أثر الكلمة وتأثير الفراشة
نظرية الفوضى هي واحدة من النظريات الرياضية الفيزيائية؛ والمبدأ الأساسي وراء هذه النظرية هو أن الحوادث الصغيرة تؤثر بشكلٍ كبير على نتائج الأحداث التي لا علاقة لها فيما يبدو! لها تفسير عملي مبسط يُطلق عليه بتأثير الفراشة؛ وتأثير الفراشة ينص على أن رفرفة فراشة لجناحيها في مشرق الكرة الأرضية قد يؤول إلى إعصار في مغربها! فهي عبارة عن فكرة ملخصها: أن الأشياء الصغيرة يمكن أن تكون ذات تأثيرات كبيرة.
الإصلاح.. تأثيرُ فراشةٍ
الإصلاح سنّة إلهية وأثره واضح على طول خط تاريخ أمتنا، في كل زمان كان هناك مصلحون يقفون في وجه الفساد ويحذرون منه، فهو صراع دائم، وإن حال الأمة مرتبط ارتباطا وثيقا بنتيجة التدافع بين طرفيّ هذا الصراع (المصلحون والمفسدون)، قال الله سبحانه: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} [البقرة: 251]، وقال أيضا: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} [الحج: 40]؛ فيترفع شأنها بين الأمم بارتفاع شأن المصلحين، وتغدو ذليلة ضعيفة عندما يعلو الفساد وينتصر، وعليه فالإخلاص لدى المصلحين ركن أساسي في نجاح مهمتهم، أو يمكننا القول شرط أساسي لتأهيل مدعّي الإصلاح إلى الوصول لهذه المرتبة العظيمة؛ لأن الأمة عانت عناءً شديدًا من أولئك الذين يدّعون الإصلاح ولكن للأسف كانت كلماتهم معوّل هدم يهدمون به أمتنا وينشرون الفوضى.
نعود لنظرية الفوضى، فبالرغم من أن المجال الأساسي لها يتعلق بحركة المناخ وعلم الطقس إلا أننا نرى تطبيقات مشابهة في الساحة الإسلامية وخاصةً مع التطور الرقمي الكبير والعولمة الرقمية التي حولت العالم إلى قرية صغيرة؛ إذ من الممكن أن تكون تأثير رسالة من مدّعي الإصلاح أكبر من الإعصار الذي خلّفته رفرفة تلك الفراشة!
فراشتنا هي الكلمة!
ببساطة يمكن لرسالة أو كلمة أن تُحدث سلوكًا لاحقًا لا يمكن التنبؤ به وقد لا يرضي صاحب الرسالة نفسها عنه؛ لأنه قد يكون صادقًا طيبًا ولكنه أساء التعبير، أو لم يتوقع أن رسالته تلك ستؤدي فيما بعد إلى ذلك الأمر السيء من تخذيل عن الجهاد، أو سفك للدماء، أو إضعاف لشوكة المسلمين، وغيرها الكثير من المآلات، فقد تبدو بعينه حركة بلا قيمة ،أو تعبير عن غضب، وانزعاج، أو تنفيث عما في صدره.
هذا غير تَرصّد أعداء الإسلام لكل ما يخرج من فم المصلحين؛ بغية التشغيب عليهم، واجتزاء مقاطع من كلماتهم لتحميلها ما لا تحمله، ولإسقاطهم في عيون المتابعين الباحثين عن قدوات يسيرون عبر هديهم، ويتبعون طريقهم.
فالكلمة في عصرنا خصوصا ضريبتها كبيرة، فقد تبني وتهدم ، أما أولئك الذين يستخدمونها قصدا فيما لا يُرضي الله يا ليتهم يعلمون عظيم جرمهم ويخرسوا أقلامهم، فيرحموا أنفسهم.
الكلمة مسؤولية
إن الكلمة مسؤولية عظيمة وقيمتها في ديننا كبيرة، ويكفينا ما جاء بالحديث، قالﷺ: ((ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذ، وَهل يكب النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم)) [سنن الترمذي: 2616].
وقيمة الكلمة تبرز لنا في الجانب المشرق أيضًا وأثر الفراشة هناك لا يقل عن تأثيرها في الجانب المظلم، فقد قال زبيد اليامي رحمه الله: «سمعت كلمة، فنفعني الله بها ثلاثين سنة».
إن سير الصالحين والعلماء تضج بالقصص عن كلمات كانت السبب في تغيير حياتهم وانقلابهم إلى الحال التي وصلوا لها بالنهاية. هكذا ينبغي أن تكون كلمات المصلحين والعاملين في سبيل الله ولكن كيف؟!
الإجابة سهلة بالرغم من تعقيدها! إن الكلام إذا خرج من القلب سيقع في القلوب وإذا خرج من اللسان لن يتخطى الآذان، وإن الكلمة سلاح الأذكياء وخير الكلام ما دخل الأذن بغير إذن.
يا ناصح تنبه!
قال الشاعر:
أوصيكَ في نظمِ الكلام بخمسةٍ إن كنت للموصي الشفيق مطيعا
لا تغفلنَّ سبب الكلامِ ووقته والكيفَ والكمَّ والمكان جميعا
وهذا من بديع النظم؛ فقد لخص الناظم 5 أشياء هي ما على الناصح التنبه له عند نصيحته.
أخي المصلح إن النصح أصل الخير، فكما قال الفاروق رضي الله عنه: «لا خير في قوم ليسوا بناصحين، ولا خير في قوم لا يحبون النصح».
لذلك يجب عليك المضي في هذا الطريق ولكن على أصوله، فالنصح ينبغي أن يكون لله ولله فقط وهذه أول وأهم التنبيهات، قال سفيان بن عيينة: «عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقى الله بعمل أفضل منه»، وسُئل ابن المبارك: «أيّ الأعمال أفضل؟ قال: النصح لله». وقال الفضيل بن عياض: «ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور والنصح للأمة».
اعلم أخي المصلح أن الانتفاع بنصيحتك مقرون بصدقها، وإذا صاحبها غيّر سلامة النية وصفاء القصد، فإن أثرها سيكون سلبياً، فكما قال محمد بن تمام: «الكلام جند من جنود الله ومثله مثل الطين تضرب به الحائط فإن استمسك نفع وإن وقع أثّر».
هل تكفي النية الصحيحة؟
لا بد أن تراعي أيها المصلح أمورا عديدة بعد ذلك، وأولها أن تنصح بعلم وعلى بصيرة، وأن تكون صبورا حليما على من تنصح، وأن تتحين الوقت المناسب فليست كل الأوقات سواء كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن للقلوب شهوة وإقبالا وفترة وإدبارا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها».
أخي المصلح إذا أخذت بعين الاعتبار الكلام السابق مع التدرج بالنصح ومراعاة المصالح والمفاسد، والانتقاء من الكلام أطيبه وأحسنه، وابتعدت في نصيحتك عن التوبيخ والتعيير والاستعلاء والتشهير، تكون قد وفّقت إن شاء الله، وإياك ثم إياك أن تنصح مهملاً ما سبق حتى لا تقع في قول الشاعر:
ومن ينكر منكرًا بأنكرا
كغاسل الحيض ببولٍ أغبرا
قال ابن القيم: «شرع الله لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ،فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله ،فإنه لا يسوغ إنكاره ،وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله».
كلماتك أيها المصلح صدقة، فاستكثر من صدقاتك وإن الله طيب لا يقبل إلا طيّبًا، جاء في الأثر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: «ما تصدّق رجل بصدقة أحبُ من موعظة يعظ بها قوماً، فيتفرقون وقد نفع الله بها بعضهم»، ثم يكرر هذا المعنى الزمخشري ليؤكده إذ يقول: «ربَّ صدقةٍ من بين فكًّيك خير من صدقةٍ من بطن كفّيك»، ويروي هشام بن عروة عن أبيه: «بنيّ لتكن كلمتك طيبة تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء».
لذلك يجب على المصلح أن يزن كلامه وزنًا، قال شداد بن أوس رضي الله عنه: «ما تكلمت بكلمةٍ منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها».
وأَزَم على الشيءِ: عضَّ بالفم كله عضًّا شديدًا، يقصد أنه يتنبه لكل ما يقول.
ختامًا
إن من واجبات المصلح أن يعتني عناية فائقة بوعيه وأن يكون في حالة إدراك مستمر لنفسه ولما يدور حوله حتى تثمر جهوده وتكون بوصلته منضبطة، فلا ينبغي له أن يتشتت ويتخبط في التيه، فيتصرف أو يتكلم تحت وطأة المشاكل التي تواجهه، فينبغي أن تكون نظرته شمولية دائمًا وأن يفهم السياق التاريخي للمشاكل التي تواجهه والتي أفسدت واقعه والتي يسعى لإصلاحها ويحدّ من انتشارها، وأن يتعرف على تجارب المصلحين الذين سبقوه، ولا بد أن يشعر بصدق مآسي المسلمين من حوله حتى يضحي بالمهم من أجل الأهم، وبالفروع من أجل الأصول، وليس العكس؛ لأنه حينها سيكون معول هدم وعائق أمام بقية المصلحين ،فلا هو أصلح ولا ترك المصلحين يواجهون آلة الفساد التي تدفع المجتمع نحو الهاوية.
لذلك فإن القدرة على تشخيص المصالح والمفاسد من الركائز التي تقوم عليها عقلية المصلح ولا بد أن يعلم كل من شرّفه الله بهذا الحمل الثقيل وهذه المسؤولية الكبيرة أنه لا يخلو مجتمع من المشاكل التي ستعرقل المسار الإصلاحي وتعيق حركة أهل الصلاح مهما كان هذا المجتمع على درجة كبيرة من الوعي، فلا بد أن تكون كلماتهم على قدر واقعهم، وأن يأخذوا دورهم بفعالية مطلقة متمثلين في ذلك قول الله تعالى: {إِن أُرِيدُ إِلا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ ومَا تَوفِيقِي إلّا باللّه} [هود: 88]، فعليهم ألا ييأسوا وألا يصيبهم الملل، ولا بد أن يبث كلماته وينشر عبق حروفه؛ حتى يوجه مجتمعه نحو السبل التي تصنع التغيير الإيجابي، فلا بد أن تكون كلماته منبّه للعقول ومبدد للأوهام، فهذه الخطوات الأساسية ليتمكن المصلح من تصميم نظام فلترة لكلماته، فلا تنطق شفتاه إلا بما يبني ويصلح إن شاء الله.