والتي ساعدتنا بالفعل على فهم السياسة اليوم.

من حيث الأرقام المطلقة، لم تتغير الانتخابات الكثيرة التي جرت هذا العام إلا قليلًا، ورغم خسارة شاغلي المناصب وفوز اليمين المتطرف في العديد من البلدان، فإن نوع النظام في معظم البلدان ظل دون تغيير، وفي الغالبية العظمى من الحالات، سيظل اليمين المتطرف في المعارضة، بينما في الهند كان موجودًا بالفعل في السلطة.

ومع ذلك، فإن القوة المتزايدة لليمين المتطرف، فضلًا عن استمراره في التيار الرئيسي وتناميه، من شأنه أن يضعف حقوق الأقليات والمؤسسات المهمة، مثل وسائل الإعلام والجامعات.

لكن عام 2024 جلب تغييرًا واحدًا للنظام، وفي أقوى دولة في العالم، فعودة “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض لن تؤثر فقط على حالة الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة، بل أيضًا في جميع أنحاء العالم.

أولًا وقبل كل شيء، لن يكون “ترامب” 2.0 مثل “ترامب” 1.0، فبينما كانت فترة ولايته الأولى حكومة ائتلافية مع المؤسسة الجمهورية القديمة، بقيادة زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ “ميتش ماكونيل” لن يواجه ترامب معارضة سياسية تذكر هذه المرة، وعلاوة على ذلك، سوف يرأس “ترامب” حكومة موحدة، تسيطر على مجلسي الكونجرس، في حين تسيطر بحكم الأمر الواقع على المحكمة العليا أيضًا، ويأتي الثقل الموازن الرئيسي من النظام الفيدرالي القوي في البلاد، ولكن هذا لا يحمي إلا الناس في الولايات التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي.

وبالمثل، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن ترامب 2.0 سيكون أسوأ بكثير، ففي إدارته الأولى، كان موقف السياسة الخارجية لترامب غير مبالٍ في الغالب، فقد انسحبت البلاد من بعض الاتفاقيات الدولية الرئيسية، مثل اتفاق باريس للمناخ، كما أنه نظر إلى بقية العالم بعدم اهتمام.

وكان أحد الجوانب الإيجابية القليلة لذلك هو أنه لم تكن هناك محاولة حقيقية لتنظيم “جبهة عالمية موحدة ضد الليبرالية”، ما أثار خيبة أمل كبيرة لدى قادة اليمين المتطرف الآخرين مثل “لوبان” في فرنسا و”أوربان” في المجر وبدلًا من ذلك، طوّر ترامب “علاقات صداقة” مع مجموعة متنوعة أيديولوجيًا من المستبدين، بما في ذلك “كيم جونغ أون” في كوريا الشمالية و”فلاديمير بوتين” في روسيا، ولكن كان الدافع وراء ذلك في الغالب هو المصلحة المالية الشخصية.

وعلى الرغم من أن ترامب قد اكتسب الآن بعض “الأصدقاء” اليمينيين المتطرفين الجدد، وأبرزهم “أوربان”، فإنه يظل غير مهتم إلى حد كبير بالسياسة الدولية، ولكن الأشخاص المهمين الذين يدورون في فلكه، وفي الحزب الجمهوري بشكل عام، أصبحوا أكثر قربًا من الأحزاب والسياسيين اليمينيين المتطرفين في مختلف أنحاء العالم، وشارك بعض الجمهوريين رفيعي المستوى في اجتماعات أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا.

الآن يدرك المستبدون والمليارديرات مدى سهولة التلاعب بترامب: “رسالة جميلة” أو “شيك كبير” من شأنه أن يشتري الدعم والنفوذ، كما أظهر “كيم جونج أون” و”إيلون ماسك”، وبسبب الاستيلاء الكامل عليه من قبل السياسيين الاستبداديين المحليين والأجانب ورجال الأعمال “الليبراليين”، فإن “ترامب” 2.0 سيكون أقل اهتمامًا بحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.

لم يكن أي من هذا حتميًا، فإن صعود اليمين المتطرف وأزمة الديمقراطية، هي عواقب الخيارات السياسية، إلى حد كبير، من قبل الأشخاص الأكثر امتيازًا، بما في ذلك وسائل الإعلام والنخب السياسية، وعلى المستوى الجزئي، يمكن تفسير هذه الخيارات بشكل رئيسي بالغطرسة والجهل والمصلحة الذاتية، ولكن على المستوى الكلي، فإنها تكشف عن قضية هيكلية أكثر إشكالية: الدعم المحدود للديمقراطية الليبرالية وضعفها المتأصل.

أبواق إعلامية كبيرة ومزعجة

اليمين المتطرف.. واحتضار الديمقراطية في الغرب 

لقد حقق اليمين المتطرف اختراقه الانتخابي قبل أن يتمكن من بناء بنية تحتية إعلامية قوية، فعلى مدى سنوات، كان اليمين المتطرف ووسائل الإعلام عدوَين لكن يحب كل منهما الآخر، فمن ناحية، قدمت العديد من وسائل الإعلام، لا سيما الصحف الشعبية، تغطية متعاطفة مع وجهات النظر الاستبدادية والقومية والشعبوية، ومن ناحية أخرى، كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة والسياسيون يشتكون من التغطية السلبية من وسائل الإعلام الأخرى، ويهاجمونها بوصفها “أخبارًا مزيفة” ولكنهم استفادوا أيضًا من الاهتمام الإعلامي غير المتناسب الذي حظوا به.

ومع تزايد انتشار اليمين المتطرف، لا سيما من خلال التعاون وحتى الاندماج مع اليمين السائد، أصبحت العديد من وسائل الإعلام اليمينية داعمة علنًا للأحزاب والسياسيين اليمينيين المتطرفين، على سبيل المثال، حظي “جايير بولسونارو” بدعم العديد من التكتلات الإعلامية الكبرى في البرازيل، وكذلك صحيفة “وول ستريت جورنال” في الولايات المتحدة، في حين أصبحت “فوكس نيوز” ومجموعة من الأصوات الإعلامية اليمينية الأحدث والأكثر تطرفًا أبواقًا لـ”ترامب” والحزب الجمهوري المتطرف.

وبالمثل، ساعدت صحيفة “إسرائيل هايوم” المجانية، التي يمولها الملياردير الأمريكي “شيلدون أديلسون” بتكلفة مالية كبيرة، في دفع إسرائيل نحو اليمين أكثر فأكثر ودعمت “بنيامين نتنياهو” الذي يقود حكومة يمينية متطرفة الآن. وقد فعل “فنسنت بولوريه” “مردوخ الفرنسي”، الشيء نفسه في فرنسا من خلال إمبراطوريته الإعلامية الجديدة.

ومن الواضح أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا أيضًا، وإن لم يكن دورها كبيرًا كما هو مفترض عمومًا، صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي أضعفت دور حراس البوابة6 واستُخدمت بذكاء من قبل بعض الجهات اليمينية المتطرفة، فعلى سبيل المثال، كان “خيرت فيلدرز” فعالًا بشكل لا يصدق في تحديد الأجندة السياسية من خلال “تويتر” حيث كان يرسل تغريدة “استفزازية” في الصباح، فيلتقطها الصحفيون الذين يستخدمونها لمواجهة السياسيين الرئيسيين، الذين يردون عليها بعد ذلك، ثم يرد عليها “فيلدرز” مرة أخرى في المساء، وهكذا يتحكم في دورة الأخبار اليومية بأكملها.

وعلاوة على ذلك، أظهرت العديد من الدراسات كيف يستفيد اليمين المتطرف من “التطرف الخوارزمي”، أو بعبارة أخرى، العملية التي تدفع من خلالها منصات وسائل التواصل الاجتماعي الناس إلى “جحور الأرانب الرقمية”7 مما يعرضهم لمزيد من المحتوى المتطرف. ومع ذلك، وجدت الدراسات أيضًا أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على السلوك الانتخابي متواضع نسبيًا. وبالمثل، فإن الانطباعات الأولى تشير إلى أن تأثير الذكاء الاصطناعي على الانتخابات أقل بكثير مما كان يُخشى منه. 

والأهم من ذلك بكثير هو سلوك النخب السياسية، ومعظمها، ولكن ليس حصريًا، من اليمين، تمامًا كما حدث في أوروبا في أوائل القرن العشرين، لعبت النخب السياسية دورًا حاسمًا في تعميم وتطبيع اليمين المتطرف، فبعد تجاهلها أو نبذها إلى حد كبير في البداية، تبنّت العديد من الأحزاب اليمينية رسالة اليمين المتطرف بعد اختراقه الانتخابي، كما أنّ تَبَنّيَ أطره ومواقفه، لا سيما فيما يتعلق بالهجرة، جعل اليمين المتطرف شريكًا منطقيًا في التحالفات بشكل متزايد، ويمكن ملاحظة ذلك في جميع الدول الأوروبية تقريبًا.

في حين لم يكن هناك سوى عدد قليل من البلدان التي كانت لديها حكومة تضم اليمين المتطرف في التسعينيات، فإن اليمين المتطرف أصبح الآن جزءًا من الحكومات على المستوى الوطني ودون الوطني في معظم دول الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن عدد متزايد من البلدان في آسيا والأمريكتين.

لم تُجبر هذه النخب على تبني اليمين المتطرف، لقد اختاروا القيام بذلك، غالبًا لأسباب استراتيجية أكثر من كونها أيديولوجية، معتقدين أن ذلك سيفيدهم في نهاية المطاف، وفي معظم الحالات، قللت النخب السائدة أيضًا من شأن اليمين المتطرف، معتقدة أنها تستطيع السيطرة عليه، في حالة كل من “بولسونارو” البرازيل و”ترامب” كان هناك شعور قوي بأن “الكبار في الغرفة” سيتحكمون في هؤلاء المتهورين غير الأكفاء، كما كان قبل قرنٍ من الزمان، حين ظنت النخب اليمينية في إيطاليا وألمانيا الشيء نفسه بشأن “بينيتو موسوليني” و”أدولف هتلر” وكانت النتائج مماثلة.

غالبًا ما تدعي وسائل الإعلام والنخب السياسية أن هؤلاء المحافظين من التيار الرئيسي يفعلون ببساطة ما يريده “الشعب” ولكن في حين أنه من الصحيح أنهم تجاهلوا منذ فترة طويلة تفضيلات وأصوات اليمين المتطرف، إلا أن الصحفيين والسياسيين غالبًا ما يعتقدون أن “الشعب” أكثر يمينية مما هو عليه في الواقع، كما يعتقدون أيضًا أن الشعوب أصبحت أكثر يمينية في السنوات الأخيرة، وهو أمر خاطئ من الناحية التجريبية أيضًا، فقد وَجد عالِم السياسة الأمريكي “لاري بارتلز” أن الناس في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم ينتقلوا إلى اليمين.

وعلى نحو مماثل، في حين أطلقت النخب اليمينية العنان لرد فعل عنيف ضد “ثورة حقوق المثليين في أميركا اللاتينية”، فإن الناس أصبحوا أكثر تقبلًا لحقوق المثليين، وهذا ليس لأن الناس غيروا رأيهم، بل لأن الشباب الأكثر انفتاحاً يحلون محل كبار السن الأكثر عزلة، بسبب رحليهم عن الدنيا.

ومع ذلك، فقد غيّر الناخبون تركيزهم، فكانت السياسة تدور حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية في القرن العشرين، لكن في القرن الحادي والعشرين هيمنت عليها بشكل متزايد القضايا الاجتماعية والثقافية، أي أن الحروب الثقافية حلت محل الصراع الطبقي، إذًا فهذه ليست عملية تحوّل من القاعدة إلى القمة، فالناس يتبعون النخب التي تملك سلطة وضع الأجندة، وقد أظهرت العديد من الأبحاث أنه عندما تركز وسائل الإعلام الكثير من تغطيتها على قضايا محددة، مثل الهجرة، فإن الناس سيجدونها أكثر أهمية.

قبل الطعنة الأخيرة في جسد الديمقراطية

اليمين المتطرف.. واحتضار الديمقراطية في الغرب 

لا شك أن السنوات القادمة سوف تشهد طفرة هائلة أخرى في “أدبيات الدمار الديمقراطي”، وسوف يتطلع كثيرون إلى الماضي للعثور على إجابات للمستقبل، ولكن أيًا منهما لن يساعدنا كثيرًا، ولمحاربة اليمين المتطرف وتعزيز الديمقراطية الليبرالية، يتعين علينا أن نتعلم الدروس الصحيحة، فنحن لا نواجه اليمين المتطرف في الثمانينيات ولا في الثلاثينيات، فإن تهديد اليمين المتطرف والسياق السياسي مختلفان اختلافًا جوهريًا، وبالتالي، سوف يتعين على الحلول السياسية أن تكون مختلفة اختلافًا جوهريًا أيضًا، وبغض النظر عما إذا كنا نعتقد أننا نتعامل مع نفس الأيديولوجية السابقة، فإن اليمين المتطرف المعاصر هو تهديد انتخابي في المقام الأول، وهو ما لم تكنه الفاشية التاريخية أبدًا.

وباستثناءات قليلة، أبرزها حزب هتلر النازي، كان الفاشيون قوى ثانوية في الانتخابات ولم يصلوا إلى السلطة إلا من خلال انقلاب شبه عسكري (مسيرة موسوليني إلى روما) أو من خلال الاحتلال الأجنبي، خاصة ألمانيا النازية، وعلاوة على ذلك، تغير السياق السياسي تغيرًا جذريًا، ففي ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الديمقراطية غير شعبية إلى حد كبير وغير مجربة، واليوم، لا تزال الديمقراطية مهيمنة، حتى لو كان الدعم لها يتراجع.

إن الطريقة الوحيدة لحماية الديمقراطية من اليمين المتطرف المعاصر هي فهم اليمين المتطرف والديمقراطية على ما هما عليه اليوم، وليس ما كانا عليه قبل أربعين أو مائة عام، فعلى مستوى النخب والجماهير، أصبح اليمين المتطرف سائدًا وطبيعيًا، ولا تزال الديمقراطية مهيمنة، أما الديمقراطية الليبرالية فلا تزال موضع نزاع.

ورغم أهمية المعركة ضد اليمين المتطرف، إلا أنها لا ينبغي أن تكون المعركة النهائية، وبدلًا من ذلك، يجب أن تكون المعركة ضد اليمين المتطرف أيضًا، بل وفي المقام الأول، معركة من أجل الديمقراطية الليبرالية، يجب أن تكون إيجابية وليست سلبية، استباقية وليست تفاعلية، ويجب أن تكسب تلك القطاعات من النخب والجماهير التي لا تحب الديمقراطية الليبرالية أو لا تفهمها، وفي حين أنه سيكون من المثالي، أن يتحقق هذا على أسس أيديولوجية ومعيارية بحتة، فمن المهم أيضًا أن نناشد المصلحة الذاتية، ففي نهاية المطاف، الديمقراطية الليبرالية هي النظام الوحيد الذي يحمي حقوق الأقليات، ويمكن أن يصبح الجميع أقلية في وقت ما.

لكن الديمقراطية الليبرالية القوية تتطلب أيضًا تحمل المسؤولية، من النخب والجماهير على حد سواء، يجب على النخب الإعلامية والسياسية أن تتوقف عن إهمال أو حتى رفض نيابة “الشعب”، ولا يتم “إغواء” الناخبين أو “خداعهم” من قبل السياسيين اليمينيين المتطرفين، فالناخبون لا “يُغوون” أو “يخدعون” من قبل السياسيين اليمينيين المتطرفين، فهم يعرفون من وما الذي يصوتون له، وحتى لو لم يكونوا يعرفون، فإنه من واجب النخب تزويدهم بمعلومات دقيقة كافية لتكوين وجهات نظر. 

يجب على النخب الديمقراطية الليبرالية عدم الترويج والتطبيع مع الجهات الفاعلة والأفكار اليمينية المتطرفة، وهذا لا يعني أنه ينبغي تجاهل اليمين المتطرف -ممثليه وأفكاره وأنصاره- ولكن لأن اليمين المتطرف يهدد الديمقراطية الليبرالية، ينبغي التعامل معه بشكل مختلف عن الأحزاب الرئيسية التي تدعم الديمقراطية الليبرالية. لقد أثبتت شخصيات اليمين المتطرف إلى حد كبير أنها جهات سيئة النية، تنشر نظريات المؤامرة والأكاذيب، ولا يمكن لوسائل الإعلام الديمقراطية الليبرالية أن تأخذهم على غير محمل الجد، وبدلًا من نشر مقالات الرأي أو المقابلات غير النقدية، يجب على وسائل الإعلام تحليل ادعاءات اليمين المتطرف بشكل نقدي، مع الإشارة إلى الافتراضات الأيديولوجية وكذلك المغالطات الواقعية.

من ناحية أخرى، ينبغي على النخب السياسية أن تبدأ في التعامل مع اليمين المتطرف باعتباره صوت الأقلية الصاخبة وليس صوت الأغلبية الصامتة، وهذا لا يعني أن عليها أن تتجاهل قضايا اليمين المتطرف ومواقفه، ولكن لا ينبغي لها أيضًا أن تعلن أنها الشغل الشاغل أو الوحيد “للشعب”.

