الأوطان بين احتلالين… محليٍّ وأجنبي
بقيت فكرة «الاحتلال» كامنة في عقول الشعوب بتصورها على أنها عملية هيمنة خارجية عسكرية في الغالب على البلاد المحتلة، وما يصاحبها من توسع المحتل داخل أراضي البلاد المحتلة واستعباد أهلها، فهذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن الإشارة إليها في الغالب بأنها حالة احتلال، لكن على مر التاريخ تطورت فكرة الاحتلال بطريقة أكثر خفاء، لغاية خطيرة وهي عدم استثارة الناس لدفع وطرد المحتل.
فالشعوب عندها قابلية أكبر لمقاومة المحتل الأجنبي، لكونه أجنبيا لا ينتمي إلى دين البلد وثقافته ولغته وجغرافيته، لكن ما هي ردة الفعل إذا كان المحتل محليا يدعي الانتماء للبلاد؟ وكيف هي ردة الفعل خاصة إذا أصبحت عملية الاحتلال مركبة بوجود محتل أجنبي يوظف محتلا محليا للقيام بشؤونه؟ وأيهم أخطر: الاحتلال المباشر أو الاحتلال عبر وسيط محلي موظَّف؟ وكيف يمكن العمل على الاستقلال منه؟
من هو المحتل المحلي؟
قد يتبادر للذهن مع بداية الحديث عن المحتل المحلي أنه الحاكم المستبد، لما يحمله الاستبداد في طياته من صفات الظلم والطغيان التي تقمع نبوغ الشعب وتبث فيه السلبية وتنزوي به إلى زوايا القعود عن طلب الحقوق، لكن الاستبداد هو أحد صفاته فقط؛ لأن الاستبداد قد يقع من حاكم يجمع مع استبداده القيام بمعاداة الاحتلال الأجنبي، لكن المحتل المحلي هو امتداد للمحتل الأجنبي، امتداد محلي يخفي أجنبيَّةَ فكرةِ الاحتلال؛ فهو رغم حربه المتواصلة والخبيثة على الدين، وتبديله لشرائعه، إلا أنه يخاطب الشعب خطابا دينيا، ويرعى مؤسسة دينية رسمية تقوم بدور الشَّرْعنة لحكمه وتعمل على إيجاد سطوة روحية على الشعب، بل قد يبني أكبر المساجد وأكثرها بهرجة، ويظهر على التلفاز الرسمي في الاحتفالات الدينية ويُرى في الصف الأول في صلوات العيد.
إن المحتل المحلي يتحدث لغة القوم ويتندر بلهجتهم العامية، في الوقت الذي يسهر على انحلال ثقافة الشعب في ثقافة المحتل عبر رعاية النخب التي أُشربت هوية المحتل الأجنبي، ويبكي على فقر الشعب في الوقت الذي يُمضي فيه على عقود نهب ثرواته لصالح المحتل الأجنبي، يرفع شعار السيادة والاستقلالية في الوقت الذي يُخضع الجيش لتبعية المعونة الأجنبية ويسهر على نفاذ اتفاقيات الاستسلام، يعلن خوفه على أمن الناس في الوقت الذي يشيد السجون التي تغصُّ بخيرة القوم وصفوة عقولهم، يدعي حمايتهم في الوقت الذي تسهر قواه على إرهابهم وتخويفهم.
أشد ما يخشاه المحتل
وقد يخاف المحتل المحلي.. نعم، حتى عندما يستتب له استغفال شعبه وانقياد جزء كبير منه يخاف؛ لأنه يعلم أنه موظف مِن الأجنبي، الأجنبيِّ الذي لا يظهر سروره بما يقدمه المحلي، ليبقى في حالة لَهَثٍ دائم يسترضي أسياده بمزيدِ قمْع ومزيدِ تفْريط في ثرواتٍ ومزيدِ تقديمٍ لفروض الطاعة.
حتى إن المحتل المحلي يخشى أن ينافسه أحد في وظيفته إذا قدَّم عروضا أكثر إغراء للمحتل الأجنبي منه، وفي هذا الإطار يمكن فهم طبيعة التنافس السياسي في بلادنا، الذي يؤول أمره إلى انقلاب أو انتخابات ديمقراطية ترعاها الدول الأجنبية ومؤسساتها لصعود المنافس الجديد، لذلك تجد المحتل المحلي يبطش حتى بمن يتوجهون نفس توجهه أو يمكن أن يعول عليهم في تلك الوظيفة.
لكن أشد ما يخشاه المحتل المحلي هو امتلاك الشعب للقوة، امتلاكه للسلاح، سواء سلاح الوعي أو سلاح الدفاع عن الحقوق، أما سلاح الوعي فيخشاه لأنه عقبة في طريق إخضاع الشعب وانقياده انقيادا أعْمى؛ فإشاعة الجهل والإغراق في الملذَّات الهابطة والملهيات هو تخدير متعمَّد لطاقات الفطرة والكرامة والحرية لدى أي شعب، ما يجعله يختار اختيارا طوعيا الركون للمستبد والتسليم للمحتل، أما سلاح الدفاع فإن المحتل المحلي يخشى الشعب المسلح أكثر من خشيته العدوَّ الخارجي، وهذا لطبيعة الوظيفة القائمة بذمته، فالشعب الأعزل يمكن معالجته بالوسائل العسكرية التي هي موجهة إلى الداخل لضبط الشعب، وبالوسائل القمعية التي يردع ترهيبها الجماهير، لكن الشعب المسلح يملك متى شاء القدرة على قول كلمة؛ لا، ويصبح وقع الـ«لا» حينها مدويا لأن سلاحه ضمان لعدم طغيان الحاكم، فضلا عن احتلاله للبلاد احتلالا محليا.
مبررات الاحتلال المحلي
كما وجد الاستبداد طريقه للبقاء على كاهل الشعب بمبررات مختلفة، ووجد الاحتلال الأجنبي كذلك من يبرر بقاءه، فإن الاحتلال المحلي صنع لنفسه آلة تبرير متشعبة تعمل على استدامة حكمه بصناعة هالة من الشرعية الزائفة لتثبيت ركائز الكرسي.
إن مبررات الاستبداد عادة ما تكون داخلية، كما تكون مبررات الاحتلال الأجنبي خارجية، وقد تلحقها في ما بعد مبررات المهزومين من الداخل، لكن مبرِّرات الاحتلال المحلي -خاصة في عصرنا الحالي- تنقسم إلى قسمين: قسم خارجي وقسم داخلي؛ يكمل كل واحد منهم الآخر.
- القسم الداخلي: هو ما يسخره المحتل المحلي من وسائل تبرير، كعلماء السلطان الذين يحرفون الأحكام الشرعية ويعيدون توجيه إرادة الجماهير بما يضمن استقرار حكمه، وبالتالي بما يضمن بقاء الاحتلال الأجنبي، ويبررون بالتالي كل ما يقترفه المحتل المحلِّي من تبديل للدين وموالاة للأعداء وتسهيل نهب أموال الشعب وسرقة قوت الفقراء والبطش بالمعارضين وانتهاك حرمات المستضعفين.
- القسم الخارجي: هو الشرعية التي تضفيها الهيئات السياسية الدولية للاحتلال الأجنبي على الاحتلال المحلي، فبدون اعتراف هذه الهيئات بالمحتل المحلي لن يملك سلطة يمكن أن يمارس بها صلاحياته، ولا وظيفته التي هو هنا من أجلها، وبدون ذلك الاعتراف سيملك قشور سلطة لا صلاحيات واقعية لها على الأرض.
كما تمثل الآلة الإعلامية ركنا مهما من أركان جهاز تبرير حكم المحتل المحلي، فعن طريقها تمرر رسائله للشعب، ويقتنع الناس بالأوهام التي يبثها بطرق مختلفة، تتشابك فيها البرامج السياسية مع المسلسلات الدرامية الرمضانية والسينما.
لماذا يفضل أعداؤنا توظيف محتل محلي؟
إن توظيف المحتل المحلي يوفر على المحتل الأجنبي عناء كبيرا وتكلفة باهضة، فالشعب ينفر بطبيعته من المحتل الأجنبي، ويستثير وجوده بينهم مشاعر الجهاد والمقاومة، وتصبح أهدافه قريبة في متناول الشعب، هذا ما يضاعف المجهودات التي على الأجنبي أن يبذلها لضبط وإدارة البلاد المحتلة، لكن بتوظيف المحتل المحلي تتحول المعركة إلى صراع داخلي، يتحمل فيه المحتل المحلي مؤونته بدون خسائر بشرية أو مادية أجنبية كبيرة، في مقابل ما يتم اقترافه من مجازر دموية ومن تغفيل للشعب عن الثروات المنهوبة ومن إخماد جذوة المقاومة باستهداف محركاتها الأساسية المتمثلة في المبادئ المنبثقة من الدين الحنيف مقابل إشاعة دين جديد يخدر الشعب ويرضى عنه المحتل الأجنبي ويشجعه.
كما أن للشعوب قابلية أكثر للركون للمحتل المحلي، وفرصةُ استتباب الأمر للأجنبي عن طريق موظفيه أكبر من مغامرات الاحتلال المباشر، بل قد بلغ الأمر رعاية البلاد المحتلة بإقامة قواعد عسكرية أجنبية فيها، يقوم على تشييدها وحمايتها المحتل المحلي بنفسه، بل بلغ أن وقع تسعير الثروات المحلية بعملة المحتل الأجنبي1، وتسعير الممرات البحرية بتلك العملة، كيف للمحتل الأجنبي أن لا يرى هذه الاستراتيجية فعالة بعد كل هذه الخدمات؟
لقد أدرك المحتل الأجنبي أن ما يمكنه تحقيقه عبر موظفيه المحليين يفوق بأضعاف كبيرة ما يمكن تحقيقه عبر الاحتلال المباشر، لهذا هم حريصون على إيجاد هذا المحتل المحلي أو صناعته في كل محاولةِ احتلال لأيِّ بلد من البلدان.
سبل تجاوز عقدة المحتل المحلي
كما أسلفنا فإن الاحتلال عبر توظيف محتل محلي هو صورة ونموذج مركب للاحتلال، وعلى الشعوب الحرة العمل على الوعي بحقيقة الصراع حتى لا تلتبس الأمور، وذلك عبر النظر في واقع الاحتلال كوحدة واحدة، نظام واحد يدار بتنسيق مشترك بين المحتل الأجنبي والمحلي لتحقيق غايات الاحتلال، فلا فرق بين المحتل الأشقر والمحتل الأسمر، ولا فرق بين ممارسي الاحتلال إذا كان اسم أحدهم أعجميا والآخر عربيا.
إن إدراك أننا نحيا تحت الاحتلال المحلي -إدراكا القصدُ منه الحركة- يمكنه أن يزيل الحجُب التي صنعها المحتل الأجنبي عن طريق موظفه المحلي على عقول الجمهور، ويكشف صورة الواقع على حقيقتها.
فإذا أدركنا -إدراكا فعالا- أننا نعيش في محميات جغرافية يحكم كل مقاطعة فيها محتل محلي، وتجلت لنا الصورة وراء الحجب عن وحدة الاحتلال الخارجي مع المحلي، علينا حينها أن نتحرك خارج محددات الاحتلال، برؤيةِ عملٍ تراعي طبيعة كل احتلال منهما، وتتعامل مع كل عنصر من العناصر بما يوازيه من عمل، وما إن يحدثْ أوَّلُ خدش في جدار منظومة الاحتلال، حتى تبدأ نسائم الحرية في التسرب من خلاله، تلك الحرية التي يهتف بها ضمير أمة تكالب عليها المحتلون.