
المعادلة الصعبة.. إضاءات في طريق الجمع بين العمل الدعوي وأعباء الحياة المعاصرة
عاد أحمد إلى البيت منهكًا كالعادة، بعد يوم كامل من الدوام.. ألقى حقيبته على الأرض غير مبالٍ، ثم ارتمى على الأريكة، أخيرًا يستطيع أن يحظى بدقائق من الاسترخاء، أو هكذا ظن.. إذ إن استمتاعه هذا كان ليدوم أطول لولا أن التفت ناحية مكتبه، هناك في ركن الغرفة.. حيث كانت كومة من الكتب والأوراق المبعثرة، بعضها على المكتب وبعضها ملقى على الأرض.
أحس حينئذ بوخزة في صدره، كان جرحًا ما كان قد نسيه -أو تناساه- قد نكأ من جديد.. إذ إن تلك الكتب كانت جزءًا من برنامج -أو برامج- القراءة التي كان ينوي أن يسير عليها.. هذا لتعلم الفقه، وذاك لمتابعة الأوراد اليومية من عبادات وغيرها، آخر لأساسيات الفكر الغربي.. لا يذكر ترتيبها بالضبط ولا أين وصل في قراءتها، فمنها من قرأ نصفه، ومنها من قرأ مقدمته ومنها من لم يفتحه بعد.. أما كومة الأوراق فهي ما بين برامج علمية ظلت إلى الآن حبرًا على ورق، وخطط لمقالات كان ينوي كتابتها.. لكن لم يكتب لها رؤية النور بعد.
حسنا دعنا نتعرف أكثر على أحمد.. إنه مهندس تخرج منذ سنتين، وقد كان لديه ميول واضح نحو القراءة والكتابة والعلم الشرعي؛ لذلك فقد كان يمني نفسه طيلة سنوات الدراسة، أنه حين يحصل على وظيفة تؤمّن له دخلًا مجزيًا، ويستقل بها ماديًا، فإنه سيتثمر وقته وجهده وماله في الكتابة والقراءة، وفي كل ما كان يرى فيه نفعًا للأمة.. قرأ كثيرًا من سير العلماء والكتّاب والمفكرين والمصلحين، الذين لم تمنعهم وظائفهم وأعمالهم وتخصصاتهم من العمل للدين، لذلك ظن أنه حالما يتخرج ويعمل.. سيسير تلقائيًا على خطاهم.
لكنه ما لبث أن اصطدم بالواقع المرير: الوظيفة التي تستنزف الوقت والجهد، والأعباء الشخصية والأسرية التي تلتهم ما تبقى، والإكراهات والضغوط التي لا تدع للعقل مساحة يفكر فيها في قراءة أو كتابة أو دعوة أو إصلاح.. فما لبثت أحلامه أن خفتت وهمته أن انطفأت، فلم يعد يرجو إلا الحفاظ على فروضه من العبادات.. والقدرة على قراءة بعض المنشورات والمقالات ولو قراءة سطحية بين الفينة والفينة.
عرض الإشكال

حسنًا، نحن نعلم أن أحمد ليس وحيدًا في ذلك، بل إن هذا الحال يكاد يكون عامًا لدى كثير من طلبة العلم الساعين للإصلاح، ممن قُدِّر عليهم أن تكون وظائفهم ومجالات تخصصهم بعيدة عما يحبونه من علوم الشريعة والفكر والثقافة، حتى إن كثيرًا منهم استسلموا في نهاية المطاف لدوامة وأعباء الحياة، وتخلوا عن طريق طلب العلم والدعوة كليًا.
يسعى هذا المقال إلى تسليط شيءٍ من الضوء على هذه الظاهرة، مع دراسة نماذج دعوية وإصلاحية استطاعت إبصار الطريق إلى الجمع بين القيام بالأعباء الوظيفية والأسرية، وبناء مشاريع دعوية وعلمية وفكرية لا يزال أثرها ممتدًّا إلى اليوم. وإني لأرجو ألا يظن القارئ شيئًا من المثالية في صاحبه -كاتب هذه الكلمات- فهو لم يَسلم بدوره من هذه الدوامة، أو أنه بصدد خُطبة حماسية تُلقى من شرفة برجٍ عاجي.