إن أساس الديمقراطية الليبرالية هو التعددية، التي تعترف بأن المجتمعات تتكون من أفراد ومجموعات مختلفة لها مصالح وقيم متنوعة، وكل هذه المصالح والقيم المختلفة مشروعة، ويتعين على الساسة إيجاد التسويات التي ترضي مصالح وقيم أغلبية السكان، وإن التظاهر بوجود حل واحد أفضل للجميع، كما تفعل كل من الليبرالية الجديدة والشعبوية، لا يضعف الديمقراطية الليبرالية فحسب، بل يقوي اليمين المتطرف ويعزز مواقعه”.

هامش

  1. أورد الكاتب في المقال مصطلحي (اليمين المتطرف) و(اليمين السائد) وتوضيح الفرق بينهما كالتالي:
    – اليمين المتطرف (Far-Right): يتمحور حول القومية المعادية للأجانب، ويميل إلى معارضة القيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية، خاصة حقوق الأقليات والفصل بين السلطات، ويعارض اليمين المتطرف عناصر الديمقراطية الليبرالية التي تحمي حقوق الأقليات أو تمنع هيمنة الأغلبية، والبعض في هذا التيار يرفض الديمقراطية بشكل صريح ويؤيد حكمًا سلطويًا، وآخرون يقبلون النظام الانتخابي كوسيلة للوصول إلى السلطة، لكنهم يعملون على تقويض القيم الليبرالية بعد ذلك (مثل فيكتور أوربان في المجر ودونالد ترامب في الولايات المتحدة) ويركز هذا التيار على فرض النظام والانضباط، مع الميل إلى تمجيد القوة والقادة، كما يعتمد على إثارة المخاوف من الهجرة، والتغيير الثقافي، و”الأعداء الداخليين” (مثل الأقليات والمهاجرين)، مما يعزز الاستقطاب والانقسام المجتمعي.
    – التيار اليميني السائد (Mainstream-Right): يدعم هذا التيار القيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية، بما في ذلك الانتخابات الحرة وحقوق الأفراد واستقلال المؤسسات، ويقبل فكرة عدم المساواة الاجتماعية كأمر طبيعي أو نتيجة حتمية للسوق الحرة، لكنه لا يعارض صراحةً القوانين التي تهدف إلى تقليل التفاوت أو حماية الأقليات، ويمثّل هذا التيار أحزابًا تقليدية (مثل الأحزاب المحافظة أو الديمقراطية المسيحية) التي غالبًا ما تعمل ضمن النظام الديمقراطي القائم وتلتزم بالقواعد الديمقراطية، ويرى الديمقراطية كجزء أساسي من النظام السياسي، ولا يحاول تقويضها أو الانتقاص من حقوق الأقليات أو سيادة القانون.
    – الفروق الأساسية بينهما:
    1- *اليمين المتطرف: يعمل على تقويض هذه القيم، خاصة حماية الأقليات والتوازن بين السلطات.
    *التيار اليميني السائد: يدافع عن القيم الديمقراطية الليبرالية.
    2- *اليمين المتطرف: يستغل العملية الديمقراطية للوصول إلى السلطة، لكنه قد ينتهك قواعدها لاحقًا.
    *التيار اليميني السائد: يلتزم بالقواعد الديمقراطية والمؤسسية.
    3- *اليمين المتطرف: يهدف إلى تغيير جذري في النظام، بدافع القومية والسلطوية.
    *التيار اليميني السائد: يسعى إلى تعزيز الاستقرار والنظام السياسي القائم.
    – أمثلة للأحزاب:
    *اليمين المتطرف: حزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان في فرنسا، وحزب “البديل” من أجل ألمانيا، وحركة “إخوان إيطاليا” بقيادة جورجيا ميلوني.
    *التيار اليميني السائد: الحزب الجمهوري التقليدي في الولايات المتحدة (قبل التحولات الشعبوية الأخيرة)، وحزب المحافظين البريطاني بقيادة ديفيد كاميرون أو تيريزا ماي. ↩︎
  2. يورد الكاتب أيضًا في المقال مصطلحي (الديمقراطية الانتخابية) و(الديمقراطية الليبرالية) وتوضيح الفرق بينهما كالتالي:
