الدعوة في العصر الحاضر.. الواقع والمعوّقات والحلول

إن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى شَعيرةٌ عظيمة من شعائر الإسلام، وهي لمن تأمّل عنصرُ التكاثر في هذه الأمة، لأنها الباب الذي يلج منه غيرُ المسلمون إلى الإسلام، وهي مفتاح توبة كلّ من ندَّ وابتعد عن أوامر الله تعالى من عصاة المسلمين، فلا غرابة أن يسميَ كثيرٌ من أهل العلم الدعوةَ إلى الله ركنَ الإسلام السادس.

كيف لا وهي منهج الأنبياء وجهدهم الذي أفنَوا أعمارَهم في طريقه، واغبرَّت أرجلُهم في مسالكه، وهم يبلّغون أقوامهم وينذرونهم عذاب يوم عظيم.

ولما كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولما كانت شريعته خاتمة الشرائع، فقد شرَّف المولى سبحانه وتعالى أمة نبيه ﷺ من بعده بحمل هذا الشرف العظيم، شرفَ العمل في جهد الأنبياء وسلوك مسلكهم من بعدهم.

وإن المُطالِعَ المحلِّلَ لحال الدعوة الإسلامية في عصرنا هذا يجد ظروفَها لا تخلو من إيجابياتٍ وسلبيات، وفي هذه السطور نسعى لجسِّ المرض وتشخيص الداء رجاءَ أن نوفَّق لوصف الدواء.

بعض الإيجابيات في واقع الدعوة

إن من الإيجابيات التي لا يمكن تجاهلها ولا إغفالها أبداً أن الدعوة إلى الله تعالى لم تزل قائمة إلى يومنا هذا، فهي رغم تكالب الأعداء وتقصير الأبناء لم تزل بفضل الله تعالى موجودة، تنشط تارة وتخبو أخرى، تشتدُّ في فترة من الفترات وتعثر أخرى، ولكنها موجودة لا ينكر وجودَها وامتدادَ حبلها الموصول إلى أيام نبينا ﷺ إلا جاهل.

ولعلَّ في هذا المعنى معجزةٌ لنبينا صلوات ربي وسلامه عليه الذي أخبر قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام بأن الله تعالى قد أذن ألا تخلوَ الأرضُ من فئة تحمل على عاتقها أمر الله تعالى، وأنه لا يضرُّها كيد المحاربين ولا خذلان المقصرين.

ففي صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله)

وإن من الإيجابيات التي لا يمكن نكرانها أيضاً أن الدعوة إلى الله تعالى اليوم تشارك في أغلب ميادين التواصل المتاحة على ضعفٍ وتقصير، ولكنك تجد الدعاة إلى الله تعالى يزاحمون أهل الباطل في كل الميادين، بين مقروء ومشاهَد ومسموع، مع اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأعمارهم، وكلٌ له أسلوبه الخاص وبَصْمته الفريدة بفضل الله.

كما أن من الإيجابيات أيضاً أن الدعوة قد انتشر نشاطها في كل الرقعة الجغرافية المأهولة من هذه المعمورة إلا قليلاً من الدول والبلدان التي تحارب بالحديد والنار وجود المسلمين، ومع ذلك فالحكم للغالب فإنك لا ترسل الطرف إلى بلد من بلاد العالم العربية والأعجمية إلا وتجد فيها نشاطاً دعوياً مباركاً بفضل الله سبحانه وتعالى.

وهذا المعنى يبشّر باقتراب تحقّق ما أخبر به رسول الله ﷺ كما عند ابن حبان في صحيحه من حديث تميم الداري: (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين).

السلبيَّات بنظرة ناقدة بنّاءة

ولكننا لا نستطيع في المقابل أن نُغفِل التقصيرَ والسلبيات التي قد لابست النشاط الدعوي في أكثر الأحيان، وأثقلت كاهله وأبطأت نشاطه للأسف.

فمن هذه السلبيات أن كثيراً من الدعاة ينطلقون في نشاطهم الدعوي من دوائر ضيّقة فمن دعاة يدعون لأنفسهم وأشخاصهم، أو إلى جماعة معينة أو تيار فكري معيَّن، فضلاً عن دعاة الحزبية وغيرها وعُدَّ قياساً على هذا المعنى ما تشاء.

 ولكم حذَّرنا الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز من هذا المعنى الخطير، ونهانا عن الفرقة والخلاف، ألم يقل سبحانه وتعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} آل عمران

ألم يقل ربنا عزّ وجلّ: {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً كلُّ حزب بما لديهم فرحون} الروم

وإن من السلبيَّات أيضاً قصورُ المشاركات الدعوية في كثير من الأحيان عن مواكبة الأحداث والأدوات المتاحة، فبين داعية يحدِّث الناس عن الأحكام الفقهية التفصيلية في وقت تكون فيه النوازل التي تنزل بالمسلمين يشيب لها الولدان، وبين آخر قد آثر الالتزام بالكتابة الورقية وترك خوض غمار مواقع التواصل واكتساب فرصة الشبكات العنكبوتية التي سبقتنا إليها الحملات التبشيرية ودعاة الإلحاد!

وهذا سيدنا رسول الله ﷺ لم يدع فرصة إلا واستغلَّها، ولا مناسبة إلا وقال فيها كلاماً مناسباً، وهذا شأن الأنبياء جميعاً عليهم السلام لقد كانوا حريصين كل الحرص على أداء الأمانة، يطلبون من الله تبارك وتعالى أن يوفقهم ويسدد خطاهم وأن يعطيهم من الوسائل والأدوات ما يظنون معه أن الدعوة تبلغ أقوامهم بصورة صحيحة، تأمل معي ما يطلبه موسى عليه السلام من ربه تبارك وتعالى عندما أمره أن يتوجّه إلى فرعون ليبلّغه أمر الله تعالى: {قال ربِّ اشرح لي صدري * ويسّر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي} طه

تأمل الطلب والسبب الذي دعاه إليه، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي!

كما أن من السلبيَّات التي مُنيَت بها الدعوة الإسلامية في العصر الحديث وخصوصاً من الجماعات الإسلامية التي نشطت في هذا المجال  الوقوع بين الإفراط والتفريط في التعامل مع مبدأ الشدة واللين فإن المطالع لسيرة الرسول ﷺ يجد أنه قد وازن بين الشدة واللين في المواقف، كلُّ موقف بحسب ما يناسبه فهو القائل ﷺ كما عند مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه) وهو القائل في المقابل أيضاً لرجل رأى في يده خاتماً من ذهب فنزعه وطرحه كما عند مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أيعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده) وهو الذي قال لقريش يوم الفتح: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) كما أنه المقاطعُ للثلاثةِ الذين تخلّفوا يوم العُسرة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.

إن المطلوب من الداعية إلى الله أن يضع كل شيء في موضعه الصحيح، فاللين له موضعه كما للشدة موضعها، وهذا مقتضى الحكمة التي أمر الله بها ووهبها لعباده المخلَصين.

إن هذه السلبيات التي مررنا عليها ما هي إلا نتاج عوامل عديدة أثّرت بالدعوة والدعاة، وصبغت طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعقبات كؤود، ولأن تشخيص الداء دون وصف العلاج الناجع له مضيعة للأوقات، فها هنا أهم العوامل التي ألجأت الدعوة والدعاة إلى الوصول إلى السلبيات التي ذكرناها ومحاولة متواضعة لوصف العلاج المناسب لكل داء.

معوِّقات الدعوة

وحتى يكون الكلام دقيقاً منظَّماً فإن المعوِّقات التي تصيب الداعي في عصرنا هذا لا تخرج في الغالب عن ثلاث أصناف:

  • معوِّقات شخصيَّة
  • معوِّقات مجتمعيّة
  • معوِّقات دولية

المعوِّقات الشخصية

فهي كثيرة جداً ولعلَّ من أبرزها:

أ- الجهل: فإن كثيراً من الشباب المتحمّس ينطلق في ميادين الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وليس في جعبته علم شرعي، فتجده يفسد أكثر مما يصلح ويضرّ أكثر مما ينفع، وإن العلاج واضح لا يخفى وسهل لا يعسر على من صدق الله، إذ لا بد لمن شغَلَه همُّ الأمة من اشتغالٍ بطلب العلوم الشرعية، وخصوصاً تلك الأبواب التي يريد الحديث عنها ومباشرة الدعوة إليها، يقول المولى سبحانه وتعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن..} [النحل: 125]، ويقول تبارك وتعالى أيضاً: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف: 108].

ب-ومن المعوِّقات الشخصية أيضاً وقوع الداعية في بعض الأخلاق المذمومة مثل الكبر والعجب والغرور: فإن بعض الشباب إذا كتب الله تبارك وتعالى لكلماته أن يحصل لها شيء من الانتشار أعجبته نفسُه واغترّ بها، وربما رأى نفسه فوق الناس وأنهم دونه، فصار الأمر وبالاً عليه والعياذ بالله، وربما حمله العجب إلى ازدراء الناس أو احتقارهم أو الظن بأن الله تبارك وتعالى لن يغفر لأحدهم، وعندها يصير هو المحتاجَ للدعوة لا هؤلاء ويكون قد وقع في فخ عظيم من فخاخ إبليس، ففي صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)، وإن علاج أمثال هذه الأمراض هو تزكية النفس بتلاوة القرآن ومداومة الاطلاع على سِيَر الأنبياء عليهم السلام وقصص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.

ج- ومما يعيق الداعية أيضاً الفقر: فإن بعض الدعاة ينقطعون عن الدعوة ولا يرجعون إليها لقلَّة ذات اليد، وربما وقع بعضهم في محذور آخر وهو التكسُّب من الدعوة إلى الله وجعلِها باباً لتحصيل الدنيا، والمؤمن مأمور بأن يحصِّل رزقه من كدّه الحلال وأن يوازن بين تحصيل معاشه وقوت عياله وبين الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وهو مأمور بألا يسأل الناس أو يتكفَّفهم، ففي صحيح البخاري من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لأن يأخذ أحدُكم حبلَه على ظهره، فيأتي بحزمةٍ من الحطب فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه).

د- ومن المعوِّقات الشخصية أيضاً الفتور: فإن كثيراً من الدعاة فتّتَ عزمَهم وأوهن اجتهادهم انصرافُ الناس وانفضاضُهم عن كلامهم، وقد غاب عن أذهان هؤلاء أننا لم نُؤمَر أن ننظر في النتائج، وأن الله تعالى لم يجعل النتائج علامةً على القَبول أبداً، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: (عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبيَّ ومعه الرُّهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد) فهل فترت همة هذا النبي الذي لم يستجب له إلا رجل واحد، أم هل ترك الدعوة ذاك الذي لم يستجب له أحد صلوات ربي وسلامه عليهم جميعاً.

فهذه بعض المعوِّقات الشخصية.

المعوِّقات المجتمعية

وهي متمثّلة بالأذى وما يلقاه الداعية في مشوار دعوته إلى الله من مجتمعه الذي هو فيه من سبٍ وشتم وقدح واتهامات، وهذا لم يسلم منه حتى الأنبياء، وكم وصّى ربُّنا تبارك وتعالى نبيه ﷺ بالصبر على الأذى وكم دعاه إلى الالتفات والإعراض عن أذى المشركين، لأن هذا الأذى إنما هو ضريبة قبول الله تبارك وتعالى لدعوة الداعي إليه، قال تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تكُ في ضَيق مما يمكرون} (النحل: 127)

ومن الحلول الناجعة لتلافي أذى الناس بعد الصبر والاستعانة بالله:

  1. أن يكون خطاب الداعي للناس خطاب رحمة ورفق ولين
  2. أن يخرج عن الصورة النمطية للدعاة، في هيئته وأسلوب كلامه، 

فينخرط بينهم -دون أن يقع في مُحرَّم- حتى لا يُشعِرهم أنه غريب عنهم، فيصير هو بذلك أقرب للقلوب ويكون كلامه أقرب للاستجابة.

  • نشر ثقافة الدعوة بين الناس عموماً وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حِكراً على العلماء، فإذا انتشرت ثقافة الدعوة بين الناس زالت الغربة عن الدعاة.

المعوِّقات الدولية 

وهي ما قد يصيب الدعاة إلى الله تعالى في عصرنا هذا من أذى عام، وخصوصاً في الدول الغربية الأوروبية وغيرها، من سجن أو منعٍ للسفر أو الإقامات الجبرية وحجز الأموال ومصادرة للممتلكات، وبعض الدعاة لازال منذ سنين طويلة في أقبية السجون الأمنيَّة أو السياسية وتهمته الوحيدة هي الدعوة إلى الله تعالى.

ومثل هذا الأذى لا سبيل إلى إيقافه أو منعه، إذ أنه عين الجهاد في سبيل الله والذي لن تبرحَ سُوقُه ولن تقف رحاهُ حتى يقاتلَ آخرُ هذه الأمة مع عيسى ابن مريم عليه السلام المسيحَ الدجّال،

ولكن الداعي إلى الله مأمور أن يكون ذكيَّاً فطناً، يتعلّم من سيرة النبي ﷺ كيف يسايس الأمور، وكيف يصرف عن نفسه اجتماع أعداء كثر في وقت واحد، يُسِرُّ تارة ويعلن أخرى، يدفع المفاسد ما استطاع ويجلب ما استطاع من مصالح، وهو في كل ذلك متوكلٌ على الله يطلب العون منه.

ويناسب هذا المعنى ما ذكره ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم:

(فليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشرَّ الشرين)

فاللهم التوفيق والقَبول.

معاذ شهوان

معاذ شهوان.. مدرّس علوم شرعية، كاتب ومدقّق لغوي، مهتم بشؤون الأمة الإسلامية وهمومها، نشاط متواضع… المزيد »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى