المرأة الراشدة في المجتمع النبوي.. مهام عظيمة وجهود وفيرة
كانت المرأة في النموذج المثالي؛ عصر النبي والراشدين، قاعدة المجتمع ورافعة الأمة وسند رجال الأمة في الحياة الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ سواء أكانت أمًّا تربي الجيل الجديد، أو زوجًا يهيئ سكنًا ومودة لزوجه؛ يعينه على القيام بأدواره في المجتمع، أو بنتًا تعين والديها على القيام بأدوارهما المجتمعية، أو مؤمنة تقوم بواجباتها على الوجه الذي يُعين مجتمعها الصغير من الأهل والأقارب والجيرة، ومجتمعها الكبير من المسلمين على القيام بالمهام المطلوبة لبناء الأمة ودولتها الراشدة.
فكانت تحضر مجالس العلم؛ متعلمة ومعلمة، وكانت تحضر مجالس المشورة في المسجد الجامع؛ وتدلي برأيها موافقة ومعارضة من منطلق ثقافتها القرآنية. وكانت تُجير وتُنفذ إجارتها كما تنفذ إجارة الرجال، بل وكانت تساهم في الحرب حينًا، وكان لها مجلسها الخاص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عاتقها بالمشاركة مع الرجال الذين صدقوا من المؤمنين الأوائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بُنيت دولة الرشد التي حققت إسلام الوجه لله سبحانه على التمام والكمال.
كانت أدوار النساء في دولة الرشد أساسية في النشأة والبناء والنمو. فقد أرست النساء المسلمات؛ وفي مقدمتهن أمهات المؤمنين، قواعد هذه الأدوار كما فهمْنَها من النص القرآني وبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم العملي، وهو النموذج المطلوب استلهامه اليوم؛ مع اعتبار متغيرات الزمان والمكان والسياقات المختلفة.
أشهر نماذج المرأة الراشدة
نقف أمام نماذج رئيسية في العصر النبوي والراشدي توضح بجلاء مركزية أدوار المرأة في بناء دولة الرشد من خلال بناء المنزلين الأصغر والأكبر (البيت والمجتمع)، باختصار غير مخل:
تعد أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها المجسد الرئيسي لأدوار المرأة الراشدة في نموذج دولة الرشد؛ فقد كانت نموذجًا لنوعية المرأة التي سيطلبها القرآن في ما بعد لتُشيّد أسس الأمة ودولة الرشد مع الرجال، فقد صارت خديجة رضي الله عنها خلال العقد الذي عاشته للدعوة وبالدعوة نموذجًا لعشرات النساء اللائي خُضن معها رحلة الإيمان في العهد المكي، وهن عدد لا يستهان به من النساء متنوعات الخلفيات الاجتماعية والثقافية والقدرات الشخصية؛ وكلهن دون استثناء مررن على خديجة رضي الله عنها أو سمعن بجهادها؛ وسمعن منها وعرفنها وتأثرن بها، وجاهدن وقمن بأدوارهن لمدة عقدين كاملين ونيف هما الأهم والأخطر والأصعب في حياة دعوة الإسلام في ضوء الاقتداء بها: زوجًا وأمًا -أي للمؤمنين- ووزيرَ صدقٍ، وامرأةً مؤمنة في مجتمع راشد.
فمنذ لحظة احتضانها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته بأولى آيات الوحي حيث طمأنته وآمنت به وآزرته حتى أسلمت الروح لبارئها في العام العاشر من البعثة، ظلت في حوارات لا تنتهي وجهاد متصل معه ومناقشات حول سبل الدعوة الفردية ثم الجماعية، والتخطيط لذلك كله ثم تقييم الموقف بعد كل يوم يعود فيه بعد صراع مع قومه لعرض دعوته، وقضت منهن ثلاث سنوات من أصعب السنوات في شِعب أبي طالب، نَفِدَ فيها ما تبقى من مالها ووهنت صحتها وما وهن عزمها في الدعوة إلى سبيل الله والقائم بها وفي سبيل الأمة الناشئة.
