خروج بريطانيا.. دقت ساعة الإنفصال عن أوروبا!
القومية
هي كلمة السر في ظهور «الدولة القومية في العالم»، وهي كلمة السر في بناء «النظام الدولي» الذي نعرفه منذ نحو مائة عام خلت. وهي كلمة السر في تفكيك «الدولة الإمبراطورية الممتدة» في العالم، وفي أوروبا على وجه الخصوص، وهي كلمة السر في تفكيك «العالم الإسلامي»، ومصادرة «سلطان الخلافة». وهي كلمة السر أيضًا في جمع شتات «القوميات الأوروبية»! «القومية» هي كلمة السر أيضا في « خروج بريطانيا – 24/6/2016» من الاتحاد الأوروبي.
تناقضات عجيبة، وتغيرات رهيبة، أنتجها «الفكر القومي الأوروبي» الذي انطلق في أوائل أربعينات القرن 19، قبل نحو 175 عاما، وغدت أوروبا بموجبه مسرحًا لحروب أهلية ودولية لم تتوقف وقائعها إلا بعد حربين عالميتين، وقنابل ذرية، قتلت عشرات الملايين من البشر.
سر حاجة أوروربا للدولة القومية
لطالما أشرنا إلى حاجة أوروبا إلى «الدولة القومية»، باعتبارها الوحدة السياسية المركزية التي سيُبنى عليها النظام الدولي. ولطالما أشرنا في مناسبات سابقة أن اكتشاف أوروبا للمادة وقدرتها على السيطرة عليها والتحكم بها مكَّنها من الدخول في العصر الصناعي، وما يتطلبه من ثروات وموارد، تحتويها الأرض… مقدمات؛ كانت تعني، في المبدأ والمنتهى، أن أوروبا لا بد وأن تخرج من حدودها غازية، لجلب ما تحتاجه من رأسمال.
هكذا، وفي غمرة الصعود الرأسمالي ظهر «الفكر القومي الأوروبي»، وتمخض عن ولادة «الدولة القومية» في أوروبا، والعالم.
سر الدولة القومية
ولطالما تباهت أوروبا وقطعان اللبرالية بـ «الدولة القومية» وهي تقوم على قيم كبرى كـ
1. الحرية. 2. العدالة. 3. المساواة. 4. التسامح.
5. إرادة العيش المشترك. 6. التنوع. 7. التعددية.
ولطالما تباهى معها العلمانيون والأيديولوجيون، ومن صاروا يفضلون أن ينعتوا بـ «القوميين» بالنموذج الأوروبي للدولة، باعتباره النموذج الأسمى في تعبيره عن حقوق الإنسان، والتقدم والازدهار والرفاهية. والنموذج الذي بموجبه توحدت إيطاليا أو ألمانيا على يد جاريبالدي وروزا لوكسمبورغ. لكن قلة من تساءلوا حقًا: ما الذي يعنيه، مثلًا، مبدأ «إرادة العيش المشترك»؟ ولماذا قامت « الدولة القومية» على مثل هذا المبدأ؟ وأقل من القلة همسوا في ثنايا هذا المبدأ بأن مقتل «الدولة القومية» يكمن فيه أكثر مما يكمن في غيره من القيم التي قامت عليها.
مبدأ إرادة العيش المشترك
الحقيقة الثابتة أنه ما من دولة أوروبية واحدة قامت على النقاء القومي أو العرقي. بل إن كل واحدة منها تتكون من عدة قوميات اجتمعت فيما بينها بموجب قيمة مصطنعة بعنوان «إرادة العيش المشترك». ولم تكن هذه القيمة لتنجح وتستمر لولا أن «الدولة القومية» هي في المبدأ والمنتهى «دولة رأسمالية استعمارية»، اجتمعت قومياتها على النهب. وحققت تقدمها وازدهارها الاقتصادي على حساب الشعوب المستعمرة في مشارق الأرض ومغاربها. فلما انتهى «مهرجان النهب الدولي»، وتكدست نصف ثروة الأرض بيد حمولة حافلة من بين مليارات البشر، وغدت الرأسمالية مدينة بنحو 200 تريليون$، ظهرت «إرادة أخرى تنزع إلى الانفصال عن « الدولة القومية».
أول المفارقات العجيبة في خروج بريطانيا
أن «عامل الرأسمال» الذي وقف خلف «إرادة العيش المشترك»؛ هو ذاته العامل الذي يقف خلف «إرادة الانفصال»، التي تجتاح « الدولة القومية» في أوروبا قبل غيرها. ومع أن الكثير من الأوروبيين، كالبريطانيين والألمان، لا يرون أنفسهم أوروبيين، وفي مقدمتهم ملكة بريطانيا التي لم تخرج من بلادها منذ ورثت منصبها قبل أكثر من أربعين سنة، بالإضافة على عوامل أخرى، إلا أن «الرأسمال» يبقى «المتغير الدينامي» الأشد بروزًا وأثرًا، ليس في استمرار تماسك « الاتحاد الأوروبي»، بل وحتى في استمرار « الدولة القومية ذاتها.
ولعل الولايات المتحدة الأمريكية تبقى المثال الأبرز على ذلك. فهي «دولة مصطنعة» لـ «مجتمع لقيط بلا قومية»، قام كلاهما على «الرأسمال». بل أن:
«الرأسمال يقف خلف كل الحركات الانفصالية التي تضرب مراكز الرأسمالية في العالم، مثل كندا والولايات المتحدة مرورًا بالمملكة المتحدة وليس انتهاءً بألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا فحسب.»
التاج البريطاني يحمل بذور التفكك
حتى هذه اللحظة؛ يبقى وقْع الزلزال البريطاني أثقل من غيره، كون التاج البريطاني نفسه، المكون من خمس دول: «إنجلترا وكندا وأستراليا وإيرلندا وسكوتلاندا»، يحمل بذور التفكك أكثر من غيره، في ضوء المشكلة الإيرلندية وسكوتلاندا، فضلًا عن مشاعر التفكك الحثيثة التي تنعكس وقائعها منذ عشرات السنين في صراعات بين شمال كندا وجنوبها. فما الذي سيتبقى من التاج البريطاني إذا انفصلت هذه الدول؟ إنجلترا وأستراليا!!!! هل هذه النتيجة تكفي لتغني الانفصاليين بعودةـ بريطانيا العظمى»، في الوقت الذي تطالب فيه العرائض الشعبية والسياسية بـ «إعلان لندن مستقلة عن المملكة المتحدة وطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي» أو أن «لندن تبقى جزءً من الاتحاد الأوروبي»!؟
إنْ كان اليمين الأوروبي هو الأكثر انتشاء بنتائج الاستفتاء البريطاني، فثمة عشرات التصريحات التي حذرت من ردود «هستيرية»، وأخرى أيقنت، بما فيها « المكابرون»، بأن «فكرة أوروبا الموحدة باتت نسجًا من الخيال»، بل واعتبرت نتائج الاستفتاء البريطاني أول مسمار في نعش الاتحاد الأوروبي. ويكفي أن:
«عددًا من قادة أوروبا اجتهدوا في التأكيد على ضرورة «تنظيم خروج بريطانيا بعيدا عن الفوضى والهلع».
الهدوء وضبط النفس سيدا الموقف
ومن جهته لم يتوقف رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، عند الدعوة إلى «تحليل الوضع بهدوء وضبط نفس»، بل حذر من أن:
« عواقب قرار البريطانيين… لا يمكن التنبؤ بها».
عواقب ربما لن يطول وقتها، في ضوء أخطر تقرير لأسبوعية «دير شبيغل – 25/6/2016» الألمانية، كتبه مراسلها في إيطاليا، هانز يورغن شلامب، وخطه بعنوان عريض: « دقت ساعة الانفصال عن أوروبا! »، وقال فيه بأن:
«المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أحصى 32 طلبا من 45 حزبا وتيارًا لإجراء استفتاءات شعبية للخروج من الاتحاد الأوروبي».
وقال التقرير أيضًا إن:
«صدى مطالب الخروج وصلت إلى إيطاليا بعد أن دعا حزب الحرية المتطرف بهولندا والجبهة الوطنية بفرنسا لمنح مواطني بلديهما فرصة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي».
كما ذكر أن:
«وباء الاستفتاء يجتاح دولا عديدة في القارة بينها بولندا والدانمارك. وأن الشعبويين يطالبون بمعاقبة الأشرار ببروكسل. وأن اختيار البريطانيين الخروج من الاتحاد أشعل شرارة جدل حاد في التشيك».
