
درس في صناعة الإنسان
يقِفُ المُتابِعُ لأحداثِ غزّة عاجزًا عن فهمِ الطبيعةِ البشريةِ للمواطنِ الغزِّي، فرغمَ فوارق موازينِ القوّة ما زالَ يُقدِّمُ مثالًا حيًا على الصمودِ والمقاومةِ في وجهِ هذهِ القوةِ التدميريةِ الغاشمةِ. وما يُثيرُ الدهشةَ حقًا هو قدرةُ هذا الإنسانِ على أن يتحمّل هذا الحجمِ من الألمِ والفقدانِ والدمارِ من حولِهِ، بل على أن يقف شامخًا متأهبًا لمصيرَهُ ودوره في سلسلةٍ من الموتِ العشوائيِّ واللانهائيِّ.
أضحت الطبيعة البشرية للمجتمع الغزي من أبرز الظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية في التاريخ الإسلامي بل والعالمي المعاصر، حيث كشفت للمختصين عن بنية اجتماعية وثقافية وسياسية عميقة متجذرة، تعود جذورها الأولى إلى التنشئة والفلسفة التربوية اللتين شكلتا وعي هذا المجتمع، وإلى الظروف التي رافقت طبيعة نشأته وحياته.
فقد عمدت إلى تحويل منظومة القيم الإسلامية إلى ممارسة يومية تتجاوز حدود الشعارات التنظيرية، وأخرجت التربية من طورها النظري الجامد إلى بناء عملي للمعنى، وصناعة مواطن يحمل الفكرة ويعيش لأجلها. فتجلَّى أن ما يجري في القطاع ليس وليد الصدفة أو مجرد صمود لحظي أمام تهديد وجودي، بل نتيجة مشروع تربوي ثقافي طويل الأمد قد تمت صياغته تحت عقود من ضغط الحصار والحرمان، فانفجر وتحول إلى نموذج مُلهِم لجيل مسلم يبحث عن القدوة في زمن انعدام القدوة وارتباك القيم.
الأسرة ودورها في التنشئة الإسلامية

إن النشأة الأولى للفرد هي حجر الأساس في بناء إنسان ذي رسالة، ويتكون حقلها من حدود البيت والأسرة. ويتميز قطاع غزة بأن التنشئة الإسلامية داخل الأسرة فيه تبدأ من سنوات مبكرة، فبيوت غزة عادة تكون بيوتًا ممتدة يعيش فيها الجد والعَم والخال ضمن شبكة اجتماعية واسعة مترابطة، تتعامل مع الأحداث القاسية غالبًا بصياغة دينية تجعل الطفل يعي أن المصاعب لم تُقدَّر عبثًا، بل هي جزء من سنة كونية وابتلاء يتطلب الصبر والثبات، وأن الحياة ليست مجرد رغد. فيُلَقَّن الطفل في هذه البيئة مفاهيم مثل الصبر والرضا والإيثار مبكرًا.
ويشاهد الطفل بيئة تحتضن المساندة وتقوم على التكافل دون تنظير، خاصة في لحظات الشدة كالعدوان، ومن خلال المواقف اليومية مثل مساندة الجيران والتضامن المالي وإغاثة المتضررين.
وكل هذا يمنح الطفل قدرة مبكرة على تفسير الألم تفسيرًا معنويًا، ويمنح الشباب شعورًا بالانتماء والدعم، ويمنع الانهيار الفردي وبالتالي الأسري، وهو ما ينعكس لاحقًا على شكل توازن نفسي فريد في الأزمات، ويلعب دورًا كبيرًا في ثبات المدينة وسكانها خلال الحروب.
المسجد… العودة للوظيفة الحقيقية

ثمَّ يأتي دور المسجد الذي يبني الإنسان قبل المُصلي، ليمثِّل حجر الزاوية في الحاضنة الاجتماعية للقطاع. فدوره يتجاوز الوظيفة الدينية المباشرة إلى فضاء أعمق، حيث يتحول إلى مركز للتعليم والتحفيظ، وحاضنة للتنشئة، ومنصة لتشكيل الوعي.
ففيه لا يتعلم الأطفال والناشئة النصوص الدينية فحسب، بل يكتسبون معنى الثبات والتضحية، وفن مواجهة الظلم، وإدراك أن النصر قد يكون معنويًا قبل أن يكون عسكريًا، متجسدًا في تمسك الإنسان بقيمه حتى لو كلَّفه ذلك حياته. كما يتلقى الشباب خطابًا دينيًّا يُعيد تفسير الواقع السياسي ضمن إطار عقائدي يصهر الإيمان بالواجب الأخلاقي، ويعلي قيم الحرية والعدالة والكرامة. وبهذا يكون المسجد قد أسس لبناء مواطن واعٍ يعرف لماذا يعيش ولماذا يقاوم ولأجل ماذا يجب أن يظل ثابتًا ويبقى صامدًا مقاوِمًا إلى آخر رمق.
ولهذا انتشرت في القطاع -إلى جانب المساجد– المدارس الشرعية ومراكز التعليم القرآني، فقد كانت المصنع الذي تتشكل من خلاله منتجات الهوية والوعي، وتتوفر من خلاله للأطفال والشباب مجتمعات منسجمة يتعلم فيها الطالب الالتزام بالوقت واحترام الآخرين والتعاون والمشاركة. واللافت في هذا النهج أنه يجمع بين القيم الروحية والواجبات العملية، ويدربهم على العمل الجماعي منذ سن مبكرة، فيتخرج الطلاب من هذه المؤسسات وهم يربطون بين العبادة والخلق والتدين والمجتمع، وبين الإيمان والواجب.
ويُلاحظ من حديث النخب الغزِّية أن الدين في القطاع ليس مجرد هوية روحانية، بل جزءًا وظيفيًّا من الصحة النفسية والمجتمعية، حيث يستجيب الأفراد بفعالية لمفاهيم مألوفة كالاستعانة بالله وإعادة تأطير المصائب وتعزيز التكافل. وهكذا تصير هذه المراكز جزءًا متأصلًا من بنية المجتمع، ورأس مال اجتماعي يخفف من آثار الصدمات ويقوي دعائم الصمود والمقاومة.
الأعمال التطوعية… ميدان التطبيق العملي
ثم تأتي التربية الوطنية مثالًا على تداخل القيم الإسلامية مع الوعي الوطني في إنتاج صمود فريد، فتكمل الجانب العملي للتربية المنزلية والدينية، ويترجم سكان القطاع خلالها قيمهم الإسلامية والمجتمعية إلى ممارسات عملية في مواجهة الحصار والحرب.

ويعمل هذا الوعي أيضاً على تشجع الانخراط بالأعمال التطوعية، فيتحول الشباب إلى جزء من شبكة ميدانية حيوية، يتوزعون بين ميادين الإسعاف والإغاثة، وفرق إصلاح الطرق، ومساعدة كبار السن، ومراكز الإيواء، والواجب الإعلامي. وبهذا يتعلم المواطن الغزي أن المسؤولية ليست وظيفة الدولة فقط بل هي واجب المجتمع.وتصبح هذه المشاركة الاجتماعية عاملًا يرفع من مستوى الصحة النفسية للأفراد وتمنحهم شعورًا بالجدوى والفاعلية.
أثر التنشئة في فهم الحياة
إن المفتاح الأعمق لفهم الطبيعة البشرية للغزيّ هو فهم الفلسفة الحياتية الخاصة به، والتي تكونت لديه نتيجة تراكم التربية الدينية والخبرة الميدانية، فهو لا يتعامل مع الحياة تعاملًا استهلاكيًا بل تعاملًا رساليًا يشعر فيه أن وجوده جزء من مشروع يتجاوز حدوده الذاتية. والدين بالنسبة له ليس عقيدة نظرية بل بوصلة تؤطر شعوره بالألم والأمل، وتحول حياته اليومية إلى رحلة ذات غاية.
وهذا هو الذي يجعل الشاب الغزيّ قادرًا على مواجهة الموت دون أن يفقد محركه الروحي والعملي؛ لأن فلسفة حياته قائمة على أن الدنيا دار ابتلاء، وأن الصبر قيمة عملية، وأن خدمة الناس والتكافل فريضة اجتماعية ودينية، وأن الظلم لا يواجه بالخضوع.
إن هذه المبادئ ليست مجرد قيم شخصية بل رؤية جماعية تتكرر في المدرسة والمسجد والبيت والمخيم يومًا تلو يوم، مما يخفف مجددًا من آثار الصدمات ويعزز القدرة على تحملها.
ليسْ غريبًا أن يتحولَ شبابُ غزةَ إلى قدواتٍ للشبابِ المسلمِ المعاصرِ، فالنموذجُ الذي يقدمونَهُ يجمعُ بينَ القيمةِ والمعنى والفعلِ. وفي وقتٍ يشعرُ فيهِ جلُّ الشبابِ العربيِّ بالفراغِ القيميِّ والتيه في رحلة البحث عن نماذجَ أخلاقيةٍ صلبةٍ، يتوسط شبابُ غزةَ المشهد بنمطِ شخصيةٍ مختلفٍ:
- واثقٍ من هويتِهِ
- مرتبطٍ بقيمِهِ
- منتمٍ لمجتمعِهِ
- مستعدٍ لتحمُّلِ المسؤوليةِ
- ثابتٍ رغمَ الظروفِ المستحيلة
- وممتلئٍ بالمعنى.
جيل الرسالة… قدوة للأجيال القادمة
يرى خبراءُ الاجتماع -كما تشيرُ بعضُ الدراسات- أنَّ هذا الجيلَ يمثلُ “جيلَ الرسالةِ”، الذي تربى على أنَّ الكرامةَ ليست خيارًا، وأنَّ الحياةَ بلا معنى ليست حياةً. إنَّ النشأةَ والإعداد التربويَّ وفلسفة الحياة التي تشكلت عبر عقودٍ في غزة ليست نتاج صدفةٍ تاريخيةٍ، بل ثمرة مشروعٍ تربويٍّ واجتماعيٍّ ودينيٍّ طويلٍ، يقومُ على بناءِ الإنسانِ قبلَ بناءِ الحجرِ. لقد أنتج هذا المشروع جيلًا قادرًا على الصمود، وعلى تحويل المحنة إلى معنى، والألمِ إلى فعلٍ، والمعاناةِ إلى سبيلٍ للارتقاءِ الأخلاقيِّ. لهذا السببِ، أصبحَ شبابُ غزة اليوم قدواتٍ لجيلٍ كاملٍ من الشباب المسلم، لا لأنَّهُمْ أبطالٌ في لحظاتِ الحربِ فقط بل لأنَّهُمْ يمثلون نموذجًا إنسانيًّا وجد في الدينِ والهويةِ والتكافلِ رسالةَ حياةٍ خالدة.
إنَّ التجربةَ الغزيةَ -بكلِّ ألمِها وعظمتِها- ليستْ درسًا في السياسةِ فحسبْ، بل درسٌ في صناعةِ الإنسانِ؛ ذاكَ الذي يعرفُ لماذا يعيشُ، وكيفَ يثبتُ، وكيفَ يبقى وفيًا لقيمِهِ حتى في أشدِّ اللحظاتِ ظلامًا.