    (الديمقراطية الانتخابية): هي النظام الذي يتيح للناس اختيار ممثليهم عبر انتخابات حرة ونزيهة، وتركّز على العملية الانتخابية كعنصر أساسي في الشرعية السياسية، لكنها قد تفتقر إلى الضمانات التي تحمي حقوق الأفراد والأقليات أو تمنع هيمنة الأغلبية، وقد تكون معرضة لخطر التحول إلى نظام سلطوي إذا تم استغلال العملية الانتخابية لتقويض القيم الديمقراطية الأخرى، مثل استقلال القضاء أو حرية الصحافة.
    (الديمقراطية الليبرالية): تجمع بين الانتخابات الحرة والنزيهة وحماية الحقوق الفردية والجماعية، مثل حقوق الأقليات والفصل بين السلطات، كما تضمن وجود قيود مؤسسية، مثل دستور قوي ونظام قضائي مستقل، للحفاظ على التوازن بين السلطة وحماية الحريات الأساسية، وتتسم بالتعددية واحترام حقوق الإنسان، مما يجعلها أكثر قدرة على مقاومة النزعات الشعبوية أو الاستبدادية.
    – الفروق الأساسية:
    الديمقراطية الانتخابية تركز فقط على وجود الانتخابات كأداة للاختيار السياسي، لكنها لا تضمن بالضرورة الالتزام بقيم الحرية والمساواة. أما الديمقراطية الليبرالية، فهي أعمق وأشمل، لأنها تربط بين العملية الانتخابية والقيم الليبرالية التي تحمي المجتمع من الاستبداد وتضمن حقوق الجميع، وليس فقط الأغلبية. ↩︎
  3. هناك (الليبرالية الكلاسيكية -Classical Liberalism ) و( الليبرالية الجديدة – Neoliberalism) وتوضيح الفرق بينهما كالتالي:
    الليبرالية الكلاسيكية: تؤكد على حرية الأفراد المطلقة والأسواق غير المقيدة، مع مطالبة الدولة بدور محدود جدًا يقتصر على الأمن وحماية الملكية وتنفيذ العقود، الدولة هنا محايدة اقتصاديًا ولا تتدخل في تنظيم الأسواق أو توزيع الثروات.
    الليبرالية الجديدة: بينما تدعم الأسواق الحرة، ترى أن الدولة يجب أن تتدخل بطرق محددة لتحفيز الاقتصاد وضمان الكفاءة، مثل خصخصة القطاعات العامة، تحرير التجارة، تقليل الضرائب، ووضع سياسات تشجع المنافسة، والهدف هو تحقيق التوازن بين الحرية الاقتصادية ودعم النظام الرأسمالي.
    الفروق الأساسية:
    الكلاسيكية تعارض تدخل الدولة تمامًا في الاقتصاد، أما الجديدة تدعم تدخلًا محدودًا وموجهًا من الدولة لتعزيز النظام الرأسمالي. ↩︎
  4. “كير ستارمر – Keir Starmer” هو زعيم حزب العمال البريطاني منذ عام 2020، ورئيس وزراء بريطانيا الحالي، وحزب العمال يُعتبر تقليديًا حزبًا يساريًا، لكن “ستارمر” يمثل جناحًا معتدلًا داخل اليسار البريطاني، لذلك، يمكن القول إنه يمثل اليسار، ولكن ليس بجناحه الراديكالي. ↩︎
  5. (الأوتوقراطية الليبرالية – Liberal Autocracy): ‏هو نظام حكم غير ديمقراطي تكون فيه السلطة بيد شخص واحد غير منتخب لكنها تحترم حقوق وحريات أفراد الشعب كونها تتبع مبادئ الليبرالية. ↩︎
  6. (حارس البوابة) نظرية إعلامية تَقوم على أن المادة الإعلامية تمر بمراحل عديدة، وخلال كل مرحلة هناك “حارس” يقوم بتمرير المعلومات أو منعها وفقًا لمحددات خاصة بالمتحكم في الوسيلة الإعلامية. ↩︎
  7. مصطلح (جحور الأرانب الرقمية) يشير إلى فكرة الانغماس العميق في المحتوى الرقمي عبر الإنترنت، حيث يقودك موضوع معين إلى سلسلة متواصلة من المواضيع أو المحتوى المرتبط، تمامًا كما لو كنت تتبع أرنبًا إلى جحر متشعب لا نهاية له، والمصطلح مستوحى من قصة “أليس في بلاد العجائب”، حيث تسقط أليس في جحر أرنب يؤدي إلى عالم غريب ومعقد. ↩︎

حسن قطامش

خبير إعلامي.. كاتب مستقل الفكر.. منحاز للحق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى