في ذكرى إحراق المسجد الأقصى: قضية فلسطين ومنطق رفع وصاية الأمة

الإحراق الأول

في فلسطين: عندما أحرق “مختل” من الصهاينة المسجد الأقصى في يوم 21 أغسطس/آب/أوت 1969 قالت رئيسة وزراء العدو آنذاك غولدا مائير:

«لم أنم ليلتها وأنا أتخيل كيف أن العرب سيدخلون إسرائيل أفواجًا من كل حدب وصوب… لكنني عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء أدركت أن بمقدورنا أن نفعل ما نشاء فهذه أمة نائمة»

حرق الأقصى

وتذكر بعض الروايات أن يوم الإحراق كان أسوأ يوم في حياتها لخشيتها من العواقب، ولكن اليوم التالي كان أسعد أيامها عندما فاجأتها حقيقة النوم الذي تغط فيه أمتنا. المهم من كل ذلك أن الصهاينة كان يؤرقهم دائمًا شبح تضامن المحيط العربي والمسلم بفعالية حديثة مع قضية فلسطين، وهو ما صرح بن غوريون بنفسه في يومياته (29/1/1949) بأنه يتخوف من وقوعه.[i]

ولهذا عمل الصهاينة بجد لفصل القضية عن محيطها وحصرها بالفلسطينيين وحدهم، رغم إنكارهم وجود الشخصية الفلسطينية! وتظافر شعار القرار المستقل من جهتنا، مع الإصرار الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة على الاستفراد بالدول العربية واحدة إثر الأخرى لإخراج العرب من حلبة الصراع، على تحقيق تلك الغاية.

العرب يفلسفون التجزئة

وبدلًا من العمل بعكس إرادة الأعداء ومحاولة دعم الجبهة المتحدة ضد الصهاينة وتحسين أدائها كما يقتضي العقل والبديهة واعتراف الأعداء أنفسهم، يخرج علينا من يفلسف التجزئة وينظّرها في خدمة واضحة لما يتمناه الأعداء لأحوالنا. يقولون:

دعوا الشعب الفلسطيني يحل مشكلته بنفسه دون وصاية عروبية وإسلامية.

هذا القول هو ما يروجه دعاة الواقعية والعقلانية بعيداً عما يسموه «الأيديولوجيات» التي لم تجلب لنا سوى الخسارة، ولكن، هل يمكن للشعب الفلسطيني أن يحل مشكلته بنفسه؟ إن هذا الكلام يخالف الفطرة والواقع فضلًا عن مسلمات العقل والدين وهو يتخذ من بؤس الواقع منطلقًا لزيادة أمراضه وليس لعلاجه وهو منطق متهاوٍ ولا سند له إلا إساءة قراءة الواقع المهترئ والمؤقت. ولكن تعاقب الأيام وسيرة التاريخ تخبرنا أن دوام الحال من المحال.

تجزئة التجزئة

منطق التجزئة يريد اختراع عقيدةً جديدةً له، تناسب وتبرر عجزه، وهو يتهم الأيديولوجيات الظلامية، ويعمى عن المجرم الحقيقي الذي هجم علينا ودمر حياتنا. وفشل الضحية في رد العدوان ليس مبررًا للاستسلام وترك أدوات النجاح نحو الانبطاح الكلي، منطق التجزئة من الطبيعي أن يتلاءم مع السيد الاستعماري الذي أوجده، وهذا واضح من طرحه المؤدي إلى استفراد المجرم بضحيته، ولكن ما غفل عنه أن هذا المنطق من الممكن أن يوجه ضد كيان التجزئة نفسه نحو مزيد من تجزئته إذا رغب السيد الاستعماري، وحينئذ ستوظف نفس المفردات «كالأيديولوجيات الظلامية» وسيقال، كما حدث فعلًا:

لماذا يتمتع ابن شمال السودان بنفط جنوبه؟ ففصلوا الجنوب عن الشمال بعدما فصلوا السودان عن مصر، ثم صوروا أن الانفصال بين شماله وجنوبه هو الدواء الشافي لكل الأمراض الجنوبية.

رئيس جنوب السودان بصحبة نتنياهو
رئيس جنوب السودان بصحبة نتنياهو

ولكن هذا لم يحدث للأسف ودخل الجنوب في دوامة جديدة من الصراعات الدموية، ونفس المنطق يُرفع اليوم في اليمن والعراق وسوريا، وقد يقال مستقبلًا لماذا يتمتع ابن الحجاز بنفط المنطقة الشرقية؟ وحتى في الكيانات الصغيرة: لماذا يتمتع ابن مدينة الكويت بنفط مدينة الأحمدي؟ من حق ابن الأحمدي أن يتمتع بثروته وحده، وهو نفس منطق الهويات الفرعية الذي استخدم في اقتطاع الدول الحالية من دولة الخلافة، وهذا ما حدث في السودان عندما فصل عن مصر، ثم في جنوب السودان ضد السودان، وما يخبأ للعراق واليمن وسوريا.