في هذه العشرية المباركة من تاريخ الإنسانية كانت أمنا خديجة في تصرفاتها وحياتها مع الرسول نموذجاً وقدوة للمرأة المسلمة في أدوارها المختلفة، وهذا النموذج العملي الذي قدمته والمتسق مع نصوص القرآن المنزَلة خلال تلك الفترة هو النموذج الذي نستخلص منه أدوار المرأة في الدولة الراشدة:
أولى مهام المرأة الراشدة: رعاية المصلحين
قامت المرأة الراشدة بدورها كزوجة، لكنها لم تكن مجرد زوجة عادية، بل كانت مؤمنة مخلصة، وكانت وزير صدق حصيف الرأي راجح العقل حسن التدبير، وكانت الوفاء والسكن والمودة لزوجها في تحمل مسئولياته الجديدة والقول الثقيل الذي حمل به ليبلغه للعالمين، فواسته بنفسها ومالها وجاهها في أصعب لحظات البلاغ القرآني، وأظهرت نجاحاً باهراً في تربيتها بناتها وأهل بيتها، وعشرات النسوة اللاتي أسلمن في مكة، بل واحتضان المستضعفين من المسلمين في رحاب بيتها.1
تروي أمنا عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً خديجة، فقالت عائشة بعفوية الفتاة الصغيرة وغيرة المرأة: ((وَما تَذْكُرُ مِن عَجُوزٍ مِن عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ في الدَّهْرِ فأبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا منها)) [صحيح البخاري: 3821]، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً لسذاجة رؤية عائشة لدور ومكانة خديجة من ناحية، ولغفلتها عن دورها المحوري في حياة الأمة وحياة النساء عموماً والنساء المسلمات خصوصاً وحياة عائشة على وجه أخص؛ فلولاها لما عرفت عائشة الإيمان ولما صارت زوجة لرسول الله وخاتم النبيين ولما تعلمت العلم الذي تعلمته وعلمته ولما نالت مرضاة الله، ومن ثم صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأها وصوب لها رؤيتها لتعرف مكانة وأدوار خديجة، وأنها النموذج للنساء المسلمات من بعدها؛ وعائشة من ضمنهن، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أبْدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها؛ قدْ آمَنَت بي إذْ كَفَرَ بي النَّاسُ، وصَدَّقتْني إذْ كَذَّبني النَّاسُ، وَواستْني بمالِها إذْ حَرَمَني النَّاسُ، ورَزَقني اللهُ عزَّ وجلَّ وَلَدَها إذْ حَرَمَني أولادَ النِّساءِ)) [مسند أحمد: 25504] .
كذا بنات النبي، وكن كلهن على مستويات مختلفة من القدرات والقابليات، ولعبن أدواراً لو تتبعناها وجدناها تناسب تنوع النساء المسلمات فيما يتعلق بأدوارهن في المجتمع، فقد قمن بها جميعًا خير قيام مع أبيهن وأمّهن وأزواجهن وأبنائهن، ولعبن أدوارهن في المجتمع بدرجات متفاوتة بين مستويات النموذج القوي والمتوسط والعادي، فقد كانت فاطمة في الذُّؤابة من ذلك: قمة وذروة نشاط المرأة المسلمة في بناء الأمة المسلمة منذ نعومة أظفارها في مكة وهي تواسي أبيها وتنهر مكذبيه، حتى هاجرت معه لتتزوج عليًّا رابع الراشدين فتكون نعم الزوجة، ولتُعطيَ للأمة الحسنين سيدا شباب أهل الجنة والشهيدين اللذين أقاما الحجة على المسلمين؛ الأول بشهادته والثاني بإصلاحه بين فئتين عظيمتين من المسلمين ولم شمل الأمة في لحظة فارقة من تاريخها. وكانت أول معارضة حقيقية في دولة الراشدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقادت حملة لا مثيل لها في زمانها تدعو للبيعة لعليّ رضي الله عنه.2
وكانت زينب زوجة العاص بن الربيع، وهي التي ظلّت بمكة في رعاية زوجها محتفظة بإيمانها في مجتمع يُعادي أبيها ويترصد له ليقتله، فكانت نعم الزوجة صبرًا على زوجها حتى أسلم، ولما أسره المسلمون بعثت تفتديه لتحافظ عليه ضنًا به أن يموت كافرًا وحبًا له لعله يفيء إلى أمر ربه، وهو ما كان فآمن وانضوى في سلك الأمة. ثم نجد رقية وأم كلثوم زوجتا الحبيب عثمان رضي الله عنه، وهما وإن لم تتركا ولدًا لكنهما قامتا بدوريهما في بيته خير قيام حتى توفاهن الله.3
رفع راية الحق والعلم في كل الظروف
وهذه أسماء بنت أبي بكر، ودورها في الهجرة معروف، ثم نجدها في المدينة تربي أبناءها وترعى بيتها وزوجها، ثم حياتها في المدينة حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربية أبنائها الذين برزوا فيما بعد في حياة الأمة، ونتابعها هي وزوجهـــا الزبير بن العوام رضي الله عنه، في معركة اليرموك، تحارب على فرسها وبســـيفها تصــــول وتجول، إلى جانب خطبتها في الرجال تحثهم على القتال. ثم ننتقل لآخر مشاهد حياتها قبل وفاتها بقليل وقد قاربت على المائة سنة من عمرها المبارك فتقف موقفًا عظيمًا في معارضة الحجاج أعتى رجال دولة بني أمية وأشدهم قسوة بعد قتله لابنها عبد الله رضي الله عنه وصلبه ومقولتها الشهيرة له، ومن قبله ما قالته لابنها عبد الله وهو يدخل عليها طالبًا رأيها وقد انفض عنه الأنصار وحوصر فردّته إلى صوابه حتى مات على الحق.4
وهذه أم المؤمنين عائشة، تعطينا النموذج في فهم أدوار المرأة وتغيراتها مع تغيرات الزمان والمكان والسياق السياسي والاجتماعي، فبعد أن كانت مرجع الفقه وحافظة العلم النبوي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وطيلة عهديّ أبيها وعمر بن الخطاب نجدها تضطلع بدور جديد يوضح فهم المرأة المسلمة في القمة وهي أم المؤمنين لأصعب أدوار المرأة في المجتمع المسلم المعارضة لخليفة المسلمين وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فتخرج عليه معارضة، فقد قادت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جيشًا، لـتعـــبر عــن رأيها السيـــاسي في اغتيال الخليفة عـــثمان بــــن عفـــان رضي الله عنه، ولو تتبعنا تربيتها لقريباتها ونصائحها للمرأة المسلمة وفقهها في المال وغيرها من أمور الأمة لوجدنا المعاني التي نقصد.5
شهود الغزوات والدعوة إلى الله
ومن نساء الأنصار نذكر: أم عمارة نسيبة بنت كعب. أسلمت وحضرت ليلة العقبة وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدت أحدًا مع زوجها وابنَيها خرجت معهم تسقي الجرحى، بل وقاتلت يومئذ وأبلت بلاءً حسنًا وقُطعت يدها وجُرحت اثنا عشر جرحاً، قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ((لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان))6، كما شهدت الحديبية وخيبرَ وعمرة القضية7 وحنيناً ويوم اليمامة، وقُطعت يدها باليمامة، وجُرحت سوى يدها أحد عشر جرحًا فقدمت المدينة وبها الجراحة، فلقد رُئِيَ أبو بكر يأتيها يسأل بها وهو يومئذ خليفة.8
