بين نموذج المرأة في المجتمع النبوي والنموذج المعاصر.. لمَ نجح الأول وفشل الثاني؟
تدلنا خبرة المقارنة بين النموذج المثالي في المجتمع النبوي والراشدي، والنموذج المعاصر أن فهم أدوار المرأة في بناء دولة الرشد، ودور دولة الرشد في بناء المرأة الراشدة1، لا يمكن أن يتم بمعزل عن التنظيم الاجتماعي السائد. فهناك علاقة بين قيام دولة الرشد وبناء امرأة الرشد طرداً وعكساً، فكما تؤثر المرأة في النظام وطبيعته وتوجهاته، فالنظام يؤثر فيها ويطبعها بطابعه، في علاقة تبادلية لا فكاك منها. وهناك أسباب يعتقد الكاتب أنها أدت إلى نجاح النموذج المثالي وإخفاق النموذج المعاصر، من أهمها:
المرأة والدولة المعاصرة.. صراع الحقوق والواجبات
بناء قواعد العلاقة بين المرأة والدولة في النموذج المثالي على مصفوفة قيم ومبادئ قام عليها المجتمع المسلم أقرّت حقوقًا وفرضت واجبات، وحددت نمط حياة يمثل الصراط المستقيم الواجب اتباعه من كافة أبناء المجتمع على السواء من النبي إلى كل فرد من المسلمين. فأُسس بناء الدولة في رؤيتها للمرأة على إقرار حقوقها: إنسانًا، ووليدًا وناشئًا، ومتعلمًا وعاملًا ومالكًا، وعضوًا في الأسرة وفي المجتمع، وصولًا إلى النهوض بحقوقها السياسية كإنسان له كل حقوق الإنسان وكرامته بالنسبة إلى نفسها وبالنسبة إلى غيرها في نطاق الأسرة وفي رحاب المجتمع.2
وتمت معايرة وظائف الدولة في علاقتها بالمرأة على وفائها بهذه الحقوق، وتبوأت المرأة مكانتها في هذه الدولة بناء على قيامها بواجباتها المقابلة لكل حق من هذه الحقوق، وعلى هذه الأسس الواضحة قامت الدولة بأدوارها في تهيئة المجال والخبرات للنساء للقيام بأدوارهن من جانب، وقامت نساء الجيل الأول من المسلمات من جانب آخر بأدوارهن في بناء المجتمع ودولته الراشدة.
لكننا لا نلمح هذه الرؤية واضحة في النموذج المعاصر طوال قرن مضى، فالدولة لم تتبن قيم ومبادئ الإسلام في نشأتها، ولم تلتزم حقوق المرأة كما بينها، ولم تُلزم المرأة بالتبعية بواجباتها المقابلة لها، لكنها ظلت في سجال مع المرأة صراعًا واستغلالًا، والمرأة في الغالب الأعم من جانب آخر لم تستلهم قيم ومبادئ الإسلام ولا حقوقها والواجبات المقابلة لها والمستمدة منهما؛ لطول العهد بالتراجع عن تلك القيم والمبادئ والحقوق والواجبات من ناحية، ولغفلة الدولة أو تعمدها نتيجة طبيعة نشأتها.
فنشأت الدولة والمرأة في حال اشتباك دائم وتناقض ومساومات مستمرة، وبدلًا من السير في طريق مستقيم للبناء، استهلك عمر الدولة وطاقة المرأة في صراع مؤلم: تطالب المرأة بحقوقها فتُمنح بعضها ويُحجب عنها الآخر، وكل حق تحصل عليه تُعطي أضعافه ولاءً لدولة مستبدة، ولا تقوم بواجب في مقابله، معادلة مختلة نتيجة البناء الهش الذي قامت عليه الدولة في تعاملها مع المرأة، والأسس الواهية التي انطلقت منها المرأة لتطالب بحقوقها دون أن تعرف الطريق نحو القيام بواجباتها.
