إجهاض الثورات وكبح انتشارها

قتلنا 35 ألف مقاتل في سوريا وكسرنا ثورات المنطقة.  سيرغي شويغو

تزامنًا مع تهجير آخر دفعة من سكان حلب من مدينتهم المدمرة نقلت لنا وسائل الإعلام تصريحات وزير الدفاع الروسي:”قتلنا السوريين وكسرنا ثورات المنطقة”، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا تريد روسيا كسر ثورات المنطقة، إذا كانت حكومات المنطقة كلها تخضع للهيمنة الأمريكية وليس الروسية، وأن الثورات إذا نجحت فإن أمريكا وإسرائيل ستكونان أكبر المتضررين؟! هذا يجلي لنا طبيعة العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة.

كان متوقعا أن يمتد الربيع العربي ليشمل المنطقة بكاملها -بل كان متوقعا أن يتحول إلى ربيع إسلامي-، بل أبعد من ذلك كان الغرب يتوقع حصول هذه الثورات قبل انطلاقتها بأكثر من عقد من الزمن!  قال كلمنت مور هنري يصف الأنظمة الجاثمة على صدورنا واحتمالية قيام ثورات ضدها:”هي أنظمة متحجرة، قمعية، فاسدة، معزولة تماما عن احتياجات وتطلعات مجتمعاتها، أنظمة كهذه يمكن أن تحافظ على نفسها لفترات طويلة، ومع ذلك احتمال تغييرها وسقوطها كبيرا في العالم الحديث”. وأسباب أخرى للثورة تتعلق بالنمو الديموغرافي في العالم الإسلامي أطنب في ذكرها صموئيل هانتنجتون في كتابه صدام الحضارات.

فبدأت الصهيوصليبية العالمية مكرها الكبير وجمع شياطين الإنس كيدهم وصفهم لإفشال هذه الثورات؛ ركبوا بعضها فاحتووها وذللوها، وأجهضوا بعضها الآخر عن طريق الثورة المضادة، فأعادوا الوضع إلى أسوء مما كان عليه قبل الثورة في تلك البلدان، حتى جاءت ثورة الشام؛ التي وجدوا فيها الفرصة المناسبة لكبح انتشار الثورات!

     ولماذا ثورة الشام وليس غيرها؟: فلأن المعركة فيها لن تكون معركة بين حكومة وشعب؛ بل ستحمل بعدا عقديا، سيكون مؤثرا جدًا في ضراوة الحرب واستمرارها، وكذلك علاقات النصيرية ستؤدي إلى دخول لاعبين إقليميين ودوليين كثر في ساحة المعركة؛ مما يوسع من الحرب ويطيل أمدها. ولأن الشام لها مكانة قدسية في قلوب المسلمين؛ فهي محط آمالهم ومركز خلافتهم القادمة؛ وسيبذلون الكثير لنصرتها؛ فكسرها يعني إدخال اليأس في قلوبهم جميعا.

 أما استراتيجياتهم التي اتبعوها في التعامل مع ثورة الشام فيمكن تلخيصها في ثلاثة محاور رئيسية:

أولها: اختراق فصائل وإنشاء أخرى تتبع لأمريكا بشكل مباشر، تنفذ أجندات أمريكا بشكل مفضوح؛ حتى بتنا نسمع علنا وبدون تورية عن فصائل البنتاغون!. وكذلك الدعم الغربي غير المحدود لفصائل الانفصاليين الأكراد؛ لتنفيذ مشروع برنارد لويس “إعادة تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية”.

ثانيها: إدخال “الأقرباء الثقافيين” الحرب بغية توسيعها وإطالة أمدها، ولاحتواء بعض الجماعات التي استعصت على الاختراق المباشر عن طريق هؤلاء “الأقرباء الثقافيين”. سمحوا ﻹيران ومليشياتها دعم النصيرية من جهة، وبالمقابل سمحوا لتركيا، السعودية، قطر، الأردن ودول أخرى تقديم الدعم المحدود لجماعات من الثوار لإبقاء الحرب تحت السيطرة؛ قال صموئيل هانتنجتون:”بينما يوسع التجمع -الأقرباء درجة ثانية وثالثة حول أقربائهم ثقافيا- من الحرب ويطيل أمدها، إلا أنه كذلك شرط ضروري وإن كان غير كاف لتحديد الحرب وإيقافها. المتجمعون من الدرجة الثانية والثالثة عادة لا يريدون أن يتحولوا إلى مقاتلين من المستوى الأول، ومن هنا يحاولون إبقاء الحرب تحت السيطرة”. أصاب هانتنجتون جدا في رؤيته؛ فقد أصبح تحكم هذه الدول بأغلب الجماعات والفصائل أمرا معلنا؛ فهي تتحكم بعمليات الفصائل وهدنها ومفاوضاتها ومع من تتحالف ومع من تقاتل، بل حتى بوجهة فوهة سلاحها!

كان لهذين المحورين دور كبير في زرع الفرقة والعداوة بين الجماعات المقاتلة، وكذلك كان لهما أثر سلبي بالغ في نفوس القاعدة الشعبية للمجاهدين وعموم المسلمين؛ حتى أصبحت قناعة الحاضنة أن كل المجاهدين عملاء وعصابات مأجورة، وغدا الواقع أشبه مايكون بما يعرف ب”الفوضى الخلاقة” و “مشروع الشرق الأوسط الجديد”. فهذا حذيفة عزام يعترف بتغريدات له في 19/10/2016 أن الأوضاع في الشام قد آلت إلى لعبة تتحكم بها الدول الكبرى، وأن الفصائل -التي يدعمها وينظر لها هو شخصيا- قد أصبحت بيادق يحركها اللاعبون الكبار كيفما أرادوا.

غرد:”سوريا قد تحولت إلى ميدان للصراعات الدولية وأن اللاعبين الكبار باتوا يتحكمون بخيوط اللعبة وأن كثيرا منا على الأرض علم أم لم يعلم بات طرفًا في هذا الصراع وربما يخدم طرفًا من أطرافه وربما بات أحد أركان الفوضى الخلاقة وأبطال الحرب بالوكالة دون أن يحس أو يشعر”.

أما المحور الثالث في مكرهم: فهو المحافظة على توازنات عسكرية وإطالة أمد الحرب؛ لاستنزاف المسلمين لأقصى درجة. صرح للجزيرة قبل أيام جورج صبرا -رئيس المجلس الوطني السوري سابقا- بما دار بينهم وسفير أميركا؛ قال: “طلبنا من السفير الأمريكي صواريخ مضادة للطائرات ﻹجبار الأسد على الحل السياسي؛ فرد: إن فعلنا سيسقط بشار في 15 يوم”!

لكنهم لا يريدون سقوطه؛ إنما يريدون قتل أكبر عدد ممكن من أطفال وشباب المسلمين -أفضت في شرح هذا في مقالتي (هل هي حرب عالمية أم عملية إحلال ديموغرافي)- وكذلك يريدون إعطاء النصيرية الوقت الكافي لتدمير مدننا؛ لأنه ومن وجهة نظرهم، هذا ما سيوقف الحرب والثورات، ويجعل من الوضع في سوريا “درسا لمن يعتبر”؛ قال هانتنجتون:”عندما تصل الخسائر إلى عشرات أو مئات الألوف ويصل عدد اللاجئين إلى مئات الألوف وتتحول مدن مثل ((بيروت)) و((غروزني)) و ((فوكوفار)) إلى أنقاض، يبدأ الناس في الصراخ ((…جنون…جنون…كفى…كفى!!)).

وهذا ما يفسر لنا سبب بث قنوات إعلام روسية لمقاطع الفيديو -التي التقطتها طائرات الدرون الروسية- والتي توثق حجم الدمار الذي حل بمدينتي حمص وحلب!؛ قالت عنه نيويورك تايمز:”الدمار الذي لحق بحلب في 2016 يشبه ما حل من دمار بمدينة غروزني في 2000 وبرلين 1945″.

فهم بتصريحاتهم “قتلنا” ونشرهم الفيديوهات التي تصور الدمار الذي نزل بمدننا يريدون إرهابنا ونشر الرعب والاستسلام بيننا وتمكين الشعور باليأس والقنوط من نفوسنا ونفوس المسلمين عامة؛ وهذا هو ما قصده الوزير الروسي بكلامه بعد تدمير حلب “كسرنا ثورات المنطقة”.

حسين الخلف

درست الطب، لكن وجدت أن معالجة قضايا الأمة أولى من معالجة أعراض مرضية! كاتب مهتم… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى