شباب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم
إن الدين كريم الصحبة، يُعزُ ويُعلي شأن من لجأ إليه واعتصم به، ويستر عيوب من أناب إلى حوزته ونزل برحابه، هذا في الدنيا، أما الآخرة، فهي خير وأبقى (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ) [الضحى: 4]، هذا حال المؤمن في أي زمان عاش، فكيف يكون الحال لو أَدرك زمان البداية الجديدة مع سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يكون الوضع لو كُنتَ شابا وعِشْتَ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى أي حال سيعاملك؟ وأنت نبعة الوجود، وبك الأمل للأمة يعود، فأنتم معاشر الشباب بكم نكون أو لا نكون، أنتم مصابيح الدجى، ومعالم الطريق، وعلى أكتافكم تنهض الأمم، وترتقي للقمم.
فتعالوا جميعا نرحل إلى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم لنعيش لحظات مشرقة جميلة: مِلْؤها الرأفة والرحمة والابتسامة، وعنوانها: حي على الفلاح والنجاح والاستقامة، وطريقها: أنتم العيون والحصون. وأنتم الأمل وبكم ينهض المستقبل.
مقام العلم والتعلم
حللتم الديار، ديار المدينة المنورة، فأول مقابلة لكم مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فتح العيون والقلوب والعقول على القراءة والتعليم؛ لأن العلم عمارة القلب، وإذا عُمّر القلب لم يتعلق بغير المجد والمعالي، كما أن أخذ العلم تجلية للأبصار وتغيير للاهتمام من التفاهة والسفاهة إلى الرفعة والسمو، وهذا التعليم النبوي لنا معشر الشباب لن تكون فيه قسوة ولا شدة بل رفق ومحبة وعطف وحنان، مع تقصير زمان التعلم خوفا من شوقنا على أهلنا:
ومن أجل معاينة هذا الحال؛ أمامنا حديث أبي سليمان مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: ((أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبَبَة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فظن أنا قد اشتقنا أهلنا، فسألَنَا عمن تركنا من أهلنا، فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم ومروهم، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم) [صحيح البخاري: 631].
إن مقابلة التعلم والتوجيه والرفق لن تفارق أي أحد من الشباب الذي لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسألوا إن شئتم عبد الله بن عباس رضي الله عنه يحدثكم: ((قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: (يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف)) [سنن الترمذي: 2516]، وبمثل كلام ابن عباس يحدثك شاب آخر، معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ قال: ((كنت رديف النبي على حمار، فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)) [صحيح البخاري: 2826].
مقام المحبة والعاطفة
هذا في مقام التعليم، أما مقام المحبة والعاطفة والتعابير الجياشة التي تفيض من القلوب التي لا تعرف إلا الود والحنان، فلن تجدها كاملة إلا عنده صلى الله عليه وسلم، فلك أن تتخيل بخاطرك كيف يكون وادع الرسول لك لو أنك أدركت زمانه وأنت في زهرة الشباب: لسمعت منه صلى الله عليه وسلم إني أحبك: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك)) [سنن أبي داود: 1522]، فقط غير اسم معاذ وضع اسمك مكانه وسوف تسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعلك وأنت تقرأ هذه الكلمات قد رحلت بعقلك وجلت بفكرك في ذاك الزمن الذي لا نسخة منه يمكن أن تكرر في الدنيا، تقول لي: هب أن عشت في زمانه وأحبني وأحببته، وقربني منه مجلسا وأدناني، وأركبني خلفه وأعلى شاني، هل يمكن أن يُسند إليّ بعض المهام الكبار أم يهملني كما يهملني أهل زماني؟ فأقول رويدك يافتى فإن حبيبك المصطفى لم يترك مجالا إلا وجعلك مقدما فيه، ووضع شابا بمثل طموحك فيه.
المترجم الدولي
إن هذه المهمة على حساسيتها لم يسندها الرسول صلى الله عليه وسلم لغير الشباب، فاقرأ معي: في مسند الإمام أحمد: ((أن رسول الله لما قدم المدينة ذُهِبَ بزيد [زيد بن أبي ثابت] إلى رسول الله وقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك رسول الله وقال: «يا زيد تعلّم لي كتاب يهود، فإني والله ما أمن يهود على كتاب» ، قال زيد: فتعلمت له كتابهم، ما مرّت خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب)) [مسند أحمد: 21618].
قيادة الجيش
هذه المهمة وبدون نزاع بين كافة العقلاء إنما تسند للكبار وذوي الخبرة والتجربة، لكنك إذا جئت إلى رسولك الكريم فسوف يقدمك على الكبار، لتعرف قيمتك عنده، وإذا كنت تعلم أن العديد من الناس لا يريدون أن تتقدم عليهم فهذا ما وقع لسيد الشباب أسامة بن زيد رضي الله عنه، فلما كان شابًا لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، أكثر بعض الناس القول في تأميره وتوليته أمر قيادة الجيش، واعترضوا على أن يقود الرجال الكبار شاب لم يبلغ مبلغهم، ولما بلغ صلى الله عليه وسلم ذلك، خرج على الناس، وقال: ((إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله، إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده)) [صحيح البخاري: 3730].
الإمارة والولاية
إسناد مهمة الولاية والإمارة لا تُقبل حتى من الكبار، فكيف يكون الحال لو أُعطيت للصغار، ولكنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده من يعرف حقيقة عمل الشباب، ففي جل كتب السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولّى عَتّاب بن أَسيد، وعمره ثماني عشرة، أو إحدى وعشرون سنة أمر مكة، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس، وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة.1
ولك أن تعجب من توليه مع قرب إسلامه رضي الله عنه قال ابن سعد: «وأسلم عَتّاب بن أَسيد يوم فتح مكة، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى حنين يوم السبت لست ليال خلون من شوال سنة ثمان، واستعمل على مكة عَتّاب بن أَسيد يصلي بهم، وخَلّف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس السنن والتفقه في الدين، وقال لعَتّاب: أتدري على ما استعملتك؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: استعملتك على أهل الله. فأقام عَتّاب للناس الحج تلك السنة، وهي سنة ثمان، بغير تأمير من رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على الحج، ولكنه كان أمير مكة، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم»2.
الدعوة والتبليغ
رسالة الإسلام، يجب أن تصل إلى الناس في كل مكان، وهذا عمل يحتاج إلى جهد وقوة، ولن يقوم بهذا إلا الشباب؛ فكل صعب أمامهم يهون، ولهذا كانت سفارة الإسلام لم تسند إلا للشباب، ففي سيرة ابن هشام عند الحديث عن بيعة العقبة الأولى: «وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة مصعب».3
أضف إلى هذا إسناد القضاء إلى معاذ بن جبل، وكتابة القرآن إلى زيد بن ثابت، والخدمة إلى أنس بن مالك رضي الله عنهم جميعا، كل هذا يضع بين يديك كيف كان الحبيب المصطفى يعامل شباب الأمة، والذي ذُكر أمامك غيض من فيض.
تحصين الشباب
وإذا نحن جميعا وصلنا إلى هذا الحد، فإذا بواحد من شبابنا الكرام يقول: مهلا يا شباب الإسلام، أنا فقير لا أملك مالا وليس لدي أسرة، فهل إذا أدركت زمان الرسول صلى الله عليه وسلم زوجني، واختار لي من تكون أميرة بيتي؟
فالجواب: نعم، وابحث في كتب السنة والسيرة يخبروك عن جُلَيبيب الذي زوجه الحبيب صلى الله عليه وسلم وكان دميم الخلقة، أعزباً رضي الله عنه فخطب له النبي صلى الله عليه وسلم ابنة رجل من الأنصار فقال الرجل: حتى أشاور أمها، فلما ذكر الرجل الأمر لزوجته، أنفت من ذلك لدمامته وفقره، وبينما هَمَّ الرجل بالقيام لإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم برفض زوجته، قالت البنت: أتردون على رسول الله أمره؟! فما كان منهما إلا أن تراجعا عن قرارهما، ووافقا على الزواج.4
وهكذا لن تضيعوا أيها الشباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنكم عشتم في أيامه وزمانه، ولكانت المحبة والصدق والصفاء واللطف والرقة طريقة تعامله معكم، ولن تسمعوا منه إلا ما يرضيكم ويفرح قلوبكم، وإن أنتم أخطأتم تجاوز عنكم، ودعا لكم، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((إن فتى شابًّا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: ادنه، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فَرْجَه، فلم يكن بعد -ذلك الفتى- يلتفت إلى شيء)).
الخاتمة
هذه جملة مختصرة من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في معاملة الشباب، والتي من خلالها يُدرك الجميع، قيمة حسن التعامل، مع الأولاد، وفلذات الأكباد، فهم أولى الناس بالكلمة الطيبة، وهم أولى الناس بالمحبة والعناية، والتعليم، والتقديم في التكاليف والمهام.
ولنحذر غاية الحذر ومنتهاه أن نهمل شبابنا، فنضيع أنفسنا قبل أن نضيعهم، ونهدم حضارتنا، ونضعف شأن ديننا، فكيف لشاب أن يحافظ على تدينه، وقيم مجتمعه، ويسعى لخدمة أمته، وهو لا يرى منها اهتماما ولا رعاية أو عناية، بل تجاوزا وإهمالا؟!
لأجل هذا يضيع شبابنا غرقا في البحار، أو يصبحون بناة في حضارت وأمم أخرى؛ لأنهم وجدوا عندها ما فقدوه بين أهليهم وفي بلدانهم من الاهتمام والتقديم والعدل؛ فكل أمة تريد النهضة والتقدم لا مناص لها من رعاية الشباب.