صفحات من دفتر الالتزام: الانطلاقة
عصيبة تلك الأيام التي يمر بها الملتزم الجديد على طريق الالتزام الذي نفض الغبار من على كاهل مثقل بهموم الدنيا وعناء المسير… حين يطلّق حياة العبث ويلتفت للجد والدين، حين يقلب طريقته بشكل غير مألوف، لم يعتده أهله ولا من حوله من محيط مفتون!
كيف لهذا الفارس الجديد الذي أقبل ليجسد صورة المسلم التقي المستقيم أن يتجاوز تلك العقبات والتحديات في طريق سمو الروح والاستعلاء على فتات الدنيا لخدمة دينه وطاعة ربه. كيف له أن يبحر بقناعاته الجديدة في بحر متلاطم الأمواج تتصادم فيه القناعات وأهواء الناس.
لابد أنه حديث يثير شجون الملتزمين الذين شعروا أو يشعرون بالغربة عند أول خطوة في طريق الالتزام وربما يشعرون بالاضطراب والخوف من تكملة المسير، فإن ثمن الاستقامة في زمن الانحراف والبعد عن الدين يعد ثمنًا باهظًا، وفي معايير المنسلخين عن الإسلام، فإنه ضرب من جنون الإنسان.
ونظرًا لأهمية هذا الموضوع سنتناول القضية على مراحل راجين من الله أن تنفع الناس، سواء منهم من كان ملتزمًا ماضيًا بثقة على الدرب أم من كان في بدايات الالتزام فتتضح له آفاق الطريق ومعالمه، أو من انبرى لثغر الدعوة فحمل على عاتقه أمانة التبليغ وهداية الناس، أو من يفكر في الالتزام ولم يخمّن بعد تحديات هذا الطريق وعوامل النجاح، وربما وقع على مسمع رب بيت أو ربة بيت، فأدرك أو أدركت مصابًا جللًا قد ألمّ بعائلات المسلمين نتيجة التهاون في أمر الدين جهالة تارة أو باسم التقدمية والتحضر تارة أخرى، ذلك التحضر الذي لم يزل شعاره الانفصال بل الانسلاخ من الدين، وأي دين، إنه الدين الذي حفر تاريخه أروع الأمثلة للتقدم والحضارة البشرية الفائقة التميز فكان الملتزمون به يتفاخرون على سائر الأمم بدرجة التزامهم به وإقبالهم عليه.
الأساس البداية… إما الاستمرار بقوة أو التعثر
ويتفق أغلب من خاض غمار الالتزام على أن البداية هي الأساس، هي المحددة لمصير الالتزام… إما أن يستمر بقوة أو يتعثر باضطراب… إما أن يتوقف إلى حين أو ينتكس في كل حين، وإما أن يمن الله عليه بالثبات ولذة الاستقامة بقية عمره، فيكون من الفائزين أو يحرمه جزاءً وفاقًا ونادى ولات حين مناص.
وقد تأملت في مشاكل الملتزمين، فلم أجد أفضل من تسليط الضوء على مراحل الالتزام درجة درجة، حتى نشخص مشاكل كل درجة بخصوصيتها ونلخص الشعور المشترك لكل ملتزم أو من هو في طريق الالتزام ونبحث حاجاته وطرق ثباته.
الانطلاقة واختلاف دوافع الالتزام
إن لكل انطلاقة ثغرات ولكل شخصية هفوات، وجمع الجميع في كيل واحد خطأ فقد تنوعت الأنفس البشرية واختلفت الأفهام في طريقة التعامل مع التغيير. وقرار الالتزام قد يكون له دوافع مختلفة حسب اختلاف الأشخاص:
-
ضيق الصدر والشوق إلى التوبة
فمنهم من ضاقت به الأرض لكثرة انغماسه في الدنيا فشعر بالوحشة واعتلال في الصدر، اشتاقت نفسه إلى التوبة وإلى تغيير مساره الذي جلب له الشتات والفراغ الروحي، فأقبل في ثورة يريد أن يخرج من روتين حياة مادية ممل لم يطل منه راحة نفس ولا سكن روح، لم يحقق فيه سعادة ولا سرور، وأمثال هؤلاء كثير بل هذه الحالة قد تكون عند غير المسلمين وهي السبب الأول لاعتناقهم الإسلام حيث اشتركت قصص التزامهم في هذا السبب الرئيسي الذي قادهم للخلاص.
-
أثر الذنب
ومنهم من وقع في ذنب عظيم فكان أن خاف الخوف العظيم وتذكر أن الله شديد العقاب، ووقع في نفسه أنه أسرف في ظلم نفسه وغيره، فعاهد نفسه معاهدة الحازم أن يكفّر عن فعلته ويستقيم خشية أن يكون من الفاسقين أو يشار عليه بين الساقطين. وطبعًا كلما كانت النفس البشرية متأثرة بدرجة الذنب كلما زاد إصرارها على محو عاره من الذاكرة بالجنوح للالتزام والاستقامة والتمسك بكل ما يساعد في محو ذلك الأثر.
-
همة محفزة جذبته
ومنهم من التقى في طريقه همة ملتزمة، همة جذبته سيرتها وطريقتها، فأحب أن يكون مثلها، وأن يقلدها ويرتقي بأسلوبها في الحياة، فتجد عينه تدمع لإنجاز مسلم تقي أو لنجاح مسلم داعية أو لذياع صيت مسلم مفكر، فتتحرك فيه عوالج النفس والمسابقة… فيتفكر في نفسه وما فيها من نقص ويقبل للإصلاح بقوة ويندفع في طريق التغيير.
-
نصيحة صادقة ودعوة صالحة
ومنهم من نفعت فيه النصيحة وصحبة قلب صديقة، عرفت أخطاءه فأرشدته وأتقنت فن دعوته فاستجاب بلا تردد بقلب محب مقبل. ومنهم من نفعته دعوة صالحة من عمل صالح كان قد أقدم عليه ونسيه، بحق والديه أو جيرانه أو أصحابه أو من يجهل… فكانت بركتها أن هداه الله بنور منه إلى طريق الهداية والاستقامة.
-
نوازل المسلمين
ومنهم من أقضّت مضجعه نوازل المسلمين وتحركت فيه مكامن الغيرة على الدين وخاتم المرسلين، واستشعر درجة الضعف التي هو فيها وكذلك هي فيها أمته، فأقبل على الالتزام حاملًا أمل التغيير لنفسه ولأمته.
-
بشاعة الحضارة الغربية
ومنهم من ذاق مرارة العيش في الغرب وصُدم بتناقض الوصف، بعد أن خرج فرحًا فخورًا يختال بشهادة وتأشيرة وبضعة أموال، يعتقد أن الحياة ستفتح له ذراعيها مقبلة بلا حياء، فتفاجأ لبشاعة تلك الحضارة الغربية التي لم تحترم دينه ولا مظهره وربما كشّر بعضهم لمجرد ذكر اسمه العربي، ومع توالي أيامه في محاولة فهم واقع الغرب يكتشف عظمة الإسلام وكيف أن هذه الأمم مهما بلغت من تطور فلن تبلغ رقي عدالة الإسلام، فيجرفه الحنين لذلك الدين ويعود منكسرًا يرجو رحمة ربه، وربما هاله حقائق كان يجهلها قد حملها الغرب بغضًا للمسلمين فأخذته العزة بالدين وقرر أن ينتصر بالاستقامة وضرب القدوة من مسلم في مجتمع لم يعرف بعد عظمة الإسلام، معتبرًا ذلك طريقته في الدفاع عن دينه.
-
حادثة.. قصة.. فاجعة.. وغيرهم
ومنهم من غيرت حياته حادثة أو صورة أو قصة أو فاجعة، ففتح الله له أبواب رحمته ليبحر في ملكوت عطفه وهدايته. ومنهم من التزم بعد رحلة تحدي ورهان، بعد أن ظن أنه انتصر لسخريته من مظهر من مظاهر الدين أو مظهر مسلم مستقيم، فانطلق محاربًا للإسلام وأحكام الإسلام معتمدًا عقله الناقص، حتى أوقفته معجزة من الله، على يد مسلم صادق أو مناظر مبحر في علوم الدين، فانقطع به التحدي إلى الإذعان بالخسارة والإقبال بحب لدين طالما حاربه وانقلب السحر على الساحر فبدل أن يضل الناس.. اهتدى.
وإنه لمن الصعب سرد جميع الأسباب التي تدفع بالمرء للالتزام ولكننا ضربنا الأمثلة على سبيل التبيان لا الحصر.
ومهما اختلفت الدوافع المؤدية بالمرء للالتزام فإنها تشترك كلها في حلقة أولى واحدة ألا وهي: توجه الرؤية إلى المسلك الوحيد وخط الخطوة الأولى على طريق الالتزام، وهنا تتشابه المشاعر، بقلب مرتجف وصدر مختلج ودمع في المقل لم يكد يجف، إنها مرحلة الإحياء للقلب القاسي الذي طرقه سهم الهداية فتصدع خشية لله، ثم ما انفك صاحبه يستذكر ما فاته من رحمات… فيكفّر عنها بدمع أو كسرة قلب أو سجدة فرار إلى الله!
مفاهيم على الملتزم معرفتها
فيا مَنْ مَنَّ الله عليه بهذا الفضل… هذه مفاهيم عليك إدراكها قبل أن تبحر في هذا الدرب:
- إن الالتزام فضل عظيم من الله ومنّة لم يأتك من فراغ ولم يكن لتميّزك أنت تحديدًا عن الناس.. بل هو فرصة ذهبية للانطلاق مسلمًا تقيًا.. إلى مراتب الإيمان والعمل والتحصيل العليّة، تعرض على كثير من الناس ولا يقطف ثمرها إلا الجادون.
«فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ» [سورة الأنعام: 125]
- إن الماضي لا يمكن أن نمحه ولكن يمكننا أن نصحح نظرتنا إليه، بدل أن ننظر إليه كعار نريد أن ننساه للأبد، نعمد لاعتباره المحفز لنا للثبات على الطريق، وللتكفير عن التقصير بمضاعفة العمل والمسابقة، وكذلك كان يتذكر الصحابة رضي الله عنهم عصر الجاهلية فيدفعهم الخوف من الرجوع إليه؛ إلى البذل والاجتهاد والإحسان والمسابقة، وكلما ذكروا الجاهلية تذكروا فضل الإسلام عليهم وكيف أنقذهم من ظلام وتيه فكان لسان حالهم يقول:
الحمدُ لله إذْ لم يأتني أجلي حتى لبستُ مِنَ الإسلامِ سِرْبالاَ
- إن الرحلة لن تكون بتلك السهولة دون امتحان الصدق مع الله، فالابتلاء ضريبة الإقبال والمسابقة للعلياء، فلا يحسبن المرء أنه سينعم بحياة رخاء وسكينة مستمرة فلابد له من ألم ليحل بعده شعور لذة السلامة ويدرك حكمة الابتلاء، فلا يجعل الملتزم الابتلاء سببًا للانتكاسة، بل زيادة إقبال لأنه دلالة على صحة الطريق. قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، وقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، وقال:
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»
- إن الأجر على قدر المشقة وأن الرفعة على قدر السعي وأن السباق على أشده في ميدان الالتزام، فلابد من تجديد الهمم والأفكار والأهداف وتحديد خارطة الطريق للعلياء وتجريد النفس من حظوظها .
- اعلم أن للإقبال على الله طعم جديد في حياتك، تزداد حلاوته كلما أخلصت الطلب وتزداد إعطاءاته كلما أخلصت النيّة. فجِدَّ تجد ولا تستعجل أو تتذمر، فلذة الثمرة بعد نضوجها تستحق الصبر والبذل.
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
أخيرًا
لقد انتهينا من الحديث عن مرحلة الانطلاق وإن كان باختصار، وسنكمل الحديث عن بقية مراحل الالتزام… فكونوا بالقرب، لنكمل هذه الصفحات من دفتر الالتزام.
جزاك الله كل الخير مقال اكثر من رائع
ما شالله مقال جميل . مع حضرتك بانتظار المزيد