فالمطالبات بحقوق المرأة سواء من جانب المفكرين وعلماء الدين أو القادة السياسيين أو رائدات النساء انطلقت من رؤية قاصرة في فهم أدوار المرأة في الاجتماع السياسي؛ سواء تلك التي انطلقت من اعتبارها واجباً شرعيًا لا ينفك عنه أحد من الناس،3 أو التي انطلقت من اعتبارها حقًا عصريًا وضرورةً للنهوض بالمرأة والمجتمع ودولته تقليدًا للنموذج الغربي. فأدى تضارب المنطلقات لصعوبة جمع الأمة على قيم واحدة يمكن الانطلاق منها لبناء الدولة، ومن ثم نشأت مؤسسات الدولة المنوط بها التخطيط لتنشئة المرأة الراشدة مختلة معتلة، وعُرضة للتلاعب حسب أهواء السياسة، وكان من الطبيعي نتاجًا لذلك أن تضمحل غالب أدوار المرأة في بناء دولة الرشد، أو تصبح في أحسن الأحوال سنة أو نافلة أو تطوعًا. 4
المرأة والمجتمع المثالي.. تربية صحيحة وهدف واحد
ويبدو ذلك ملحوظًا في النظرة لمؤسسة الأسرة التي نجحت بقوة في النموذج المثالي في إخراج نماذج مشرفة وممثلة للدين الجديد تبوأت المكانة المناسبة في اجتماعه السياسي، حيث ممارسة المرأة لمسؤولياتها في الأمة لم تقطعها عن رعاية أسرتها وربطها بالأمة والدولة؛ بل زادتها ارتباطًا،5 نظرًا للتطابق بين رؤية الدولة والمرأة لحقوقها وواجباتها ومن ثم أدوارها في سياقها الإسلامي الأول، فاتجه الجهد كله للبناء ولم تُستنفد طاقات المجتمع في صراع صفري، في حين نجد على الجانب الآخر العصري أن ذات الأسرة لم تعد هي في نظر الدولة الناشئة ولا المرأة هي النموذج المصغر للأمة وخصائصها، والذي تنعكس فيه القيم الأساسية التي تحكم النظام الإسلامي،6 ولكن صارت هذه الأسر غريبة عن تلك القيم بفعل عوامل قصور النشأة والتعرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي اعترت الدولة وامتدت بالتبعية إلى الأسرة. وهو ما نراه في اخفاقات مؤسسات الدولة في بناء الأسر الصالحة وتسهيل عملية بنائها وتنشئة أبنائها وإعداد المرأة للحياة الأسرية والمجتمعية.
ففي حين نجحت نماذج دولة الرشد: بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومؤسسات التربية مثل دار الأرقم، ثم المسجد في عملية التنشئة الشاملة للمرأة، نجد الاخفاق هو الحليف الغالب لمؤسسات نموذجنا المعاصر في الدولة والحركة الإسلامية، فقد ضمرت المؤسسات القديمة أو حُيّدت، ولم تستطع المؤسسات الجديدة: المدرسة والجامعة والحزب والجماعة في القيام بأدوارها، وكان نتاجها وما يزال هزيلًا بل مضادًا للفكرة الإسلامية في غالبه.
وفي حين نجد في النموذج المثالي التفهم الكبير من قيادة الدولة لأدوار النساء المختلفة ومراعاة القابليات والقدرات الخاصة بهن، وكذلك تفهم النساء لهذا، وكل ذلك في بيئة حاضنة مواتية: النساء فيها شقائق الرجال في تكافل وتكامل ولاية الإيمان، فتمت عملية التواصل الصحيح بينهن وبين النص القرآني والتطبيق المثالي بشكل فاعل دون أي حساسيات أو ضغوطات أو أداء شكلي لا روح فيه، فبرزت النساء كل حسب قدرتها على العطاء فأنتجن لنا مجتمعًا صحيحًا نواتُه نساء مؤمنات عارفات بدينهن ورسالتهن وواجباتهن.