بنفس الأداة دائمًا، لكن الغرب لا تنطلي عليه الخدعة

حق تقرير المصير

وهي أداة من الغريب أنها لا تعمل في أي دولة غربية، ليس لأن مواطني الغرب ملائكة متحابون بل لأن الأنظمة لا تقبل بهذه الخدعة التي تفتت بها غيرها منذ الدرس القاسي الذي تلقاه الانفصاليون في الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) التي فاق عدد قتلاها عدد القتلى الأمريكيين في جميع حروب أمريكا الدولية بما فيها الحربان الكبريان، وقبلها وبعدها كل المآسي التي أصابت السكان الأصليين والأقليات في العالم الغربي: من أمريكا وكندا وأستراليا والكيان الصهيوني إلى فرنسا وبريطانيا وإسبانيا.

مصالحهم في التكتل ونحن في التشرذم!

ثم يقولون لنا: دعونا من «الأيديولوجيات الظلامية» وليتبع كل منا مصلحته. ولكن حينئذ سنرى أن مصالح العالم كله في التكتل ومصالحنا وحدها في الشرذمة، الغريب أن دعاة تقليد الغرب هؤلاء لا يقلدونه في الوحدة التي تغلب على كل كياناته، فهل العقل الذي يزعمونه ضد الوحدة؟ فلماذا يتحد الغربيون إذن؟ ولماذا يشذون هم عن الغرب في موضوع الوحدة بالذات؟ أليس لأن مصالح الغرب في شرذمتنا؟ ومن هو المستفيد من تفرقنا؟ ومن الذي صنع الكيانات التي يحامون عن استقلالها؟ أليس المستعمر؟ إذن «الاستقلال» يقع في نفس الحفرة التي هرب منها وهي التبعية وموالاة الخارج، ولكن بدلًا من موالاة الأخ، سنوالي عدونا في النهاية، ولو أحسنوا التقليد لصنعوا كيانات كبرى على شاكلة الغرب ولكن هيهات… فلن يسمح لهم سيدهم.

أوامر الغرب ومصالحه، لا مصالحنا

هم ينفذون أوامر الغرب ومصالحه لا مصالحنا الحقيقية، من الذي تكون مصلحته في الغربة عمن حوله؟ ومتى كانت الوحدة ضد المصلحة؟ هؤلاء يناقضون الفطرة البشرية التي تقول:

تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرًا        وإذا تفرقت تكسرت آحادا

هل مصلحة فلسطين هي التفرد والبعد عن الإخوة؟ وماذا سينجز الفلسطيني وحده؟ ألا تكفي تجارب السنين العجاف التي نقلتنا مما يسمونه “وصاية” الأخ إلى وصاية العدو؟

نعم هل يستطيع الشعب الفلسطيني أن يحل مشكلته وحده كما يزعمون؟ إن القرار الفلسطيني «المستقل» هو الذي وقع في أسر الاحتلال وصار سلطة تابعة للمستعمر الإسرائيلي بحجة «استقلال» الرأي، وأصحاب هذا المنطق يزعمون أنهم ضد الاحتلال ولكن كل كلامهم يؤدي إلى الاتفاق مع المحتل والاستسلام لواقعه والانسلاخ عن محيط الأمة، وهذا ما وقع بالفعل. وهل يسعفنا التاريخ بمثل واحد عن شعب صغير بحجم شعب فلسطين انتصر وحده على عدو ضخم بحجم الصهاينة والغرب من ورائهم؟

فلسطين وحدها vs (الصهاينة + الدعم الأمريكي والغربي)

الفلسطينيون وحدهم لن يستطيعوا الحصول إلا على الاستسلام وهذا ما ثبت بالتجربة، لماذا يريدون فصلهم عن أمتهم في الوقت الذي يستعين فيه الصهاينة بالدعم الأمريكي والغربي كله، لماذا حلال عليهم وحرام علينا؟

وإذا كانت قوة أمريكا هي التي تجعلنا نستسلم لها، فلماذا لا نبني قوتنا الخاصة ونفرض حقوقنا كما يفرضون باطلهم بدلًا من الاستسلام للحظة نعيش فيها في قعر التاريخ؟

التاريخ لن يجمد عند لحظة معينة وإذا كانوا هم الأقوياء اليوم فالأيام دول ومن يظن أن لحظته ستستمر ويبني عليها كل برامجه فهو واهم ولا ينظر أبعد من أنفه. النصيحة التي يقدمها هذا المنطق تشبه نصيحة يقدمها أحدهم لمن يريد عبور غابة موحشة؛ فيقول له اعبرها وحيدًا لأن هذا أفضل من عبورها مع إخوتك وزملائك فهؤلاء ليسوا أوصياء عليك، ومن الأفضل أن تكون بمفردك في مواجهة الوحوش! فمن الذي سيستمع إلى هذه «النصيحة» المخالفة للفطرة والعقل والبديهة إلا من يعمل لصالح وحوش الغابة ويريد أن يقدم لها وجبة سهلة المنال؟!

رفع وصاية الأمة عن القضية الفلسطينية

وهذا لا يعني أن سلوك الإخوة في زمننا مثالي وأنهم يسعون لتحرير فلسطين ولم يتخذوا منها شعارًا ومبررًا لاستبدادهم وفسادهم، نعم هناك كثير من الشكوى والمرارة منهم، ولكن عندما يكون حال الأمة سلبيًا يصبح الطلب البديهي من الجميع هو إصلاح هذا الحال وليس مخاطبة الفلسطينيين وحدهم بالانسلاخ من الأمة والارتماء تحت أقدام الأعداء لأن هذا سيزيد الوضع تفاقمًا ولن يحله أو يأتي بالمن والسلوى لنا كما يحاولون التصوير، ولن يكون انتزاع الحق من العدو عندما نواجهه منفردين أسهل منالًا من إصلاح حال أمتنا.

من يدعي الاهتمام بمصلحة الفلسطينيين عليه أن يطالب برفع الوصاية الصهيونية عنهم وليس ما يزعمه وصاية إخوتهم، ولا أن يتحدث بمنطق لا يصدقه عاقل: وهو أن الفلسطينيين لو ذهبوا وحدهم في مواجهة عدوهم المدعوم من العالم الغربي كله سيكون رؤوفًا بهم ويتنازل لهم عن حقوقهم بطيبة نفس. وكون «وصاية» الإخوة سلبية الآن لا يعني أن الحل بوصاية الأعداء، ويجب أن نتذكر دائماً أن الفشل في حل قضية فلسطين وتحريرها لم يكن بسبب تدخل الإخوة، أو ما يسمى وصايتهم على القضية، بل بسبب فشل هذا التدخل غير الفاعل وانحراف أهدافه وعجز أساليب.

ومن المشكوك فيه أصلًا أن المتحدث بالمنطق المذكور هدفه هو حل قضية فلسطين بتحريرها وعودتها إلى أصحابها لا سيما أن العدو هو الطرف الأقوى الذي يستطيع فرض إرادته بسهولة على طرف ضعيف كشعب فلسطين، والغالب أن هذا هو المطلوب عند هؤلاء لأن “نصيحتهم” لا تؤدي إلى أي استرجاع للحقوق.

وماذا عن الطرف الآخر في معادلة رفع “الوصاية” وهو البلاد العربية والإسلامية؟

ألن يؤدي فك ارتباطها بقضية فلسطين إلى زوال عداوتها للكيان الصهيوني الذي لم يحتل أراضيها وليس هناك سبب آخر لمعاداته وفقًا للذين يختزلون خطره، ومن ثم رفع الملام عن عملية التطبيع؟ أليس هذا ما حدث بالفعل في العديد من الدول بتبرير من هذا المنطق معززًا بفهم مبتور لحقيقة المشروع الصهيوني والظن بأن ضرره مقصور على فلسطين! بالإضافة إلى منطق لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطيني الذي اعترف وفاوض وصالح بل واستسلم وانبطح؟

ولكن ماذا ربح المطبعون العرب بعد عقود طويلة من التطبيع في بلد كمصر مثقل بالمشاكل الاقتصادية التي قُدمت مبررًا للتطبيع؟ وهل هناك أي مكاسب مجدية تبرر هذا الحماس للتطبيع؟

وهل حصل أي تقدم في وضع مشاكلها أو أي تحقيق لوعود السلام الوردية عن التنمية الضخمة المنتظرة والتي أطلقت في بداية العملية ولم يتحقق منها شيء بل زاد العبء على مصر بهدر ثرواتها ومواردها لاسيما الغازية منها، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بالزراعة المصرية، لأن المطبعين اختاروا ألا يُسمعوا شعبهم قول إسحق رابين رئيس الوزراء الصهيوني السابق:

إن ما يقلقني هو المبالغة في توقع الشعب المصري من السلام أنه سيحمل لهم التقدم والازدهار؟

معاهدة السلام

فماذا حدث غير ما تحدث به رابين؟ وهل من عبرة لمن اعتبر؟

النتيجة

وفي كشف الحساب الأخير نرى أن المنطق الذي ينادي برفع «الوصاية» العربية والإسلامية عن قضية فلسطين لن يفيد فلسطين لأنه سيتركها وحيدة مجردة في مواجهة عدو مدجج بالقوة المسلحة، وتدعمه أمريكا والغرب كله. ولن يستطيع الفلسطينيون تحقيق أي انتصار لحقوقهم أو أي حل لمشاكلهم بمفردهم كما تقضي البديهة بل الواقع بذلك.

وفي نفس الوقت سيتمكن الصهاينة من تحقيق كثير من المكاسب التطبيعية السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية من البلاد التي رفعت يدها «ووصايتها» دون أن تحقق هذه البلاد مكاسب مناظرة كما رأينا بالفعل، فلمصلحة من إذن يتحدث أصحاب هذا المنطق؟!


المصادر

[i] خمسون عاماً على حرب 1948 للدكتور وليد الخالدي، دار النهار للنشر، 1998، ص 152

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى