رأينا في الموضوع السابق أوجه الشبهة بين الخيانة خلال الثورة العربية الكبرى وما تلاها من لطمات للأمة الإسلامية مرورًا بسايكس بيكو، ووعد بلفور، وتقسيم فلسطين 1947، وصولًا إلى اتفاقية السلام. وبين ثورات الربيع العربي وما تلاها.
إن أقل ما يُقال عن حقبة الثورة العربية الكبرى أنها حقبةٌ افتقدتْ للرجال الأفذاذ، وكيف يكون لها هذا النوع من الرجال وهي مُهمِّشةٌ للعقيدة والمبادئ الأصيلة في ديننا الإسلامي، لقد كانت ثورةً تُساس-بِرضى أصحابها-من بريطانيا الحليفة الأهم والأعز! لقد كانت تاريخًا مظلمًا ملطخًا بالخيانة والقهر. صفحاتُه تقذف بنا إلى حالاتٍ من الحزن والأسى لا نُلام عليها ولا نُغبط لها، كيف لا وقد كلَّفتْنا ثمنًا باهظًا جدًا ما زلنا ندفعه إلى هذا اليوم! أهكذا يُخدع عاقلٌ من البشر فكيف بمؤمنٍ يحمل في يده مشعل القوة والبصيرة والفراسة وكتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم… هكذا مع الأسف كانت ثورةً كبرى وهكذا دُنِّست بالخنوع للغرب.

فلسطين نور وسط ظُلمة الخيانة
وحتى لا نظلِم ذلك النور الذي بدا من مشهد هذا الركام، فإن ثورات فلسطين التي قامت بقيادة قادةٍ شرفاءَ أمثال عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني وغيرهما من أفذاذٍ، والتي وُئِدت بأيدي العرب وخيانات قادة العرب رغم التأثير الكبير لهذه القوة الضاربة في الأرض، المتنامية في الحجم والمتزنة في التخطيط والعمل، المُزعزِعة لآمال اليهود وحلفائهم والتي لولاها لما احتفظنا ببعض الأرض إلى يومنا هذا. لندرك كيف تكون بركات القوة والثبات على العقيدة وإن حوصرت تلك القوة أو نُهبت أو أُجهضت. فإن هذه الثورات الجهادية كانت الحلّ الوحيد لمغتصِب الأرض والحق لو أنها استمرت.

ولا شك أن قادة العرب كان لهم أسوأُ دورٍ وأبشع خيانةٍ، تمامًا كما هو حالنا اليوم، كان السادات عرَّاب تلك الفترة، فرغم سُخط الشعوب الذي اشتعل على موقفه من رحلته الخائنة لليهود كان يحتاج لبضع سنين فقط ليصبح أمرًا مستساغًا وليسير أكثرُ العرب بعد ذلك في ذات طريق السادات على رأسهم قادة فلسطين من علمانيين وغيرهم يسابقون لعقد المعاهدات مع اليهود، بل وفتح السفارات والتعدي إلى العلاقات الودية الثنائية والمصالح التجارية.
فأضحى مصطلح السلام والتطبيع والتعايش مع إسرائيل مفخرةً تشدو بها صفحات الإعلام بلا خجلٍ بعد أن كانت تصِمُه بالخزي والعار، ونسي الجميع قصة الصفعات المتوالية وخيانة أعدائنا المتكررة في التاريخ ماضيًا وحاضرًا. وهذا الترويض هو الذي يحاولون فرضه على واقعنا اليوم… هذا الأسلوب في الإخضاع والاستغفال هو الذي يريدون منا التسليم به اليوم… أفليس حَريًا بنا أن نحذِّر تلك الحكومات التي ترفع شعار النصرة لثوراتنا في حين أنها تُجري المحادثات السرية مع اليهود، وولاؤها للشرق والغرب من دون المسلمين، ولا تخطو خطوةً إلا لامتصاص غضب الشعوب وترويضها، وكما يُقال فإن أكثرهم صراخاً، وأعلاهم صوتًا أشدُّهم عمالةً وأعمقهم ولاءً.
عِبرٌ ظاهرة فهل من مُجيب؟
فأيها الثوار أيها الشعب المكلوم المضطهد المستهدف، إن العِبر ممتدةٌ عبر التاريخ نتوارثها جيلًا بعد جيلٍ، وأمةً بعد أمةٍ، قد تواترتْ لتؤكد لنا صفات الخيانة والغدر والدسائس والمؤامرات والعلو والاستكبار التي يتصف بها أعداؤنا من يهودٍ ونصارى، فلا تقبلوا بوعودهم الكاذبة ولا تخضعوا لاستغفالهم الفاضح، ولا ترضوا بمنظماتهم الغادرة، وإن طال أمد الصراع. لا تمدوا يدًا لأممٍ متحدةٍ ونظامٍ عالميٍّ فاسدٍ يقوم على عقلية اليهود والنصارى لا يبصِر إلا حقوقهم ولا يمكن أن يحمي حق مسلمٍ واحدٍ على الأرض، يقصفوننا عيانًا، ويخرقون الهدن جهارًا وينصرون الرافضة مرارًا، ثم يقولون نريد سلامًا سلامًا…
إن أول خطوةٍ لعلاج أزماتنا هو أن نشخّص الداء دون مجاملةٍ أو مواربةٍ أو تبعيضٍ، علينا أن نغوص في تاريخنا وتجاربنا الناجحة والفاشلة على حدٍّ سواءٍ لنستخلص اللآلئ والعبر فإن لم نفعل فلن نستطيع أن نقدم علاجًا البتة وسنعيد ذات أخطائنا بالأمس ونتلقى أكثر اللطمات إيلامًا. ومن ذا يرضى أن يصفه التاريخ بالمغفل أو الأحمق وهل يُلدغ مؤمنٌ من جحرٍ مرتين! فكيف بمن يُلدغ مراتٍ ومراتٍ ولا يتوب!
لقد سقطت المنظمات الدولية التي تدعي الديمقراطية والحريات للشعوب، سقطت برامجها الكاذبة وشعاراتها المخادعة، وفضح الله مَكرها وكيدها وخُبثها وما من أحدٍ يثق بها…
أين السبيل؟
لم يبق إلا طريق القوة والأقدام الثقيلة التي تنتزع الحق بسواعدَ مؤمنةٍ، وتفرض المسار الذي نريده نحن رغم أنف أممٍ متحدةٍ، فدعونا من الخطط والسياسات الفاشلة، دعونا نثمِّن وقتنا، ولا نضيع لحظاتنا التي هي الأثمن على الإطلاق… دعونا نزيل الركام عن ذلك النور ليسطع بقوةٍ وينير الأرض ولا نخذِله فيكتم أنفاسَه الغربُ.

لقد غصنا في أعماق التاريخ لنجده تمامًا كواقعنا الحاضر، فلا تنتظروا أن يُقيِّض الله لهذه الأمة نور الدين أو صلاح الدين لنسترجع أرضنا المباركة ونحن مُصِرُّون على الابتعاد عن ديننا والانشغال بالخلافات بيننا، إننا بهذا الشكل لن نعيد حقًا ولن نغيِّر واقعًا! ولكن لنتفقْ على أمرٍ واحدٍ على الأقل، هو أن:
السبيل لحفظ بلادنا من خياناتٍ جديدةٍ وغدرٍ أكبر، أن نذعن لحقيقة أن تكرار تجارب الماضي، ضَياعٌ وعَبَثٌ وأن التعامل مع قاضٍ جلادٍ لهو بئس الفعل وأن الغرب لن يقدم لنا أقل من سايكس بيكو جديدةٍ ووعد بلفور جديدًا ومعاهدات سلامٍ جديدةٍ وصفعاتٍ متواليةً مهينةً…
وكما أكَّد لنا التاريخ أن أعداءنا قومُ خيانةٍ وغدرٍ … أكَّد لنا أيضًا أن طريق النصر هو طريق نور الدين وصلاح الدين وعز الدين القسام إن لم يُجهَض بالخيانات والترويض للشعوب. فاعتبروا يا أولي الألباب.