ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
تعالوا نُذكِّر بواحدة من القواعد الهامة التي على أساسها نهض العقل الدَّعوي الأول، وسطعت على إثره شمس الإسلام على العالم. لكن قبل ذلك، هل صحيح أن التحولات المتعاقبة اليوم داخل الأمة؛ باتت دليلًا على إخفاق العقل الدعوي الحالي وتلاشي فاعليته؟ وهل أظهر بالفعل عدم أهليته، وإمكان تجاوزه في معركة الاستنهاض الحالية؟
قَبْل أن يبني نبيُّنا -عليه الصلاة والسلام- لنفسه بيتًا، بنى لربه -تعالى- بيتًا، ثم بادر بعد ذلك مباشرة إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ فبث الألفة بين قلوبهم، ونشر مشاعر الود والتراحم بينهم.
لقد سما بهم عبر مدارج الأخوة في الله من أديم الأرض إلى سماء الإيمان؛ إذ “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (1). فارتقت النفوس فوق كل ما يمكن أن يشدها إلى نوازع الانتهازية أو حظوظ الجاهلية التي لا تَرى في الأخوة إلا سندًا في الخطوب؛ ودرءًا للمَغارِم؛ وسبيلًا إلى المغانم … فقط، إلى عالم آخر؛ عالم ” الأمة ” الواحدة والمُوَحِّدة.
لذا ما فتئ -صلى الله عليه وسلم- يدعو الصحابة منذ البدايات الأولى إلى الاحتماء بالحصن الواحد، حصن (إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) -الحجرات/10-، حصن التآلف ووحدة الصف. فهو دون ريب مصدر العز، وينبوع الغنى والقوة. يدعوهم إلى ذلك في لحظات حرجة؛ حيث كان للفقر سطوته؛، وللضعف هيمنته؛ وللإيذاء شدته وحرارته.
يدعوهم -عليه الصلاة والسلام- إلى ذلك، فهو أوعاهم بسيئات التنازع وأضراره، وأدراهم بعواقبه ومآلاته، وأعلمهم وأعرفهم بشدة وقعه وعظم ضرره، وسرعة فتكه بكيان الأمة من الداخل؛ ومدعاة للتطاول عليها من الخارج ﴿وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ -الأنفال/46-. وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه-، قال رسول الله: “لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ” (2).
وصدق الشاعر حين قال:
كونوا جميعًا يا بني إذا اعترى *** خطب ولا تتفرقوا أفرادًا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا *** وإذا افترقن تكسرت آحادًا
ولا بد من التأكيد على أن أمجاد هذه الأمة هي أمجاد إسلامية خالصة، وما اسْتُنهضت أول الأمر إلا على صرح الدعوة إلى الله، وما قام هذا الصرح إلا على أساس الأخوة في الله. وإنها لقاعدة من أقوى القواعد الاجتماعية التي سارت وفقها الحضارة الإسلامية نهوضًا وسقوطًا، علوًا وهبوطًا؛ بزوغًا وأفولًا.
فالمُدقق في صفحات التاريخ؛ الأكيد أنه لن يجد إلا ما يصدح بهذه الحقيقة؛ حقيقة أن ظلال الأمجاد التي كانت الأمة تتفيؤها آنذاك، إنما كانت جذورها ترتوي من معين الدعوة إلى الله. وما استطالت أوراقها إلا بالتوازي مع مشاعر الحب في الله، وجنبًا إلى جنب مع الأخوة في الله. ودون مواربة؛ فاليوم الذي اندرست فيه هذه المعاني، هو اليوم نفسه الذي توارت فيه هذه الأمجاد خلف ذلك الجدار السميك من التنازع والتباغض للأسف.
فالمفترض إذن في المسلمين إذا ما رغبوا في اللحاق بحركة التحضر، وإيقاف وضعية الانحدار الحضاري، أن يدركوا ألا سبيل أنفع لهم من سبيل الدعوة إلى الله، إذ لن يَلْفَوْا للانطلاق أفضل مما انطلق منه الرعيل الأول من الدعاة؛ ألا وهي الأخوة في الله، ونبذ التنازع والاختلاف. يقول -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا”. (3)؛ إذ “يستحيل أن يصلح الإسلام أو تستقيم أموره أو يصح عرضه أو يعم نفعه إلا إذا عاد التاريخ إلى سيرته الأولى”. (4)
ولمزيد من البيان؛ فالسقوط الحضاري الشنيع الذي وقعت فيه الأمة منذ قرون -وباستقراء سنن الله في التاريخ والأنفس- مردُّه إلى الهوة العميقة بين واقع المسلمين، وبين القيم والتعاليم التي جاءت بها البعثة المحمدية. هوة ما زالت تتسع شيئًا فشيئًا منذ زمن ما بعد الموحدين -بتعبير مالك بن نبي- حتى يومنا هذا!
ففأس الانسلاخ عن جوهر الرِّسالية، والاستخفاف بمستلزمات الدعوة إلى الله ومتطلباتها المؤسَّسة على الأخوة في الله؛ كانت الأداة التي أمعنت في الشرخ وأوغلت في أعماق الهوة! ورغم ذلك؛ يبقى أقدر الناس على ردم هذه الهوة والخلاف عن المرسلين والمصلحين الأوائل هم الدعاة إلى الله. لكن هذا الترشيح مشروط بأن يعيدوا لمعاني الحب وقيم الإخاء روحها وأَلَقَهَا الذي كانت عليه أول مرة.
إن الدعوة قبل أن تكون شكلًا من أشكال التوسع ووسيلة للتمدد؛ أو أداة لاستئصال الآخرين -كما هو معهود في النصرانية البُولْسِيَّة-؛ فهي في ديباجة الدين الحنيف واجب شرعي، وضرورة حضارية، وبيئة خصبة للمعاني الإنسانية .. قبل أي شيء آخر. ولن نبالغ إذا قلنا بأنها -في التصور الإسلامي- تقع من هذه الأمة بل من الإنسانية جمعاء، كما يقع جهاز المناعة من الجسد.
لكن المسافة لا تزال شاسعة بين التطلع والتطبيق؛ بين النظري والعملي. إذ نلحظ اليوم -للأسف- حبسًا للدعوة في التجليات التنظيمية، واختزالها في الكم على حساب الكيف، وطغيانًا لمنطق التشيُّئ عوض المعنى؛ في تعبير صريح عن حالة التجاذب بين المعاني الروحية والنزعة المادية. والتي تكابد اليوم ليس الدعوة الإسلامية فقط جراءها؛ بل الإنسانية جمعاء.
وعلى أية حال فلا نستطيع بتةً أن نعد شخصًا داعية رصيده الإنساني هزيل. فهذا الصنف عقله الدعوي غير مدرك لنفائس القرآن الكريم والسيرة النبوية! لذا غالبًا ما تراه يتقن من الدعوة الأشكال والصور لا المضمون والجوهر؛ خلافًا للمعهود في أدبيات الدعوة الإسلامية والتي من طبائعها أنها تشد الداعية إلى أخيه الداعية بما هو أمتن من الخيوط التنظيمية والهواجس الحزبية والمتمثل في حبل الحب في الله -جل جلاله-.
الحب في الله هو العروة الوثقى التي تؤلف بين الدعاة، وعبرها تسري المودة إليهم. ولقد رأينا مقدار الجهد الذي بذله الصحابة -رضي الله عنهم- في الحفاظ على هذه العروة؛ وكيف استرخصوا لأجلها حياتهم، وأوقفوا لها أعمارهم؛ وبسببها طووا في سياحتهم مشارق الأرض ومغاربها، هذا من وجه. ومن وجه آخر؛ وجب ألا ننسى أن الدعوة إلى الله مرآة تنعكس عليها إنسانية الداعية، فـ”كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ”.
بالهوية الدعوية يضحى الداعية إلى الله رقيق المشاعر بالناس؛ رحيم الجنان ببني جنسه، يشفق على إنسانيتهم، ويشعر بمعاناتهم، ويجتهد لانتشالهم مما هم فيه من أوحال المادة .. فلا اعتبار عنده لألوانهم أو أعراقهم أو ألسنتهم. بل لربما هذه الهموم الدعوية -كما كان الحال مع الصحابة– قد تحدو به إلى ترك الأهل والخُلّان وهجر الأوطان، عسى أن ينوله ربه خيرًا له من حمر النعم؛ بل خيرًا مما طلعت عليه الشمس.
الهامش:
- 1- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1/ 14)، رقم: (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير (1/ 67)، رقم: (45).
- 2- جزء من حديث أبي مسعود رضي الله عنه أخرجه مسلم (432).
- 3- أخرجه أبو داود (664) وصححه الألباني في ” صحيح أبي داود “.
- 4- محمد الغزالي. معركة المصحف. دار النهضة، مصر. ط 2000، ص 116.
مقال جميل
بارك الله فيك دكتور رضواني على هذا المقال الرائع الذي نحن في أمس الحاجة للتحلي بنصائحه.