إن هي إلا كلماتٌ من جريحٍ إلى جريحٍ.. من غريق إلى غريق يبحثان معا عن قارب إنقاذ.. محاولةٌ لمشاركةِ الهَمِّ الفكري والدعوي، نستحضر فيها شيئًا من سير الناجحين، لنستضيء بمناهجهم وأفكارهم، ونقتفي أثرهم، ونستجدي من نار عزيمتهم شهاب قبس نشعل به ما انطفأ من جذوة همتنا.. حسنًا دعنا من الجرحى والغرقى وجذوات النار.. ولنبدأ بأول شخصية!
الجامعون بين الأعباء الوظيفية والمشاريع الإصلاحية
نماذج تاريخية
علي عزت بيجوفيتش

ضرب القاضي مطرقتَه ثلاثَ طرقاتٍ على الطاولة، معلنًا عن بدء المحاكمة -محاكمة صورية طبعًا، ليس لها أيُّ معنى، كما هو الشأن مع أغلب محاكمات الشيوعيين- نحن الآن في العام 1946م، بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، نحضر محاكمةَ مجموعةٍ من الشباب المسلمين في مدينة “سراييفو” البوسنية، الواقعة آنذاك تحت حكم يوغوسلافيا الاشتراكية.
أريدك أن تركز معي على هذا الشاب، صاحبِ العينين البنيتين الحادتين، اللتين أحالهما ضوء القاعة الأصفر الخافت إلى جمرتين ملتهبتين. لم يتجاوز ربيعه الواحد والعشرين بعدُ، لكنه كان مثقفًا طموحًا، مهتمًّا بتوعية المسلمين بخطورة الفكر الشيوعي، لذلك انضم إلى حركةٍ سُمِّيَت “الشبان المسلمين”، كانت تسعى إلى ذات الهدف، وهو ما انتهى به إلى السجن بعد هذه المحاكمة الصورية، في إطار حملة القمع التي قادها الطاغية “جوزيف تيتو” ضد الشخصيات الدينية والفكرية التي اعتبرها تهديدًا للمنهج الشيوعي. لكن ما لم يعرفه القاضي آنذاك، أن هذا الشاب سيصبح بعد عقود قليلة رئيسًا للبوسنة، ويقود حرب الاستقلال عن يوغوسلافيا.
إن سيرة هذا الرجل سيرةٌ ثرية بالإنجازات والمشاريع والنضال الفكري والسياسي، ولكنني لا أهدف في هذا المقال إلى سرد قصة حياته، بل أريد أن أُظهر لك كيف أن حياته العلمية لم تتوقف بسبب السجن، ولا بسبب أعباء الوظيفة والأسرة بعد ذلك. فبعد الإفراج عنه عام 1949م، اضطر علي عزت بيجوفيتش إلى العمل مستشارًا قانونيًا في إحدى الشركات الهندسية بمدينة سراييفو.. ثم ظل لاحقًا متنقّلًا بين الأعمال القانونية والإدارية.. وهي وظائف لم تكن تحقق له طموحه الفكري، لكنها كانت ضرورية لتأمين معيشته وعائلته، وقد بقي مبتعدًا عن المناصب السياسية بسبب تضييق الدولة على نشاطه، ومع ذلك، لم يستسلم لضغوط وأعباء الوظيفة، بل واصل مشروعه الفكري بهدوء وصبر. كان يخصص أوقات فراغه، خصوصًا لياليه، للقراءة المكثفة والكتابة والتأمل، فصاغ خلال تلك الفترة كثيرًا من أفكاره التي ستُبنى عليها لاحقًا أطروحاته ونظرياته الكبرى المبسوطة في مؤلفاته.
مالك بن نبي

دعنا الآن نغادر سهول البلقان ومناخها البارد إلى مكان أكثر دفئًا، إلى “قسنطينة” في الجزائر، حيث ولد عام 1905م رمز من رموز الفكر الإسلامي الكبار.. مالك بن نبي.. رائد النهضة الفكرية الإسلامية.. ذلك الرجل الذي ولد في بلد يرزح تحت الاحتلال الفرنسي، ثم هاجر إلى فرنسا لدراسة الهندسة الكهربائية سنة 1930م، ليتخرج سنة 1935م كمساعد مهندس كهربائي.
ساهمت تجارب مالك بن نبي الحياتية، من نشأته في أسرة محافظة ذات علم، ومعايشته لوطأة الاحتلال ومرارته، وما عاشه من مواقف عنصرية في فرنسا، في صقل شخصيته الفكرية المتميزة، فبدل أن تكسره هذه الصعوبات والتحديات، اتخذ منها وقودًا دفعه لبناء مشروعه الفكري الذي تمركز حول مشكلات العالم الإسلامي الفكرية والطريق الذي يجب أن يسلكه نحو النهضة.
الشاهد من قصة مالك بن نبي، أنه استطاع العمل على مشروعه هذا في ظروف اجتماعية صعبة عاشها في فرنسا كموظف بسيط يكابد أعباء المعيشة والأسرة، وقد بقي كذلك حوالي عقدين من الزمان منذ 1935م سنة تخرجه، إلى عام 1954م حيث انتقل إلى مصر إبان اندلاع الثورة الجزائرية وتوليه منصب مستشار منظمة المؤتمر الإسلامي، ثم أخيرًا عاد إلى موطنه بعد الاستقلال سنة 1963م حيث عُيّّنَ مديرًا عامًا للتعليم العالي. ولم يتفرغ للعمل الفكري بشكل تام إلا في سنة 1967م حيث استقال من منصبه و انكب على التأليف والمجالس الفكرية إلى أن وافته المنية سنة 1973م، رحمه الله رحمة واسعة.
القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري
إذا استمررنا في الصعود نحو القرون الفاضلة من الأمة، فإننا لن نعدم أمثلة كثيرة عن علماء وفقهاء لم تثنهم وظائفهم وأعمالهم في الدولة عن التأليف والتحصيل ومجالس العلم. من أبرزهم القاضي أبو يوسف (ت: 182هـ) تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمهما الله، حيث شغل منصب قاضي القضاة خلال القرن الثاني الهجري في الدولة العباسية، ذكر عنه الإمام الذهبي: «بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه، وكان الرشيد يبالغ في إجلاله.»1
أما عن عطائه العلمي فله مؤلفات عديدة في الحديث والفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد بلغ من تعلقه بالعلم ما رواه عنه تلميذه القاضي إبراهيم بن الجراح: «مرض أبو يوسف، فأتيته أعوده، فوجدته مغمى عليه. فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم: ما تقول في مسألة؟ قلت وأنت في هذه الحالة؟ قال: لا بأس بذلك، ندرس، لعله ينجو به ناج! ثم قال لي: يا إبراهيم: أيها أفضل في رمي الجمار، أن يرميها ماشيًا أو راكبًا؟ قلت يرميها راكبا. قال: أخطأت. قلت: يرميها ماشيا. قال: أخطأت! قلت: قل فيها، يرضى الله عنك. قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه ماشيًا، وأما ما كان لا يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه راكبًا. ثم قمت من عنده. فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه. فإذا هو قد مات.»2
فانظر إلى هذه الهمة العالية في مدارسة العلم وهو على فراش الموت، وكيف حافظ هذا الإمام على العلاقة الوطيدة بالعلم الشرعي والتأليف والدعوة وهو على رأس منصب عالٍ من مناصب الدولة، ألا وهو منصب قاضي القضاة، يتنقل بين القضايا، ويفصل في المظالم، ويُستشار في أمور السياسة والشرع، ويشرف على سائر القضاة في الأقاليم. ومع ذلك، وجد من الوقت والهمة ما مكَّنه من حفر اسمه في تاريخ الأمة.
نماذج معاصرة

وإذا كانت هذه الأمثلة تنتمي إلى جيل فريد من عظماء هذه الأمة، عاشوا في زمن لم تكن فيه الملهيات والمشتتات على ما هي عليه اليوم، فإن بيننا اليوم نماذج معاصرة استطاعت -رغم كثرة المشتتات التي تميّز الحياة الحديثة- أن تحقق المعادلة نفسها. وسأذكر هنا بعض الأمثلة، علمًا بأن القائمة طويلة، ولكن نكتفي بالقليل منها حتى لا يطول بنا المقال.
فمن النماذج المعاصرة التي استطاعت الجمع بين أعباء الحياة العملية، والانشغال الفكري والدعوي، الدكتور إياد قنيبي، الباحث الأكاديمي في علوم الصيدلة، لم يُقعِده تخصصه العلمي أو وظيفته كأستاذ جامعة في مجاله عن بناء مشروع دعوي وفكري متكامل، يقدمه بوسائل متعددة، من المحاضرات إلى الدورات والكتابة ومواقع التواصل، في الدعوة والإصلاح والسياسة متوجًا ذلك بسلسلة علمية رصينة تهدف إلى حماية الفكر الإسلامي من الغزو الثقافي والمفاهيمي المعاصر هي سلسلة رحلة اليقين.
من الأسماء الجديرة بالذكر أيضًا، الدكتور عصام البشير المراكشي، الذي جمع بين العمل كمهندس اتصالات موظف في شركة، والعمل الأكاديمي والتدريس، والمشاركة في المؤتمرات والحوارات الفكرية، وبين التأليف والتكوين العلمي، وإلقاء الدروس الشرعية في العقيدة والفقه واللغة العربية. والداعية الفاضل الأستاذ ياسين العمري صاحب الدروس الوعظية الرائقة التي تميزت بأسلوبه الفريد وقربه من عامة الناس خصوصًا فئة الشباب، إذ يجمع بين المحاضرات والأعمال الدعوية ووظيفته كأستاذ تقنيات تواصل بالجامعة.
على خطى الجامعين.. حلول عملية لتحقيق معادلة الجمع
بإمكاننا من خلال سِيَر الشخصيات المذكورة أن نستنتج بضع قواعد عملية تساعد في الهدف المطلوب.. وأرجو أن تنتبه إلى أنني قلت “قواعد عملية” وليس “عِصِيّ سحرية”.. أي أنّ مفعولَها وثمرتَها في حياةِ الفرد لا تظهرُ إلا بعد المكابدةِ والصبرِ عليها، والحرصِ على اتّباعِها، حتى تظهرَ منها النتائجُ المرجوّة.
اختيار الثغر حسب الإمكانيات والمهارات
أعتقدُ أن أوّلَ سؤالٍ بديهيٍّ يطرح نفسَه عند الحديث عن الجمع، هو: ما الشيءُ الذي تريد أن تجمعَ بينه وبين أعباء وظيفتِك والتزاماتِك؟ نعم، أعلمُ أنّه مشروعٌ دعويٌّ أو إصلاحيّ، لكن عليك أن تسألَ نفسَك عن الثَغْرِ الذي يجب عليك اختيارُه.
وهنا يظهر فارقٌ طفيفٌ بين ما “يُعجبُك” وما “تُجيده”. ليس المطلوبُ منك أن تُكرّرَ تجربةَ أيٍّ من الشخصيّات المذكورة بحذافيرِها، بل لا بدّ أن تسألَ نفسَك عن مواهبِك، مهاراتِك، ظروفِك… ما الذي تستطيعُه واقعًا؟
فالأولى أن تضعَ جُهدَك في بابٍ تُبرعُ فيه وتُجيده، فتُؤجَر عليه، ولا تلتفتْ لكون الثغرِ بسيطًا بالمقياس المادّي. قد يكونُ عملاً ثانويًّا، بعيدًا عن الأضواء، لا يراه أحد، ولا يُصفِّقُ لك عليه أحد، لكن لو عملتَه بإخلاصٍ وإتقان، فلربّما تكونُ عند الله أعظمَ ممن فُتحت له المنابر، وعلى قَدَرٍ عند الناس. وتذكَّر: ((ربّ أشعثَ أغبر))… الحديث.
الاستعانة بالدعاء
في زحمةِ الخططِ والجداولِ والحسابات، كثيرًا ما ننسى هذا السلاح: الدعاء. ننسى أن نرفعَ أكفَّنا به إلى مَن بيده التوفيق، إلى مَن يملك بثَّ الحياةِ في خططِنا وبرامجِنا فتظهرَ ثمراتُها، أو يمحقَ بركتَها فتَبقى حبيسةَ الأوراق، وعند رؤيةِ النورِ لا يظهر لها أثر.
