المنهج النبوي في تشجيع المبادرات الفردية
في زمن كثرت فيه دعاوى الإحباط والتثبيط، وانتشر التقاعس والتخاذل حتى صار سمة بارزة تسري في روح المجتمع الذي نحيا فيه، الأمر الذي ساهم بنسبة لا بأس بها في ترهل البنية الفكرية لدى المسلم المعاصر، مما أنتج بعد ذلك ضعفًا في المبادرات الواعية، وقلة في الأيادي المشجعة الراعية.
ويحق لناهنا أن نتساءل: أليس من وقفة جادة لتعديل المسار! هل من عودة رشيدة لهدي المصطفى المختار!
كان النبي-صلى الله عليه وسلم–يتعامل مع النفس الإنسانية بالأسس والمعايير القرآنية، فهو يعلم أن ليس أحد أعلم بالنفس من خالقها، قال الله تبارك وتعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
فالنفس هي الجوهر البخاري اللطيف للإنسان، وهي المحرك لحياته، والموجِّه لسلوكياته. إن النفس مباحثها كثيرة،وتداخلاتها صعبة وليست يسيرة، لها نزعات ونزوات، وحالات وتحولات، عندها إقبال وإدبار، واعتراف وإنكار، فيها الائتلاف والاختلاف، نريد منها أن تنقلنا من التنوع إلى الثراء، وأن تحلق بنا من الصفاء إلى النقاء، وأن تطوف بنا من الهمة إلى الارتقاء. ولذا فالنبي الكريم أفضل من فهم أسرار النفس البشرية، وعرف الطرق المثلى للتعامل معها. ويتجلى ذلك من خلال مواقفه النضرة في سيرته الزكية العطرة، ألم تسمع قوله-صلى الله عليه وسلم–يقرع سمعك:
الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا
نعم، فالناس أصناف، ولكل منهم سمات وأوصاف، والإسلام يدعوهم إلى التفقه وحسن الإنصاف.
مفاتيح البَشَر
البَشَر أشبه بقلاع حصينة لهم أبواب ونوافذ متينة، فاعرف مع من تتحدث؟ وكيف تتحدث؟ البشر أرواح وأجساد، فانتبه لهذه التركيبة حينما تتواصل معهم، فلكل منهما مطالب، لكن القيمة الأساسية هي علوية الروح وسفلية البدن. قلوب البشر لها مفاتيح، فإذا فهمنا تطبيقاتها وأدركناها، تيسر لنا الولوج إلى فضاءات النفس الإنسانية الفسيحة.
هيا معًا نبحر على زورق النور، في أمتع رحلة مع بدر البدور-صلى الله عليه وسلم–لنتعلم سويًا فن التشجيع للفئات الشبانية في مبادراتها الفردية، والارتقاء بها إلى حقول الإبداع التخصصية.
ألم يأتكم نبأ زيد بن ثابت الأنصاري؟
هل أتاكم حديث ترجمان الرسول وكاتب الوحي ؟
لقد قدم إلى رسول الله في غزوة بدر، رغبة في المشاركة الحربية، وهو–حينئذ-غلام صغير لم يتم الثالثة عشرة من عمره، لكنه كان يتوهج ذكاءً وفطنة، ويشع جرأة وشجاعة، فأعجب به النبي–صلى الله عليه وسلم–أيما إعجاب، حتى ربت على كتفه برفق، ورده بعد أن طيَّب خاطره بصدق.
فيا لها من مبادرة فردية تنم عن تعقل و روية! و يا لها من انطلاقة تعكس تألق نفس وإشراقه! لله ما أشجع هذا الفتى اليافع وما أقوى ما يملك من الدوافع! درس لمن يتعلل بأنه لم تسنح له فرصة حتى يكون عظيمًا، إنها حجة داحضة، ولأدل على ذلك من فتى يافع ينطلق من ذاته، ويشارك بإسهاماته، وينمي قدراته!
حزنت الأم الرؤوم النوار بنت مالك، لأن فلذة الكبد لم يكن يلتحق بجيش الرسول، فإذا بابنها الرشيد يعرض عليها الرأي السديد في مشروع جديد، به يتقرب إلى محمد–صلى الله عليه وسلم–فاستمعت إليه، وأثنت عليه، وقد أدركت ما يدور بخلد طفلها الصغير، ودعت قومه للأمر الجليل الخطير، حيث ذكرت لهم بنات فكره المنير، فمضوا به–سراعًا-إلى البشير النذير، وقالوا بصوت واحـــــــد:
يا نبي الله هذا ابننا زيد يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو حاذق يجيد الكتابة والقراءة، وهو يريد أن يتقرب بذلك منك، وأن يلزمك.
سمع الرسول الكريم من الغلام زيد بن ثابت، إذ أعطاه فرصة لإبراز مواهبه، واستثمار مناقبه، وبعد الامتحان استوثق–صلى الله عليه وسلم-من زيد فوجده حاذقًا متقنًا؛ مما جعله يدعوه إلى تعلم اللغات الأجنبية خدمة للأمة الإسلامية فقال–صلى الله عليه وسلم-:
يا زيد، تعلم لغة اليهود فإني لا آمنهم على ما أقول.
ترى ماذا يفعل زيد الآن؟
استجاب زيد لنداءات النبي التشجيعية، حيث أكبَّ على العبرية والسريانية فأتقنها في زمن يسير، حتى صار كاتبًا لكلام العليم الخبير، وترجمانًا للبشير النذير.
فالحمد لله ذي الجلال، حفظ نبوغ الرجال، ورعاه فوسع له الخيال، وفتح عنه الأقفال!
وها هو النبي–صلى الله عليه وسلم–يستخدمه في المجال الذي يتقنه و يرغب أن يكمل فيه حياته. وزيد يحب القرآن الكريم ويرغب أن يتخصص فيه، فشجعه النبي–صلى الله عليه وسلم–حتى صار زيد بن ثابت-رضي الله عنه–المرجع الأول في القرآن الكريم وعلومه، فكان–رضي الله عنه-رأس من جمعوا القرآن في عهد الصديق، وطليعة من وحدوا المصحف في عهد عثمان، وقد خطب عمر بن الخطاب–رضي الله عنه-يوم الجابية فقال:
من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأت إلي، فإن الله جعلني عليه واليا، وله قاسمًا.
وهذا إقرار من الفاروق بكفاءة زيد وتضلعه في تخصصه، فيا أمة الإسلام عود على بدء فلنتخصص فيما نتقن حتى نبدع!
هكذا ركز النبي–صلى الله عليه وسلم-في رعايته لهذا الطفل الصغير على تشجيعه وجبر خاطره حينما رده عن غزوة بدر، ثم نبهه–بأبي هو وأمي-بمهاراته وطاقاته، وساعده على استثمارها، بما يحقق له الإنجازات، ويشبع عنده الطموحات، ويسهم ختاما في بناء المجتمعات. فصلى الله على محمد ما نجم بدا، وطائر شدا، وقمري غردا.
في استقراءنا لقصة زيد بن ثابت
وجدنا أنها منهج حياة هدفه تشجيع المبادرات، وتثمين الإيجابيات، فلنكن كما كان سيد البريات. إن لهذا الفتى تفردًا و مزية، إذ كان يحسن القراءة والكتابة في مجتمع غلبت عليه الأمية، ففاق بذلك أقرانه، وسما شوطًا على إخوانه، فأرشده النبي–صلى الله عليه وسلم-إلى مراعاة القدرة والرغبة والفرصة في معادلة الإنجاز، وحضه على أهمية التخصص الدقيق، ودعاه إلى الغوص في بحر العلم العميق، فكان التوجيه النبوي رائعًا من كل الجوانب، رائعًا لمراعاته للقدرة الفردية والرغبة الشخصية والفرصة العملية، وهو رائع لأنه واقعي الطرح، فتعلم العبرية من احتياجات المجتمع المدني الفتي آنذاك، فحثه على مجالات ترجمة النصوص و كتابة الوحي المنصوص.
أخيرًا وليس آخرًا، أيها الشباب: انتبهوا لمهاراتكم، فكروا في استثمار طاقاتكم، هنالك تنعموا بحياتكم، وتتطور بكم مجتمعاتك
ما شاء الله مقالاتكم روعه