وأن: التقارير الصحفية تتحدث عن مخاوف شديدة بوزارة المالية الألمانية من إمكانية خروج فرنسا والنمسا وهولندا وفنلندا والمجر من الوحدة الأوروبية. أما كاتب التقرير فلاحظ أن:
«مطالب الاستفتاء مبنية على معارضة استقبال اللاجئين، وقال إن الكثير من هذه الأحزاب تؤيد بشكل متعجل وغريب قطع كل الروابط مع أوروبا».
عودٌ على البدء
فإذا كانت هذه التيارات والأحزاب والقوى تنشط في العمل على « قطع كل الروابط مع أوروبا»؛ فما هي هوية الدول الأوروبية؟ ومن هي أوروبا إذن؟ ومن تكون؟
أسئلة تذكر بوقائع التاريخ الأوروبي زمن الكنيسة! حيث لم يكن ثمة مجتمع ولا إنسان ولا مواطن ولا هوية في ظل الحكم الكنيسي. وحيث كانت أوروبا تعيش ثنائية الأسياد والعبيد. قبل الانطلاقة العلمية والمعرفية! ولعلها المفارقة الثانية في الخروج البريطاني. ففي زمن العبودية والتسلط كانت أوروبا تقاتل ذاتها من أجل الحرية، وفي زمن العلوم الرقمية تبدو أوروبا، مع نوازع التفكك والانزواء نحو القوميات القديمة، ما قبل الدولة القومية، ترجع إلى نقطة الصفر. والصفر هنا بالمعنى الرقمي، سيؤدي إلى تراجع أوروبا من منطقة الواحد (on) إلى منطقة الصفر (off)، حيث الحروب الأهلية والمذهبية الطاحنة.
بداية انتقال مراكز القوة
وفي سياق «الصفر الرقمي»، ثمة ما يستدعي التوقف عنده مليًا، وهو قراءة مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسل وأستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس، دوفين محمد بدي أبنو، حين قال إن:
«انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي سيوقظ جراحًا كبيرة داخل الاتحاد، بل وداخل الدولة الوطنية نفسها التي أصبحت مهددة بالانقسام مثل ما يمكن أن يحدث من انفصال أسكتلندا وأيرلندا الشمالية عن بريطانيا.»
مشيرا إلى أن:
«هذه الخطوة ربما ينظر إليها المؤرخون مستقبلا على أنها بداية انتقال مراكز القوة من أوروبا إلى آسيا».
سنة التدافع
لكن كيف تتراجع أوروبا لصالح آسيا وهي رأسمالية مثلها، وحتى النخاع؟ وكيف تتقدم آسيا وهي موطن تقاسم الرأسمال مع أوروبا والولايات المتحدة؟ وما هو الضامن لإفلات العالم من شبح الحروب الأهلية والدولية المتصارعة على الرأسمال والموارد والثروات، فضلا عن مكونات المجتمعات الآسيوية، المحملة بعشرات آلاف الإثنيات والقوميات والعائلات والطوائف والمذاهب والأقليات المتصارعة تاريخيًا؟
في مثل هذه الانعطافات الكبرى في الأرض، كانت دعوى الأنبياء منذ عهد آدم، عليه السلام، وإلى يومنا هذا. فالأيديولوجيات والمنظومات الوضعية تنهار، والبنى الاجتماعية تتفكك، والنظم السياسية تتصارع. سنن «دعوى التوحيد»؛ ومن بينها « التدافع» هي الوحيدة التي تُصلح ما يفسده البشر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
مفاجآت قد لا تخطر على بال
لذا فسيتحمل الإسلام والمسلمون القسط الأعظم من المسؤولية عاجلا أم آجلًا. لكن يلزم بالقول أن النظام الدولي الراهن احتاج نحو مائة عام حتى ظهر في صيغته الحالية، وعاشت أوروبا نحو ستين عامًا بهدوء، لذا فقد تحتاج البشرية إلى عشرات السنين كي تخرج من مآزقها. نقول هذا في ظل منظمتي القوة البايولوجية والميكانيكية اللتين أنتجتا الحضارة الغربية، وهما منظومتان بطيئتان في التغيير، لكن بالمقارنة مع ما تنتجه منظومة العلوم الرقمية، خاصة فيما يتعلق باختصار الوقت اللازم للتغيير، فقد نستفيق على مفاجآت لا تخطر على بال.