لكننا في المقابل نجد النموذج المعاصر وقد تعثر في تحقيق ذلك نتيجة المعتقدات المتعارضة بشأن المرأة التي صاحبت ظهوره، بحيث إذا خرجت إحداهن للعمل ضاع البيت، وإذا جلست في البيت ضاع المجتمع، فتضاربت الأدوار وتنافرت وتفاضلت فانهدم بنيان الرشد عندما غاب الرشاد عن رؤية القيادة العليا للدولة والحركة الإسلامية للقدرات والقابليات، وغياب البيئة الحاضنة فتعسرت سبل أداء الأدوار.
موارد كثيرة وأعمال قليلة!
كما نلاحظ أن قلة الموارد المالية المطلوبة لبناء نساء النموذج المثال لم تمنع التعلم والتنشئة الصحيحة في مؤسسات المجتمع الوليد ودولته نتيجة حسن استغلال موارد ومؤسسات المجتمع، بينما نجد في النموذج الثاني توافر موارد مالية مهولة وإمكانات كبيرة للتنشئة الصحيحة، لكننا نجد خللًا كبيرًا في التنشئة، فغالب هذه الحكومات تنفق مئات الملايين بل مليارات الجنيهات على خطط لدعم المرأة شكلية لم تُنتج سوى ما نراه من أحوال متردية للمرأة، كما نلاحظ التقتير المعيب في الإنفاق من جانب الحركات الإسلامية على تهيئة النساء للقيام بأدوارهن.7
وكذلك نلاحظ الاستمرارية والمرونة والتكيف في القيام بالأدوار التي هي سمات رئيسية في نساء النموذج المثالي، حيث تستمر الأدوار وتتطور بتطور الأحداث سواء في طبيعيتها أو استثنائيتها؛ مثل أمنا عائشة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، في حين يُفتقد ذلك غالباً في النموذج المعاصر، حيث نجد انقطاعات مستمرة في الأدوار وتراجع وانكماش في الأوقات العادية وأوقات الاستثناء. ففي حين اكتسبت النساء المسلمات في بداية الدعوة طبائع الدعوة والداعي من أول لحظة، نتيجة لهداية القرآن وصدق الداعي صلى الله عليه وسلم، بالإضافة لقدراتهن الشخصية وخلفياتهن الاجتماعية، فوجدنا نساء علية القوم وفي مقدمتهن خديجة رضي الله عنها الثرية التاجرة ذات المكانة العليا في قومها ومجتمعها تتكيف في التعامل مع متغيرات البيئة فهمًا وعطاءً وتضحيةً مثلها مثل سمية رضي الله عنها ومثيلاتها من الإماء الضعيفات.
ولم تركن سمية رضي الله عنها وأخواتها؛ كما تفعل غالبية النساء اليوم، لضعفها وتتنازل عن دينها وعن ما عرفته من الحق ولم تغرها مغريات ولم يرهبها تعذيب وهكذا خديجة رضي الله عنها ومثيلاتها لم تمنعهن حياتهن المنعمة فتركنها وراءهن مستقبِلات حياة الجهاد.
في حين نجد في النموذج المعاصر أن النساء؛ وبأيديهن مرجحات نشأة واستقرار واستمرار ونمو أي نظام سياسي، يحققن بسوء تنشئتهن ومن ثم اختياراتهن دولة الغي لا دولة الرشد، ونجد رضا الدولة بالحال البئيس للمرأة معنويًا وماديًا سبيلًا لتكريس سلطانها الاستبدادي مع ادعائها تلبية مطالب المرأة وحقوقها في شكلها الديكوري في الدساتير والقوانين والسياسات العامة.
أسمع جعجعةً ولا أرى طِحنًا
ففي النموذج المثالي نجد النساء يوجهن دفة السياسة ويشاركن في اختيار الحكام وينصرن حزباً على آخر، فكانت مشاركتهن بناءً وتقويمًا لدولة الرشد وزيادة قوتها ومنعتها، ولكن عندما نطالع نموذجنا المعاصر فعلى الرغم من ازدياد مساحة أدوارهن قوة وتحصينًا في الدساتير والقوانين في اختيار الحكام والنواب،8 إلا إن تلك المشاركة زادت الدولة وهنًا على وهن، وساقتها في سبيل الغي بالاختيارات الكارثية، فلو شاهدنا حصيلة الانتخاب لملايين النساء في المدن والقرى والنجوع والأحياء الشعبية منذ حصلت المرأة على حق التصويت، واللاتي حددت أصواتهن الدساتير والنظم السياسية وتوجهاتها، وأوصلن الرؤساء إلى الحكم والنواب وأعضاء المجالس المحلية للبرلمان وللمجالس الشعبية، سنجدها -أي حصيلة تصويت النساء- سببًا رئيسيًا من أسباب غياب دولة الرشد؛ فمن انتخبتهم من الرجال والنساء كانوا في غالبهم الأعم نخبًا فاسدة أو فارغة تناسب الديكور الديمقراطي، ولم يُغير هذا الانتخاب مصير هؤلاء النسوة سوى للأسوأ، وبدلًا من أن تكون تلك الأصوات سبيلًا لبناء أدوارهن وبناء دولتهن الرشيدة، صارت تلك الدولة تستغلهن لرهن المجتمع كله لاستبدادها.
ففي حين أن النموذج المثال أخرج لنا نسوة عارفات بعصرهن وقادرات على الحكم السليم على من يقود الأمة ومن لا يقودها، وأدركن غاية اجتماعهم السياسي القرآنية التي بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم عمليًا، ولم تقف الأمية عائقًا أمامهن في ذلك، ولم يغبن عن حضور مسائل اجتماعهم المختلفة بالرأي والعمل، فإننا نجد الملايين من نسوة قرن مضى غالبهن أميات لا يعرفن القراءة والكتابة من ناحية، ومن ناحية ثانية لا علاقة لهن بالسياسة من قريب أو من بعيد إلا أيام الانتخاب، وليس لديهن أي غاية حقيقية إسلامية أو علمانية للحياة، فلا هن علمانيات يطمحن للمركز والنفوذ وتحقيق الذات والحياة الناعمة وتقلد المناصب وتوريثها، ولا هن إسلاميات يقتدين بنساء العصر الأول ويردن أن يقمن بأدوارهن في بناء مجتمع مسلم ودولة راشدة؛ تُؤَمّن لهذا المجتمع حياته المؤمنة وتؤهله لتحقيق شهادته على العالمين، فكل ما يتمنينه ألا يتعرض أمنهن وأهلهن للخطر من جراء عدم الخروج للانتخاب؛ فتغضب عليهم الحكومة فتمنع عنهن معاشًا أو تفرض عليهن غرامة، أو تُغضب الجماعات الإسلامية فتمنع معونة، وهن بين هؤلاء وهؤلاء يطمعن في الجنيهات والمواد الغذائية التي تُمنح لهن بشكل من الجانبين لقاء الانتخاب.
وإذا قَوّمنا عشرات الألوف من النساء اللائي تبوّأن المناصب من المتعلمات المثقفات، فغالبهن علمانيات دهريات لا يعرفن سوى طموحاتهن الشخصية، ومصالحهن العائلية، وارتباطاتهن الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تمتن ما تحقق لهن من مكاسب، والقلة منهن من النسوة الطامحات للنموذج المثال لكنهن ليس لديهن الرؤية ولا الثقافة والحاضِنات الآمنة لتحقيق ذلك من جهة الدولة ومن جهة الجماعات اللاتي ينتمين إليها.
وحتى على مستوى مئات من أسُتاذات الجامعة والداعيات في الحركات الإسلامية اللاتي أسهمن في تعليم وتدريب آلاف البنات والنساء وتدريبهن على مهارات العمل الاجتماعي والسياسي من خلال التعليم المنتظم أو عبر الكتابات أو التنظيمات الإسلامية، فإننا لا نجد لهن ذكرًا ولا أثرًا في المحيط الكبير من ملايين النساء فلا يعرفهن أحد منهن ولا تصل أفكارهن ولا جهودهن إليهن، ولا هن يشتركن مع هؤلاء في تبادل الخبرات والأفكار والعلوم المطلوبة لتأهيل امرأة مسلمة حقيقية لبناء دولة الرشد، ولا نجد دراسات تتبع عشرات الألوف من النساء اللاتي تخرجن على أيديهن وما هو مصيرهن وأدوارهن في المجتمع، فلو توفرت تلك الحركات على التعريف بهؤلاء القائدات للجماهير العريضة من النسوة في القرى والنجوع والأحياء الشعبية ممن يثقون بهم لتغيرت أحوال المرأة تغيرًا تامًا، لكن التعصب للتنظيم والانغلاق على أفكار محددة نتيجة غياب المعيار الأساس المحتكِم للنموذج الأول أضاع أعمارًا وخبرات لا تقدر هباء.9
ونجد أيضًا أنه في حين كانت مشورة النساء وأدوارهن المتعددة في المجتمع المثال قد أنتجت مواقف في غاية القوة والتأثير في سير دولة الرشد وتوجهاتها، نجد أن امرأة اليوم لم تؤثر شيئًا في توجهات ومسيرة تلك الدولة توجيهها في اتجاه الرشد، بل إننا نجد أن زيادة أعداد النساء في البرلمان والحكومة وباقي هيئات الدولة لم يترافق إلا مع زيادة انحراف تلك الدولة عن أي معايير للحكم ناهيك عن الحكم الراشد؛ والنظام السياسي الحالي في مصر خير شاهد. فالدولة وجدت في هذه النوعية من النساء قاعدتها للاستمرار في الانحراف عن معايير الرشد.
نمط العيش.. العامل المغفول عنه!
ويعد نمط الحياة في النموذج المعاصر المضاد لنمط الحياة في النموذج المثال من أهم العوامل التي أهملتها الدولة والحركة الإسلامية وكانت لها نتائجها الكارثية على أدوار المرأة في بناء دولة الرشد، ففي النموذج المثال تبدلت أحوال النساء لتوافق طبيعة النموذج، فبعضهن كن غنيات مترفات مثل زوج النبي خديجة رضي الله عنها وغيرها في حين كانت غالبية نساء العهد الأول فقيرات بل معدمات في كثير من الأحيان، فتحولت الغنيات إلى الحياة البسيطة وتركن المتاع والدعة والراحة حيث ولّى زمن الراحة والنوم، ويدًا بيد مع الفقيرات بدأن زمان القول الثقيل والسبح الطويل طوال ما يقارب ربع قرن فتحققت المرأة المطلوبة لبناء مجتمع الرشد ونجحت في اختبارات صعبة جدًا؛ مثل سنوات شعب أبي طالب وغالب سنوات العهد المدني، حيث المجتمع في استنفار دائم وحالة استثناء مستمرة لتوالي التهديدات الخارجية والداخلية، ولولا هذا الفهم لطبيعة الرسالة والحياة من خلالها لما نجا هذا المجتمع الوليد من المحن التي واجهها وهو ما يُذكّرنا بمجتمع غزة اليوم.
بل إنه لما بدرت بادرة تمرد على هذا النمط، وتطلعت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لزيادة النفقة بعد بدايات الوسع والغنى في أواخر العصر النبوي تم الرد بحسم أن هذا هو البيت النموذج، فلا يمكن أن تزيد فيه المعيشة عن أقل دار في المسلمين، وأن يسلم من كل زخارف الدنيا لأنه سيظل النموذج المثال، وهكذا كانت بيوت الراشدين من بعده، ولم تبدأ التغيرات في أدوار المرأة إلا عندما تبدل نمط الحياة في بيوت الحكام بعد الراشدين، فانقلب نظام المرأة بعد انقلاب نظام الحكم لمّا بدأ الزخرف والمتاع الكبير يدخل بيوت الحكم فتبعهم الناس حتى فقد النموذج زخمه واستمر حتى وصلنا لما نحن عليه.
والنموذج المعاصر اليوم يفتقد كل مقومات النموذج الأول من الحياة البسيطة، فالترف صار في بيوت الفقراء قبل الأغنياء، ففقد المجتمع بوصلته فتجده يَئِن من أقل نقص يطال أساسيات الحياة.
وفي مجتمع كهذا يصعب تبني ثوابت النموذج المثال ومن ثم القيام بأدوار المرأة في بناء دولة الرشد. فالحياة التي تعيشها المرأة المعاصرة المسلمة غير إسلامية بالمرة؛ في أي بيئة كانت، إلا القليل النادر الذي لا حكم له ولا أثر، فالمرأة تنمو في بيئات استهلاكية تمامًا، والحياة تدور حول الطعام والشراب والوظيفة أو المهنة أو الحرفة التي تحقق ثراءً سريعًا يلبي التطلعات والمغريات والإنفاق السفهي.
وهذا النمط من الحياة؛ في أحسن مخرجاته، لا ينتج سوى قلة من رجال ونساء صالحين في أنفسهم لكنهم ليسوا مصلحين، في حين أن غالبية نتاجه علمانيُّ التوجه تمامًا مضادٌ للنمط المطلوب لدولة الرشد. ونمط الحياة هذا لن ينتج دولة رشد ولا نساء راشدات أبدًا؛ خاصة مع التطورات السريعة والانجراف الشديد للحياة اللاهية التي يسرع من إيقاعها الغزو الكبير للأموال بالمليارات لتغريب قيم ووعي الأجيال الجديدة وتوجيهها للاستهلاك لمجرد الاستهلاك.
حدد المعايير تحدد النموذج
وكل ما سبق من نواقص اعترت نموذجنا المعاصر تعود فيما تعود أساسًا إلى معايير التقييم التي انطلق منها، ففي حين انطلق النموذج الأول من معاييره الذاتية ولم يستورد معايير تقييم أفراده من خارجه، فنشأت دولة الرشد ونمت وتطورت في توازٍ مع نمو وعي رجالها ونسائها بطبيعتها وطبيعة المجتمع الذي يحملها وتحميه، وبلغت اكتمالها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغت تطبيقاتها الذروة في اقترابها من النموذج المثال في عصر الراشدين، فتشكلت الدولة بشكل المجتمع وتفاعلت المرأة مع الدولة في ظل هذا التشكل وتلك المعايير.
لكن التراجع عن تلك المعايير في النموذج المعاصر جعل الدولة المعاصرة تفقد رشدها وبدأ المجتمع يبتعد عن قيمه ومُثُله، وأصاب المرأة ما أصاب المجتمع، فلم تعد معايير التقييم للحكم أو أدوار أفراد المجتمع منحرفة فقط عن قيم المجتمع الرئيسية، ولكن فُرضت معايير ومؤشرات ومقاييس جديدة قدّمها المستعمر خارجة تمامًا عن معايير المجتمع الأصلية باعتبارها المعايير الصحيحة للحكم على رشد الحكم ورشد المرأة، فكان ما نراه من تناقضات كبيرة تنتجها عملية اتباع هذه المعايير والمؤشرات.
فالركون للمؤشرات المعاصرة والجوانب الشكلية للمشاركة فيما يتعلق بتقييم أدوار المرأة وضعفها أو قوتها كما عرفتها الديموقراطيات الغربية، يكون مخادعًا ويعطي صورة كاذبة عن حقائق الوضع على الأرض: فمقاييس نسب المشاركة، ونسب متابعة القضايا السياسية، ونسب التصويت والمشاركة في الحملات الانتخابية، وغيرها، إلى أن تصل إلى ترشيح المرأة في الانتخابات وتولي المناصب السياسية،10 لا تعطي معايير حقيقية للتقييم، لأنها تتجاهل حقيقة تلك المشاركة في هذه الجوانب ومدى جديتها ومدى وعي المرأة بها من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنها تتغافل عن أدوار المرأة البيتية والمجتمعية غير المرئية لهذه المؤشرات وغير المدرجة على قوائمها، والتي لو تتبعناها لوجدناها هي التي تنتج لنا عناصر فاعلة من النساء من ناحية، وأجيال جديدة من الرجال والنساء نتاج تربية هؤلاء النسوة يقودون العمل لبناء دولة الرشد.
التوصيات
بناء استراتيجية لإعادة بعث المرأة المسلمة
1- نحتاج بناء استراتيجية كبرى تستخدم جميع الوسائل الممكنة لدى الأمة لإعادة بناء أدوار المرأة المسلمة وتأهيلها لتأسيس دولة الرشد في عصرنا. استراتيجية لا محيد عنها مهما واجهت من صعوبات، ومهما واجهت من تغيرات، ومهما تعرضت لمغريات الركون للدنيا أو الإنجازات الصغيرة. ويحتاج ذلك إلى إنشاء مؤسسة بهيكل عالي الأداء على جميع المقاييس، فضلًا عن التكيف برشاقة مع تغير الظروف. مؤسسة مستقلة احترافية، ويقودها نخب محترفة في العمل السياسي والتدريب والدعاية من مختلف التخصصات الاجتماعية والخبرات الدينية، وتوضع لها خطة طويلة المدى.
ومن أجل الوصول لبناء تلك الاستراتيجية الكبرى نحتاج:
أولًا: استعراض شامل لنقاط القوة والضعف، والفرص؛ والتهديدات التي تواجه تنفيذ تلك الاستراتيجية، ودراسة الاستراتيجيات الكبرى المشابهة لحالتنا الراهنة وخصوصًا الخبرات الإسلامية المعاصرة.
ثانيًا: تحدد لها ميزانية وموارد كافية ومستدامة للتنفيذ، وتوضع لها مؤشرات الأداء التي تقيس نجاحها أو فشلها، ومؤشرات الرصد والتقييم الدورية للتأكد من أنها على المسار الصحيح ولإجراء التعديلات اللازمة، ويتوافر لها قنوات الاتصال الواضحة والفعالة لضمان فهم جميع الأطراف المعنية لها.
ثالثاً: جمع الخبرات العالمية المتعلقة بأدوار المرأة في بناء الدول الحديثة وتحليلها لاستخلاص أهم عبرها، وترجمة أمهات الكتب في هذا المجال والاشتراك في الدوريات المتخصصة في ذلك ومتابعة أحدث الأبحاث والكتب والمقالات العلمية والتجارب العملية والأحزاب والجمعيات المهتمة بهذا الجانب.
رابعاً: حصر الخبرات الموجودة بالآلاف من النساء الراغبات في الانخراط في مشروع كهذا لبناء الكوادر المطلوبة لإدارة المؤسسة المقترحة واللائي سيقمن بالتدريب، من أستاذات الجامعات والداعيات المؤهلات بشكل كبير في العلوم السياسية والاجتماعية، وكذلك الرجال المؤهلين لبناء الوعي وابتكار مناهج ونظم علمية تعليمية تمكن هؤلاء النسوة من اكتشاف مواهبهن. واختيار النواة الأولى من النساء المتدربات وترتيبهن حسب قدراتهن وإمكاناتهن وظروفهن الشخصية وبيئاتهن الاجتماعية والاقتصادية والثقافية حسب معايير ومؤشرات يتم تصميمها بدقة من أجل خلق أجيال جديدة من النسوة يسهمن في تعميق الوعي بأدوار المرأة للأجيال التي ستتعلم منهن.
دراسات مطلوب القيام بها
هناك فجوة كبيرة في الدراسات المتعلقة بنماذج المرأة بمختلف مستوياتها القيادية والمتوسطة والعادية في النموذج النبوي والراشدي، فلا يوجد تتبع كامل لحيوات هؤلاء النسوة البَيتية والعملية والمجتمعية والسياسية ونتاجهم من التربية وآثارها على أزواجهن وعلى من تأثرن بهن من طلاب علم أو أهل أو أقارب؛ لذلك نحتاج رسائل ماجستير ودكتوراه تجبر هذا النقص، فيتولى الباحث أو الباحثة مثلًا دراسة شخصية أو عدة شخصيات في مرحلة الماجستير، يتتبع خلالها؛ بعد تزويده بمنهجية البحث المناسبة وأدواتها الملائمة، مصادر دراسة تلك الشخصية في القرآن والسنة والسيرة وكتب التفسير والأدب والفقه واللغة وغيرها من المصادر التراثية جمعًا وتوثيقًا وتَثَبتًا من صحة ودقة الروايات ثم يجمعها في صعيد واحد، ثم تليها مرحلة الدكتوراه حيث يحلل ويناقش أدوار هذه الشخصيات ومستويات نجاحها وصعودها وهبوطها واخفاقاتها ونجاحاتها في ضوء مؤشرات ومقارنات ومعايير للتقييم واضحة، وذلك كله في إطار السياق العلمي الشرعي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي ونمط الحياة في تلك الفترة وآثار ذلك على دولة الرشد تقوية أو إضعافًا.
2- كما تحتاج تجربة القرن الماضي وخبراتها لدراسات مشابهة للدراسات في النموذج المثالي، فهناك حاجة إلى دراسات لوصف وتحليل تجربة الحركة الإسلامية في بناء وعي النساء المسلمات للإسهام في بناء دولة الرشد، لذلك يجب تخصيص بعض شباب الباحثين والباحثات لدراسة تاريخ البارزات من النساء الباقيات على قيد الحياة خلال هذا القرن؛ وخصوصًا السنوات الأربعين الماضية، فمن خلال بناء تواريخ هؤلاء النسوة وتحليل مذكراتهن الشخصية وتحليل خبراتهن وتجاربهن الدعوية والسياسية ومصادر تعليمهن وتوصياتهن لتطوير العمل، مع جمع أي مناهج أو مذكرات داخلية أو وثائق أو رسائل أو تنظيمات إدارية أو محاضرات مكتوبة أو مسموعة أو مرئية وآثارها عليهن، قبل أن تضيع كما ضاع غيرها الكثير؛ سواء كن أُستاذات بالجامعة أو داعيات أو ناشطات أو مسؤولات.
وأخيرًا: نحن بحاجة لتصميم معايير ومؤشرات مختلفة تُقيّم حقوق وواجبات المرأة وأدوارها وأدوار الدولة ووظائفها لتحقيق ذلك. ونقيس بها التقدم في تحقيق ذلك.
الهوامش
- انظر هذا المقال السابق للكاتب لتتعرف على النماذج التي يقصدها. ↩︎
- عثمان، فتحي. حقوق المرأة في شريعة الإسلام وتاريخه. مجلة المسار، العدد الثالث، 2000م، مركز التراث والبحوث اليمني، ص9-10. ↩︎
- رؤوف، هبة، المرأة والعمل السياسي، مرجع سابق، ص 92. ↩︎
- المرجع نفسه، ص92. ↩︎
- المرجع نفسه، ص165. ↩︎
- المرجع نفسه، ص196. ↩︎
- فالمتتبع لنظم التربية والتعليم في مراحلها المختلفة والأدوار التي قامت بها وزارات الثقافة والإعلام ومراكز تأهيل المرأة والمؤسسات التي أنشأت للاهتمام بها والأحزاب أو المنابر السياسية والمجالس النيابية والمحلية التي احتضنتها وجعلتها من ضمن أعضائها وقياداتها سيجد دون كثير عناء أن ذلك كله كان ديكورًا فارغًا من الجوهر لم يؤد لبروز امرأة واحدة قديرة على غرار سيدات بيت النبوة أو المهاجرات والأنصاريات في عصر النبي والراشدين في أدوارهن الباهرة في بناء دولة الرشد. ↩︎
- حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء نسبة مشاركة النساء فى الانتخابات الرئاسية 2024 60% حيث قدّرت أعداد النساء اللاتي يحق لهن التصويت فى الانتخابات بحوالي 26 مليونًا، بنسبة 48.5 % من أعداد الناخبين، بينهن حوالى 15 مليونًا من الشابات، وحوالى 11 مليونًا من السيدات كبيرات السن. ↩︎
- مثل: منى أبو الفضل، نادية مصطفى، هبة رؤوف عزت، فاطمة حافظ، وغيرهن كثير. ↩︎
- رؤوف، هبة. المرأة والعمل السياسي، مرجع سابق، ص117. ↩︎
مقال رائع يعبر عن مشاكل جسيمة تواجه الأمة الإسلامية