وهذه أم سليم أم أنس بن مالك، تزوجها أبو طلحة زيد بن سهل فولدت له عبد الله وأبا عمير. أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووهبت له أنسًا يخدمه، وشهدت يوم حنين وهي حامل، وشهدت قبل ذلك أحدًا تسقي العطشى وتداوي الجرحى. كانت من عقلاء النساء وراويات الحديث، ولها فضائل كثيرة، فلا يوجد باب من أبواب الخير إلا ولها فيه نصيب.9
وهذه أم شريك العامرية كانت تدخل على نساء قريش سرًا تدعوهن وترغّبهنّ إلى الإسلام حتى ظهر أمرها لرجال مكة فأخذوها وأوثقوها وساموها صنوفًا من العذاب فعُذبت بحبس الطعام والشراب عنها، وقد رَوَت الحديث، وكانت من الصحابيات الفقيهات وأسلم جماعة على يديها، وكانت صاحبة ثراء وبرّ وإحسان.10
تُبين النماذج السابقة كيف قامت المرأة المسلمة بمختلف الأدوار التي يمكن أن تقوم بها في المجتمع في ظروفه العادية والاستثنائية، في السلم والحرب، وفي أوقات استقرار النظام السياسي وأوقات اضطرابه، وكل ذلك وهن يدركن غايتهن، وهي: الإسهام في بناء أمة الإسلام ودولته، وتحقيق معايير الرشد الواجبة فيهما.
الهوامش
- هناك الكثير من المصادر فيما يتعلق بحياة أمنا خديجة، انظر:
الزهري، الحافظ بن محمد بن سعد. تهذيب طبقات النساء، تعليق هاني مهنى طه، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1، 2014م.
ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى. دار الفكر، لبنان، الطبعة الأولى، 1994م، المجلد السادس، ص10-13.
عمر، عبد المنعم محمد. خديجة أم المؤمنين: نظرات في إشراق فجر الإسلام. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط3، 1994م. ↩︎ - الشناوي، عبد العزيز. نساء الصحابة. القاهرة، دون ناشر أو تاريخ، ص149-162.
فضل الله، محمد حسين. في رحاب أهل البيت، دار الملاك، بيروت، لبنان، ط2، 1998م، ص187-247. ↩︎ - راجع في سيرة حياة بنات النبي: ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، المجلد السادس، ص14-29.
الشناوي، عبد العزيز. نساء الصحابة، ص135-162.
عمر، عبد المنعم محمد. خديجة أم المؤمنين، ص443-460. ↩︎ - الشناوي، عبد العزيز. نساء الصحابة، ص241-248.
ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، المجلد السادس، ص279-282. ↩︎ - راجع في سيرة أمنا عائشة: ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، المجلد السادس، ص 41-59.
الأفغاني، سعيد. عائشة والسياسة. لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط2، 1957م.
الشناوي، عبد العزيز. نساء الصحابة، ص24-54. ↩︎ - أورده الذهبي في السير عن ضمرة بن سعيد عن جدته وكانت قد شهدت أحداً. ↩︎
- سُميت عمرة القضاء وعمرة القضية، وهي التي كانت بعد الحديبية، وعلل الحافظ ابن حجر تسميتها بذلك بقوله في فتح الباري: “سُميت عمرة القضاء لأنه قاضى فيها قريشاً، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صُدَّ عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامةً. ولهذا عَدُّوا عُمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أربعاً”. اهـ ↩︎
- المرجع نفسه، ص402-414. ↩︎
- المرجع نفسه، ص421-433.
ابن سعد، محمد. الطبقات الكبرى، المجلد السادس، ص 286-294. ↩︎ - منيسي، سامية. أمهات المؤمنين والقرشيات. دار المريخ، الرياض، ط1، 1988م، ص202-203.
إبراهيم، عبد الحميد محمد. المرأة في الإسلام. الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1963م، ص116. ↩︎