أين نحن الآن؟
لا ريب أن البلاء الذي تمر به الأمة شديد بل مزلزل، والأثر الذي يُحْدِثه في القلوب والعقول لا ريب أنه قوى وعميق كذلك. غير أن أشد الآثار وأعظمها على فئة الشباب المؤثرين في حاضر الأمة هي الفتنة في الدين، والسقوط المريع في بحر الشبهات المظلم.
لماذا حدث لنا هذا؟ وما الخير فيه، ولماذا ينتصر الباطل على الحق إلى الآن؟!
قرأت بعضًا مما كتب الآخرون إجابة على تلك التساؤلات وأمثالها لكنك أحيانا لا تشعر بالكلمات إلا حين تحضر أمامك حية في بعض المواقف أو أثناء التطواف هنا وهناك، لذلك فقد بدا لي وأنا أتابع بعضًا من الكتابات أن ما جرى هو من تربية الله لنا وإصلاحه لهذه الأمة.
إذا ما تأملنا أحوالنا، أفكارنا، ثقافتنا، وما أراده الله منا ولنا سنجد ذلك البون الشاسع الذي يجعل البعض يستحضر تلك المقولة (مسلمين بلا إسلام) فهل كان من الممكن أن تقوم للإسلام دولة تمثل حقيقته وقيمه وتعبر عنه على هذا الركام الذي تكاثر واستقوى حتى زكم الأنوف برائحته؟
هل كان الانتصار الزائف ليغير شيئا من عادتنا التي لا علاقة لها بمنهج الله من قريب أو بعيد دون أن تكون هناك هزات قوية تجعلنا نتساءل مرة بعد أخرى ونلح على الله أن يبين لنا الطريق؟
مجتمعاتنا التي انهدمت فيها قلاع الحق واحدة إثر أخرى لأننا انشغلنا عنها ولم نقم على حراستها وترميمها لتظل حامية لثغورنا، هل كانت هي مجتمعات الخير والنور التي تسرج أنوارها الفتية لتضيء المشارق والمغارب؟
لقد مضى على الناس أزمنة يقولون بألسنتهم أنهم يتبعون دينًا ربانيًا يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وتأبى أفعالهم إلا أن تقول إنهم يتبعون أهواءهم ومصالحهم، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. مضى على الناس أزمنة يشار فيها إلى بلادنا ويقال إسلامية ويرى الآخرون أن أولئك المسلمون غارقون في جهالة وسوء خلق وبعد عن المقاصد، فرأوا الإسلام شرا كله لا يغري أحدا بالدخول إليه إلا من عرفه من مصادره الربانية. ومضى على الناس أزمنة ظنوا الخنوع والذل والرضا بأحوال العبيد هو أمر الله واختياره لخلقه، فراحوا يألهون كل طاغية ويرمون بالكفر والفسوق كل من رام تحررا وانعتاقا.
ولن يتسع المقام تقصى كل ما أصابنا وكل التدهور الذي صرنا إليه خلال أزمنتنا المتأخرة.
الجميع أصابته تلك الأمراض بمن فيهم أولئك الذين يريدون وجه الله، بمن فيهم نحن الذين نخط بعض كلمات نظن فيها الصدق وتحرى الحق، ففينا من هو مخلص لكن مقدار علمه لا ينهض به ومنا هو مخلص ولديه من العلم ما يرفعه لكنه لا يجيد دعوة الناس إلى ما يعرف من خير ورشد، ومنا صاحب العلم والدعوة لكن همته لا تنهض به للدفاع عن حق أو القيام بواجب، وغير ذلك مما يسوء ويكبر ويعظم.
أما الآخرون فقد بعدوا جداً، لدينا مَن لا يعرف مَن نحن، ولا لماذا أتينا إلى الدنيا، منا من لا يحسن فهم لغته فيتوه ويضل، ومن غرته نفسه فرآها الإله الذي له الحكم والأمر.
أما تلك القلة التي اختارها ربى فنجت من تلك الأمراض المهلكة، وكانت في سيرتها مثالا على ما يريد الله من عباده، فهي دليلنا على أن الخير لا ينقطع من الأمة وإن أظلتنا السحب الداكنة، وهي مبعث اليقين بأننا قد نصل يوما إذا ما سلكنا الطرق الموصلة.
إن ما جرى من حراك وأعقبه من تنكيل أفضى إلى سكون ويأس إنما هو حالة من اليقظة، وحركة مدافعة كانت تنقصها الكثير من المهارات وفهم القواعد، لكنها حركة أحدثت هزة وأثرا فيمن كانوا قبل نائمين لا تحركهم الأحداث، وقد أعقبها تفكير ومحاولة للفهم ورغبة في المعرفة الواعية، لذلك علينا أن نكون أكثر أملا وأكثر بذلا وأن نوسع دائرة النظر والعمل فلا تخنقنا لحظات الألم الآنية.
قد يبدو من الكلام أننا نقول إن ما نحن فيه من ظلمة وسواد سوف يُصلح حالنا تلقائيا وسيسير الناس سيرا حثيثا إلى التزام الحق والعدل وإلى نزع أردية الغفلة والتهاون والقيام بكل مطلوبات الإصلاح والنهوض من الرقاد.
ليس الأمر كذلك بالضبط ولكن الأرض والحياة البشرية ليست أيامنا نحن فحسب، إنما هي مراحل يقود بعضها إلى بعض، فكما قامت هبات في بلادنا أو أنصاف ثورات كانت نتيجة وعي وجرأة ومحاولات إصلاح بذلها السابقون؛ الآن يُظهر كلٌ ما لديه، طيبا كان أو خبيثا. الآن تخرج أثقال طالما جسمت على نفوس أصحابها، يخرج ذلك كله، فيفسد به من ليس في قلبه ذرة من خير، ويجاهد بالكلمة من لديه العلم والفقه، ويحدد الداء ويلفت النظر إليه من كان باحثا أمينا، وينطلق عاملا مرابطا منتجا من عرف دوره وكان صاحب عزم وقوة.
وهكذا فإن هذه البراكين التي تغلى وتفور، التقلبات في الأفكار والتوجهات، المراجعات المضنية صغيرها وكبيرها، كل ذلك سيستمر ويمضي بالناس يسوق باطلهم إلى حتفه ويبرز الحق الصريح إلى مكانه الصحيح حتى تغدو الأرض أو يغدو قِسما من أهلها أهلا لانتصار الحق وحمل لوائه ونشره بين العالمين.