اجعلْ لك وردًا من الدعاءِ لا تحيدُ عنه، وادعُ اللهَ بالبركةِ في الوقتِ والجهد، بالإخلاصِ، والنجاةِ من فخِّ العُجْب، بالثباتِ على الطاعة. بُحْ بين يديه بالعقباتِ التي تعترضُك، وبالصعوباتِ التي تُواجِهُك.
تنظيم الوقت
تنظيم الوقت، العبارة التي لا أشك أنها تذكّر كلًّا منّا بجُرحه الخاص. تلك البرامج والجداول والخطط التي كان ينتهي بها المطاف في كل مرة داخل سلّة القمامة، وتلك الساعات التي قضيناها في مشاهدة مقاطع “كيف تنظم وقتك” و”كيف تتوقف عن إضاعة الوقت”. مقالات ومحاضرات وكتب قرأناها لنتعلم منها استغلال الوقت، ثم بدأنا نطبّق بعض النصائح منها، ثم ما لبث أن مرّت علينا بضعة أيام حتى عاد الحال إلى سابقه. ليست المشكلة طبعًا في هذه المواد ذاتها، لكن المشكلة حتمًا في تعاملنا مع قواعد تنظيم الوقت على أنها حلول سحرية.
كتب الشيخ إبراهيم السكران في كتابه مسلكيات الذي أحثُّك على قراءته -بعد أن تنتهي من هذا المقال طبعًا!- واصفًا هذه المشكلة: «معالي الأمور والطموحات الكبرى في العلم والتعليم والتأليف والإصلاح والتغيير والنهضة بالأمة، لا تكشف وجهها لك حتى تمسحها العرقة عن جبينك، بيد ترتعش من العناء». ثم أضاف في عبارة رائقة: «خُطَطُنا في شواهقِ الجبال، وما زالت أقدامُنا غَضَّةً طريّة».
التخلص من الملهيات والمشتتات

الهاتف، وسائلُ التواصل، مقاطعُ الفيديو، والأخبارُ التي لا تنتهي… كلُّها أمورٌ تسرق وقتك. لن أطلبَ منك أن تتحقّق الآن من مقدار الوقت الذي تستهلكه هذه الوسائل مجتمعة، إذ لو فعلتَ، لأغلقتَ الجهازَ الذي تقرأ منه هذه السطور على الفور!
لذلك، أنصحك أن تؤجّل هذه الخطوة إلى وقتٍ لاحق، ستُصدم من كمِّ الساعات التي كنت تُريقها قربانًا لهذه الوسائل. بعد ذلك، أنصحك بقراءة كتاب الماجريات لإبراهيم السكران، فستجد فيه حديثًا عميقًا ومفيدًا عن ظاهرة المشتتات الرقمية والسياسية، مع تحليلاتٍ رصينةٍ ونصائحَ نافعةٍ مستندةٍ إلى نماذجَ واقعيّة.
التصالح مع المشاريع الصغيرة (ليس ضروريا أن يكون مشروعك ضخما)
من الأخطاء الشائعة التي تحبط الكثيرين وتُطفئ جذوةَ حماسهم: تطلُّعهم إلى المشاريع الكبرى في الأمة، وتحسُّرهم على عدم قدرتهم على تحقيق إنجازاتهم بنفس القدر. فإذا أُضيف إلى ذلك التفكير في كيفية الجمع بين مثل هذه المشاريع، والأعمال الوظيفية، والأعباء الأسرية، زادت مشاعرُ الإحباط والاستسلام. وهذا راجعٌ بالأساس إلى أن ما يظهر لنا من حياة المصلحين، في الغالب، هو الفترات التي كانت فيها مشاريعهم ناجحة. لقد تعرفنا على المؤلّف العظيم للكاتب الفلاني، ولم نرَ المقالات المتهافتة الركيكة التي بدأ بها مسيرته.. رأينا الخُطبة الوعظية البليغة، ولم نرَ ما كان قبلها من المحاولات الخجولة المتلعثمة. ابحث فيما شئت من المشاريع، وستجد أن البدايات كانت محاولاتٍ متواضعة.
بالإضافة إلى ذلك، فالعملُ للدين لا يُشترط فيه أن يكون صاخبًا مبهِرًا؛ ربما يكون مجموعةً قرائية، أو برنامجًا لتعليم أطفال الحيّ القرآن، أو مساهمةً في الأعمال الدعوية بالمهارات التقنية المناسبة كالتصميم والتصوير مثلًا. تذكَّر جودة المقاطع التي تُنتجها فصائلُ المقاومة في غزّة، والأثر العظيم الذي تبثّه في الناس من تثبيت وتفاؤل. هذه أبواب قل ما تخطر لنا عند الحديث عن “مشاريع” إصلاحية.. مع أثرها العظيم وشدة الحاجة إليها.
التمييز بين الضروري والزائد عن الحاجة من أعباء الوظيفة والأسرة
من أسباب الغرق حتى الأذنين في الالتزامات، والشعور بالضغط الشديد، وضيق الوقت: عدم التمييز بين الضروري من أعباء الحياة، وبين ما هو زائد عن الحاجة.. ساعاتٌ من التدقيق المفرط، والإصرار على المثالية في كل تفصيلة من تفاصيل العمل، وقَبول المهام الوظيفية الإضافية دون تردّد. وفيما يخص الأسرة، نجد الالتزام بأنماط استهلاكية واجتماعية، كالإكثار من الخروجات الأسرية واللقاءات العائلية التي تستنزف الوقت والجهد.
لا بدّ للإنسان من وضع خطوط حمراء واضحة بين الضروري والزائد عن الحاجة من الكماليات. لا بد من التضحية ببعض الرفاهيات؛ فصاحب الرسالة، وإن كان لا يُفرّط في واجباته ومسؤولياته، بل يؤديها على أحسن وجه، إلا أنه لا ينهمك فيها كليًّا تاركًا خلفه العملَ للدين.
اخرج من “مأزق المترقب”، كُفَّ عن انتظار الظروف المثالية
“مأزق المترقب” عنوان الفصل الثاني من كتاب الشيخ إبراهيم السكران (مسلكيات)، وقد وضع لفتات جميلة عن ظاهرة التأجيل والتسويف، لا سيما عند من يحملون هِمَمًا رسالية لغايات دعوية، لكنهم يظلون حبيسي الترقُّب.
تجد الواحد منهم يقول: سأبدأ بعد أن أنهي دراستي، أو حين أستقر ماديًّا، أو عندما تتغير ظروفي. هكذا تمضي حياته، ومشاريعه حبيسة الأوراق، ظنًّا منه أن العمل لا يُنجَز إلا في ظل التفرغ التام والظروف المثالية.
إذا لم تبدأ وأنت مرهق، مشغول، مرتبك، لا تملك الخطوط التفصيلية الواضحة لمشروعك، فالغالب أنك لن تبدأ أبدًا. هذه حقيقة مُرّة أثبتتها التجارب. فاخرج من مَأزق المُترقّب، وكفّ عن انتظار الظروف الملائمة.
نهاية الكلام.. بداية العمل

هكذا نكون قد استعرضنا نماذجَ تاريخيةً ومعاصرةً جمعت بين أعباء العمل الوظيفي والانشغال الرسالي، واستخلصنا من سِيَرهم (ومن كفاح غيرهم ممّن لم يُكتَب لهم ضوء الشهرة) بعضَ الخطوات العملية لموازنة كفّي هذه المعادلة.
لكن دعني أذكّرك: كلُّ ما قرأته مجرّدُ إضاءاتٍ على الطريق، إشارات مرور لا توصلك وحدها إلى أيّ مكان، لا بُدّ من السير. والسير هنا ليس سيرًا في طريق محاط بالأشجار مفروشٍ بالورد، بل هو طريق وعر متعب ومرهق، لكن ثمرته -بإذن الله- تُذهب بحلاوتها مرارة هذا التعب.
فها هو الطريقُ الآن مضاءٌ بين يديك، ومصاعبُه ومشاقه واضحةٌ لديك، فإذا لم تكن على استعدادٍ لـ«تمسح العرق عن جبينك بيدٍ مرتعشةٍ من العناء»، فأرجوك.. لا تتهمني بأنني نصّابٌ محتالٌ أبيعُ الوهم!
هامش
- سير أعلام النبلاء، جـ8، صـ536. ↩︎
- قيمة الزمن عند العلماء صـ15. ↩︎
ابدعت بارك الله فيك