غطرسة أمريكية تستتر بالديمقراطية: ما الذي أراده مجلس الشيوخ من عمالقة مواقع التواصل؟

في صباح يوم الأربعاء، 31 من يناير/كانون الثاني 2024، عقدت اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ الأمريكي جلسة استماع تاريخية إذ شهد الرؤساء التنفيذيون لشركات التواصل الاجتماعي الكبرى، بما في ذلك Meta وTikTok وSnap Inc. وDiscord، حول قضايا مختلفة تتعلق بسلامة الأطفال عبر الإنترنت، غطت جلسة الاستماع موضوعات مثل: مكافحة الاستغلال الجنسي للأطفال، وحماية الصحة العقلية للمستخدمين الصغار، وضمان أمن بيانات الأطفال. 

سنناقش في هذا المقال ما إذا كانت جلسة الاستماع هذه في مجلس الشيوخ مظهرًا من مظاهر الديمقراطية أم شكلًا من أشكال الغطرسة الأمريكية؟

وقد قِيلَ إنها ستكون إحدى أكثر جلسات الاستماع إثارة للجدل والتي تتم مراقبتها عن كثب، حيث حضر شهود ممثلون لكبرى شركات التواصل الاجتماعي: 

  • الرئيس التنفيذي لشركة ميتا (مارك زوكربيرج)
  • الرئيس التنفيذي لشركة Snap (إيفان شبيغل)
  • الرئيس التنفيذي لشركة X (تويتر سابقًا) (ليندا ياكارينو)
  • الرئيس التنفيذي لشركة TikTok (شو تشيو)
  • الرئيس التنفيذي لشركة Discord (جيسون سيترون)

بداية ساخنة

كانت الجلسة حول حماية الأطفال على منصاتهم الخاصة. وانتقد المشرعون من كلا الحزبين الشركات، لأنها فشلت في معالجة ما أسماه البعض «طاعون الاستغلال الجنسي للأطفال عبر الإنترنت»1 على تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي. الهدف الظاهر من جلسة الاستماع هو تقديم التشريعات التي يعتقد أعضاء الكونجرس أنها ضرورية لإجبار الشركات على بذل المزيد من الجهد لحماية الأطفال على منصاتها.

إذ قال السيناتور الجمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية، ليندسي جراهام، للرؤساء التنفيذيين في كلمته الافتتاحية: «أيديكم ملطخة بالدماء»، وقد أثار حديثه تصفيقا وهتافا من أكثر الحضور.

وقال أيضًا مخاطبا الشركات التقنية: «لديكم منتج يقتل الناس… لا يمكن مقاضاتكم؟! يجب أن تتم مقاضاتكم»، وأضاف جراهام: «حان الوقت الآن لإلغاء المادة 230».

ماهي المادة 230؟

المادة 230 هي القانون الفيدرالي الذي يعمل على تحصين مواقع الويب ومنصات التواصل الاجتماعي من قرارات الإشراف على المحتوى ومن الدعاوى القضائية الناشئة عن المحتوى الذي ينشئه المستخدمون.

الغرض الأساسي من المادة 230 هو حماية مالكي أي «خدمة كمبيوتر تفاعلية» من المسؤولية عن أي شيء تم نشره بواسطة أطراف ثالثة، لأن مثل هذه الحماية ضرورية لتشجيع ظهور أنواع جديدة من الاتصالات والخدمات في فجر عصر الإنترنت.

وقد تم إصدار المادة 230 في عام 1996 كجزء من قانون يسمى قانون آداب الاتصالات.

الاستعراض الديمقراطي بوجهه الآخر 

بدأت جلسة الاستماع التي بلغت ما يقارب أربع ساعات بكلمة افتتاحية من رئيس اللجنة ديك دوربين (ديمقراطي من إلينوي) بإدانة عنيفة لجميع الشركات وممثليهم وقال إنهم المسؤولون عن هذه الكارثة ويجب عليهم أن ينظروا إلى أنفسهم في المرآة. وقال: «شركات التواصل الاجتماعي الأكثر ربحا في تاريخ الرأسمالية ويجب على هذا أن يتغير». وكلام دوربين يتعارض بشكل كامل مع كل المبادئ الاقتصادية في النظام الرأسمالي ونظام السوق الحر «دعهُ يعمل، دعهُ يمر» وكل القيم التي طالما روجت لها الولايات المتحدة.

وبعدها تكلم نائب رئيس اللجنة ليندسي جراهام (جمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية) في كلمته الافتتاحية حيث قال: «منتجاتكم خطيرة ومدمرة للديمقراطية» ووصف الشركات بأنها لا تفعل أي شيء لمعالجة هذا الخطر الكبير وقال أيضًا: «أيديكم ملطخة بالدماء»، وكان هجومه الأكبر موجها نحو شركة تيك توك TikTok حيث قال: «تيك توك لا تحمي بيانات المستخدمين الأمريكيين من الشركة الصينية»، وأنهى السيناتور ليندسي جراهام كلمته بسؤال غاضب قال فيه للرئيس التنفيذي لشركة تيك توك (شو تشيو) «هل تعلم أن منصتك هي الأداة المثالية للاستغلال الجنسي وتستخدم لذلك»؟

الإمبريالية في أبهى صورها

شهدت جلسة الاستماع أيضا حضورًا غاضبًا عارمًا من قبل بعض أعضاء اللجنة القضائية موجها نحو أصحاب المنصات التي لا تمنع المنشورات المناصرة للقضية الفلسطينية، وتم اتهامهم بمعاداة السامية، وأنه يجب على كل المنصات حظْر كل سردية معارضة للسردية الإسرائيلية، حيث هاجم  نائب رئيس اللجنة ليندسي جراهام وزاد هجومه حدَّة عندما انتقد تيك توك TikTok بشأن عدم مراقبتها المحتوى المناصر للقضية الفلسطينية، ولا تمنع المحتوى الإرهابي -حسب قوله- في البحر الأحمر من قبل الحوثيين: «قدمت الحكومة الإسرائيلية أن تيك توك يُستخدم لتدمير الدولة الإسرائيلية»، وأضاف على ذلك بتهجم كبير على الرئيس التنفيذي لشركة تيك توك (شو تشيو) «هل تدرك أن تيك توك يحتفل بالأفعال البربرية لحماس وأيضًا بأفعال الحوثيين في اليمن ويروج لها». وأيضًا قام السيناتور (جوش هولي) بإفراغ غضب كبير على شركة تيك توك بسبب عدم حماية السردية الإسرائيلية ومنع المحتوى الإرهابي والبربري -حسب قوله- وهذا يدعو إلى التساؤل حول أهداف هذه الجلسة الحقيقية. 

الغطرسة الأمريكية المتعجرفة

ألقت السيناتور (إيمي كلوبوشار) كلمة أثارت الكثير من العواطف في الجلسة بذكرها لبعض القصص التي سمعتها من ضحايا الاستغلال الجنسي على هذه المنصات، وتوجهت باتهام غير مبرر لكافة المنصات حين قالت «منصاتكم تستخدم الخوارزميات لترويج المخدرات لعصابات (كارتل) في المكسيك والصين».

ثم بدأ السيناتور (جون كورنين) الذي تكلم بلغة مليئة بالازدراء والاستعلاء ووجه أسئلة لكل ممثلي الشركات، ولم يكن يسمح لهم بإكمال إجاباتهم حتى بحجة أن الوقت ينفذ منه، وخصَّ هجومُه العنيف شركة تيك توك حيث قال: «شركتكم فريدة لأنها مملوكة من قبل شركة صينية»، وواصل هجومَه العنيف بالقفز إلى استنتاجات بدون أدلة حيث اتَّهم تيك توك بسرقة بيانات المستخدمين الأمريكيين من قبل الشركة الصينية الأم لتيك توك (بايت دانس). وكان ردُّ الرئيس التنفيذي لشركة TikTok (شو تشيو) بأن قال: «نحن شركة فريدة قمنا بنقل بيانات المستخدمين الأمريكيين وتخزينها في كاليفورنيا وقد وظفنا أكثر من ألفي موظف لهذا المشروع وقمنا ببناء حاجز يفصل هذه البيانات عن كامل التخزين السحابي العام للشركة وأطلعنا طرفا ثالثا من قبلكم على هذه البيانات وكل هذه الإجراءات كانت من أجل تقليل تخوفاتكم تجاهنا»، ولكن تم تجاهل كل ما قاله الرئيس التنفيذي لشركة TikTok شو تشيو تمامًا.

بعدها تكلم السناتور (جوش هولي) بنبرة حادة ساخنة عن نسب متخيلة اقتبسها من بعض الصحف الأمريكية التي بلغ الرئيس التنفيذي لشركة TikTok (شو تشيو) بأنها غير دقيقة وغير صحيحة، وقال السناتور: «منصتك عبارة عن ذراع التجسس للحزب الشيوعي الصيني». ورغم رفض الرئيس التنفيذي لشركة TikTok (شو تشيو) هذا التوصيف إلا أنه كان مرضيًا لأعضاء اللجنة القضائية.

القلق من التنين الصيني

وكان الهجوم الأعنف من قبل السناتور (توم كوتون) على شخص الرئيس التنفيذي لشركة TikTok (شو تشيو؛ حيث قال له: «ما هي جنسيتك ما هو الجواز الذي تحمله؟!»، وكان رده بأنه سنغافوري ولا يحمل إلا الجواز السنغافوري. ثم توجه السيناتور كوتون بالسؤال التالي: «هل تقدمت بطلب الحصول الجنسية الصينية؟»، وكان رده بالنفي غير كافٍ للسناتور، ثم أعاد سؤاله: «هل كنت عضواً في الحزب الشيوعي الصيني؟»، ولم تُلْقِ اللجنة بالا لرد الرئيس التنفيذي لشركة TikTok (شو تشيو) الذي قال: «لا أنا سنغافوري»، ووجّه إليه سؤالا آخر مباشرا: «هل كنت مشاركا مع الحزب الشيوعي الصيني؟»، ثم بدأ السناتور بالصراخ على (شو تشيو) وقال له: «هل شي جين بينغ دكتاتور؟»، أجاب (شو تشيو) بأنه لا يستطيع التعليق على أي أحد من قادة العالم، وكان رد السناتور ساخرًا: «لأنك تخاف أن تعود إلى الصين وتختفي إذا قلت عن شي جين بينغ أنهُ دكتاتور».

تحدث أيضا السناتور (جون كينيدي) ووجه سؤاله بابتسامة عريضة إلى الرئيس التنفيذي لشركة TikTok (شو تشيو) حيث قال له: «ماذا تعني يادا يادا يادا yada yada yada2»، وعندما أجاب (تشيو) بأنه لا يعرف معناها رد كينيدي باستخفاف وابتسامة ساخرة: «إجابتك غير رائعة جدًا»، وقال أيضًا: «لا تخجل، تحدث… لقد سمعت اليوم الكثير من يادا يادا يادا»، وأيضًا أشار كينيدي بأن الشركات الكبرى لوسائل التواصل الاجتماعي تُشكل خطرًا كبيرًا، فهم -على حد قوله- «أقوياء جداً». 

غطرسة بلا خجل

وختامًا، شهد العالم الحر -بوصف الأمريكان- أشد أنواع السخط والغطرسة في الخطاب الأمريكي المذاع حول العالم وأمام الجميع بدون خجل، يحمل نوايا بعيدة كل البعد عن قضايا مثل: الاستغلال الجنسي للأطفال والترويج للمخدرات وغيرها على المنصات الكبرى لوسائل التواصل الاجتماعي.

بل كان الهدف الرئيسي هو الحرص على الحفاظ وإحكام السيطرة على السردية الغربية للعالم وأهمها الترويج للسردية الإسرائيلية.

وأيضًا الهجوم الناتج عن القلق من التنين الصيني الذي يرعب الولايات المتحدة بسرعة نموه وسيطرته السريعة على الفضاء السيبراني، ومحاولة تشويهه بأبشع التهم -كعادة الولايات المتحدة- مثل دعم الإرهاب والتطرف، والترويج للمخدرات، ومعاداة السامية وغيرها الكثير.

ويبقى السؤال الآن هل جلسة الاستماع جسدت الديمقراطية الحديثة حقاً؟ أم جسدت العنجهية الأمريكية والغطرسة الإمبريالية؟

  1. Big Tech and the Online Child Sexual Exploitation Crisis، Senate Judiciary Committee website ،Visited on 2/5/2024. ↩︎
  2. يستخدمون هذه العبارة للتعبير عن عدم الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة أو للتعبير عن عدم الرغبة في الدخول في تفاصيل محددة، وعبارة “yada yada yada” أصبحت شهيرة بسبب مسلسل الكوميديا الشهير “Seinfeld”
    يستخدم شخصية George Costanza هذه العبارة بشكل متكرر في الحلقات، حيث يختصر بها القصص أو الحوارات طويلة بدون إضافة كل التفاصيل. ↩︎

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى