القوة الأمريكية في ميزان الحضارات

لا زلت أتذكر تلك القوة التي تنبض بها أمريكا ماديا، تشاهدها أثناء تجولك في الشوارع والطرقات، حين تسافر من مدينة لأخرى، حين تدخل في مباني الجامعات ومراكز البحث والمؤسسات المنتجة على اختلاف أنواعها، موارد لا تنضب من المواد والخامات، ومن القوى والرجال.

نتاج هائل يعيا به العدو الإحصاء، لقد لفتت انتباهي تلك المعاهد والمعامل والمتاحف المبثوثة في كل مكان، وشدتني عبقرية الإدارة والتنظيم التي تثير العجب والإعجاب سواء في مجال البحث العلمي ومختبراته أو في المصانع أو الشركات، تشاهد حتما وأنت في هذه المناطق الحيوية الرخاء السابغ وتبصر بحبوحة العيش التي ينعم بها الموظف والطالب الأمريكي.

هذا دون أن ننسى عبقرية الهندسة المعمارية وتلك البنايات الشاهقة التي تتسابق رؤوسها في مناطحة السحاب، وحين نرتفع في طبقاتها نشعر بضخامة البناء وبعلوه المخيف، ويثيرنا أكثر كمّ البشر الذين يتحركون في هذه البنايات في كل يوم يغدون ويروحون سعيا لأرزاقهم وملاحقة أحلامهم!.

طبيعة ساحرة

ثم مع هذا كله  تزدان الأرض الأمريكية بجمال ساحر في الطبيعة والوجود لقد كنت أتعمق في كل مشهد يمر علي تلقائيا فأجدني أسبح بحمد الله وقد أثار أشجاني صنع الله، فكأن الطبيعة هناك قد لبست أجمل ثيابها وتأنقت بأبهى الألوان عبر الفصول الأربعة، تفتنك المناظر الخلابة وأنواع الشجر والجبال والهضاب والبحيرات والشلالات المبهرة وأنواع الحيوانات والطيور، كل هذا كان يعتني به الأمريكان بطريقة ملفتة من فرق خاصة بالحراسة وبالنظافة وبالعناية والتطوير تلمح ذلك على مستوى المدينة كما على مستوى البيت الواحد، فكثيرا ما نجد البيوت تلفها حدائق ذات بهجة اهتم بجمالها سكانها أيما اهتمام وبذلوا في ذلك الأموال والأوقات والأفكار.

لا زلت أذكر كل لحظة خاطفة لروحي وكل إشراقة لها في ضميري تنبض بالإيمان واستشعار عظمة الخالق حينما أقلب بصري في ملكوت السموات والأرض الأمريكية.

التجنيد

وحين كنت أقف في المطارات الداخلية كان يلفت انتباهي التواجد العسكري والجنود الأمريكان الذين لا يكاد يخلو منهم مطار، يودعون أهاليهم وأصحابهم أو يمضون فرادى بلا وداع لأحد، فهذا مسافر لأفغانستان وذاك للعراق وذاك لقاعدة أمريكية في مكان ما ويتميز الجندي الأمريكي بضخامة الجسد وصلابة المنظر لا يمكن أن تراه يبتسم وكأنه أعد إعدادا قاسيا للحروب والمواجهات، هذا ما يبدو لأول وهلة حينما نشاهد الجندي الأمريكي يحمل على ظهره حقيبة مثقلة بالحاجيات الضرورية لحياته والتي بدونها لن يقوى على البقاء لهذا فهي لا تفارقه أينما تنقل.

أما مباني السجون وقواعد الجيش فهذه تحصيناتها لا توصف وصلابة جدرانها لا تعقل، وقد هالني منظر سجن الكولورادو الذي يبدو كترسانة بذاته تعكس درجة التحصين التي تتميز بها مثل هذه المراكز الحساسة في الدولة الأمريكية المحاربة.

ولا شك أن من زار السفارات الأمريكية قد انتبه لذلك التحصين الشديد والمراقبة الأشد منذ أن تطأ قدمه البوابة إلى أن  يدخل في مبناها إلى أن يخرج منه.

طبيعة الشعب الأمريكي

نعم كل هذا سيصطدم به المسافر لأمريكا منذ أول لقاء له بالأمريكان وفي كل يوم يعيش فيه على تلك الأرض البعيدة، ولكن الأكثر مفاجأة بالنسبة للباحث في حياة الشعب الأمريكي هي طبيعة هذا الشعب وطبيعة الأمريكي بشخصه، فرغم أن الشعب الأمريكي شعب يبلغ في عالم العلم والعمل، قمة النمو والارتقاء، إلا أنه في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى؛ بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك.

ولا زلت أذكر تلك المحادثة التي جرت بيني وبين دكتورة باحثة في الجامعة حين قالت لي بكل ثقة، نعم إننا ملكنا زمام العلم وبلغنا أعلى مراتب العالم المادي ولكننا للأسف لا زلنا متخلفين روحيا لا زلنا بدائيين بشكل واضح، ولم نتمكن بعد من تجاوز هذه الأزمة التي نخشى أن تكون سببب انهيار حضارتنا.

ولا شك أن لهذا تفسير يرتبط مع ماضي هذا الشعب وحاضره، وفي الأسباب التي جمعت فيه بين قمة الحضارة وسفح البدائية.

تاريخ أمريكا

فمن يرجع لقصص الجماعات الأولى التي هاجرت إلى أمريكا في أيامها الأولى، ويتصور كفاحها الطويل العجيب، مع الطبيعة الجامحة في تلك الأصقاع المترامية، ومن قبل مع أنواء المحيط الرعيبة، وأمواجه الجبارة، في تلك القوارب الصفار الخفاف؛ حتى إذا رست على الصخور محطمة أو ناحية لقيت النازحين، مجاهل الغابات، ومتاهات الجبال، وحقول الجليد، وزعازع الأعاصير، ووحوش الغابات وأفاعيها وهوامها.

لقد يدهش الإنسان كيف لم يترك هذا كله ظلاله على الروح الأمريكية إيماناً بعظمة الطبيعة وما وراء الطبيعة، ليفتح لها منافذ أوسع من المادة وعالم المادة، بل على العكس من هذا كله قابلت الروح الأمريكية الطبيعية بسلاح العلم وقوة العضل، فلم تثر في الأمريكي إلا قوة الذهن الجاف؛ وقوة الحس العارم، ولم تفتح له منافذ الروح والقلب والشعور، كما فتحتها في روح البشرية الأولى.

وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين؛ والإيمان بالقيم الروحية جميعاً؛ لا يبقى هنالك متصرف لنشاطها إلا في العلم التطبيقي والعمل، وإلا في لذة الحس والمتاع. وهذا هو الذي انتهت إليه أمريكا بعد كل القرون التي مضت.

النفسية الأمريكية الأولى

ويحسن ألا ننسى الحالة النفسية التي وفد بها الأمريكي إلى هذه الأرض فوجاً بعد فوج، وجيلاً بعد جيل، فهي مزيج من السخط على الحياة في العالم القديم، والرغبة في التحرير من قيوده وتقاليده، ومن هذه القيود والتقاليد الثقيل الفاسد، والضروري السليم، ومن الرغبة الملحة في الثراء بأي جهد وبأية وسيلة؛ والحصول على أكبر قسط من المتاع تعويضاً عما يبذله من الجهد في الثراء.

ويحسن ألا ننسى كذلك الحالة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى التي تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد. فهذه الأفواج هي مجموعات من المغامرين، ومجموعات من المجرمين؛ فالمغامرين جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات؛ والمجرمون جيئ بهم من بلاد الإمبراطورية الإنجليزية لتشغيلهم في البناء والإنتاج.

السر  وراء البدائية

كل هذه الملابسات وكل هذه الأفواج، كانت وراء استنهاض وتنمية الصفات البدائية في ذلك الشعب الجديد  الذي تسلح بالعلم، والعلم في ذاته – وبخاصة العلم التطبيقي – لا عمل له في حقل القيم الإنسانية، وفي عالم النفس والشعور. وبذلك ضاقت آفاقه، وضمرت نفسه، وتحددت مشاعره.

فالأمريكي لم تتهذب روحه بالدين، ولم يتهذب حسه بالفن، ولم يتهذب سلوكه بالاجتماع. ثم لم تلاقي هذه المبادئ والمثل هواتف في الضمير، ولا حقائق في الشعور، مرجوة التحقق في يوم من الأيام. وعلى العكس من ذلك انشغل الأمريكي بمرحلة البناء، البناء لا غير، وما تزال هنالك مساحات شاسعة لا تكاد تحد من الأراضي البكر التي لم تمسها يد؛ ومن الغابات البكر التي لم تطأها قدم، ومن المناجم البكر التي لم تفتح ولم تستغل، وما يزال ماضياً في عملية البناء الأولى، على الرغم من وصوله إلى القمة في التنظيم والإنتاج.

الهنود الحمر

وحينما أقرأ تاريخ أمريكا تذهلني تلك الجرائم البالغة البشاعة التي أجرمها الأمريكان بحق الهنود الحمر – السكان الأصليين لأمريكا- وبحق بقية الشعوب، فرغم كل القوة التي تزدان بها الولايات المتحدة الأمريكية تبقى قيمة الحضارة البشرية، ليس فيما ابتدعه الإنسان من آلات، ولا فيما سخره من قوى، ولا فيما أخرجت يداه من نتاج. إنما تبقى معظم قيمتها فيما اهتدى إليه الإنسان من حقائق عن الكون، ومن صور وقيم للحياة؛ وما تركه هذا الاهتداء في شعوره من ارتقاء وفي ضميره من تهذيب، وفي تصورة لقيم الحياة من عمق، والحياة إنسانية بوجه خاص، مما يزيد المسافة بعداً في حسابه وحساب الواقع، بينه وبين مدارج الحيوانية الأولى، في الشعور والسلوك، وفي تقويم الحياة وتقويم الأشياء.

فالحضارة الأمريكية لم  تنشأ على الحرية والإنسانية والعيش المشترك التي يرفعها شعارات اليوم ساسة البيت الأبيض، بل  قامت على الدماء وبنيت على جماجم البشر ، فقد أبادت أمريكا  112 مليون إنسان  من بينهم 18.5 مليون هندي أبيدو ودمرت قراهم ومدنهم عن بكرة أبيها، وبأبشع الأساليب وبأفظع وحشية قد يعرفها بشر، خلال 150 عامًا أبيد فيها الهنود الحمر وسحق وجودهم وسلبت حقوقهم، صورهم الأمريكيون كأناس متوحشين متخلفين يهددون حياتهم فوجب التخلص منهم.

لقد تميز الهنود الحمر بطيببة وسذاجة وبساطة كانت غير نافعة البتة لتقف أمام طغيان الرجل الأمريكي، الذي استعمل قوته المادية لقتلهم بأنواع الحروب بما فيها القذرة التي سلط فيها جرثومة الجدري  والطاعون والحصبة والكوليرا والسل والأنفلونزا والديفتريا والتيفوس ! ويعد هذا نجاحا ومجلب سعادة عند الأمريكان ، يقول”وليم برادفورد” حاكم” بليتموت”: “إن نشر هذه الأوبئة بين الهنود عمل يدخل السرور والبهجة على قلب الله”.

وقد وثقت 93 حرباً جرثومية شاملة ضد الهنود الحمر على يد الأمريكان، فصلها الكاتب الأمريكي هنرى دوبينز في كتابه “THE NEMBER BECAME THINNED : NATIVE AMERICAN POPULATION”.

ويكفي معرفة أن أندرو جاكسون  وهو الرئيس الأمريكي السابع الذي نجد صورته في ورقة العشرين دولار الأمريكية، اشتهر بعشقه للسلخ وللتمثيل بالهنود الحمر حيث يذكر بأنه في حفلة واحدة وصل عدد ضحاياه من سلخ وتمثيل إلى 800 رجل وكان يحسب عدد قتلاه بإحصاء عدد أنوفهم وآذانهم المقطوعة، ويعتبر الأمريكان هذه الفظائع أعراض جانبية أو أضرار هامشية كثمن بسيط من أجل أن يسطع نور حضارتهم.

القوة في ميزان الحضارات

إذاً ابتداع الآلات، أو تسخير القوى، أو صنع الأشياء، ليس له في ذاته وزن في ميزان القيم الإنسانية، إنما هو مجرد رمز لقيمة أساسية أخرى هي مدى ارتفاع العنصر الإنساني في الإنسان، ومدى الخطوات التي يبعد بها عن عالم الأشياء، وعالم الحيوان، أي مدى ما أضاف إلى رصيده الإنساني من ثراء في فكرته عن الحياة، وفي شعوره بهذه الحياة.

وهذا ما يفاضل بين حضارة وحضارة، وهذا هو  الرصيد الباقي وراء كل حضارة، المؤثر في الحضارات التالية.

والحقيقة التي يكتشفها الباحث في طبيعة الحياة الأمريكية هي أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج، بحيث لم تبق فيها بقية تنتج شيئاً في حقل القيم الإنسانية الأخرى.

وكم كنت أتعجب من موظفين يعملون السنة كاملة لا يجدون إلا أسبوعين عطلة خلالها ورغم ذلك قد يطالبون بالعمل في العطلة لأجل كسب المزيد من المال.

لقد تعجبت من درجة الجدية والانضباط في الدوام اليومي مع الأمريكي، فهي قضية مصيرية حاسمة لا يمكن أن يتعامل معها بشكل ثانوي أو بتراخي.

وهذاما يفسر لما بلغت أمريكا في حقل العمل ما لم تبلغه أمة، وجاءت فيه بالمعجزات لقد كاد الإنسان هو ذاته أن يستحيل إلى آلة؛ وهذا ما شغله عن المضي قدماً في طريق الإنسانية، فأطلق للحيوان الكامن العنان؛ ضعفاً عن أن يحمل عبء العمل وعبء الإنسان معا.

هذه هي أمريكا التي رأيت، وهي التي تمثل اليوم  القوة العالمية المهيمنة ورأس الكفر والطغيان ومصدر التمرد على الأعراف ووكر الفساد في القيم والأخلاق.

ولا زال للحديث بقية أبثها في صفحات تالية.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. انما امريكا هى من مخططات الشيطان وصنعه وهى مركز الظلم والطغيان …الراعى الرسمى للماسونية..وكل ما تفعلة هو من تصميم الصهاينة.

    بارك الله فيكى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى